إثيوبيا بلد الأشقاء 4

كانت إعادة قراءة تاريخ المنطقة، ومحاولة استكشاف “الأنماط التاريخية” لتطور القبائل والشعوب والكيانات السياسية فيه، أمرًا لا شكّ في اهميته، وهو ما يستوجب مراجعة لدقائقه، ومحاولة استخلاص العبر، ونقل تلك المعرفة بصورة شفيفة، وطرح ما تم التوصل إليه على مستوى المهتمين بصالح أبناء القرن الإفريقي دون تحيز أو تمييز، مع السعي نحو مصارحة لا مكان فيها للتحامل أو الشيطنة أو التنميط!

دروس التاريخ المهدرة!

إن التاريخ علمنا أن الصراعات الداخلية إن على المستوى القومي الصومالي، أو مع الكيانات السياسية التي تحوي ضمن حدودها أراضي سكّانها صوماليون، لم تكن تسدي أي خدمة تذكر لنا نحن، كما أنّها ترسّخ الجراح التي أبدع الصوماليون بسبب طبيعتهم في التعافي منها، إلّا أنّ ندبها من الصعب أن تُمحى عن أذهان ما حولنا من قبائل وقوميات تختلف عنّا، لا لشيء سوى لاختلاف أساليب العيش، وما كان يلي كل مرحلة صراع من انعزال وجفوة بين المكون الصومالي والمكونات الشقيقة الجاورة له، خارج حدود جمهورية سنة 1960م، وهو ما كان يخلق حالة من الارتياب والتوجس، بما لم يدع مجالُا للاستفادة من دورس التاريخ التي كانت تأخذ أيدينا، نحو اليقين بأن حالة العداء والحرب أكبر هدية نقدمها، لجهات داخلية متطرفة وعنصرية داخل القرن الإفريقي، تعتاش على مآسينا، وتقدمنا على طبق من ذهب لأطراف خارجية، قد لا يضيرها فناؤنا جميعًا، مادام كان ذلك يقدم لها أوراق قليلة الكلفة، تزيد نفوذها وثروتها على مستوى نطاق اوسع يشمل قارتي إفريقيا وآسيا، وعليه فإن دروس التاريخ التي يدفع بها الضجيج إلى زوايا الصمت في عقول الحكماء، وبين دفات الكتب والدفاتر يجب أن تخرج إلى النور، لنستفيد منها ويتم وضع حد لحالة الهدر التي أعتيد التعامل معها بها.

يقين يجب أن يترسخ!

إننا نحن الصوماليون مُطالبون بتجاوز سريع لحالة التمسك بالبداوة، التي تسعى للهروب إلى الأمام، من صنوف الأذى والمعاناة، والذي يحمل في طياته أصناف التوعد للآخر بالويل والثبور، والانتقام الأسطوري، في حالة ثأرية مريرة يكون تدمير الذات ثمرة حتمية لإفناء الأعمار والموارد نحو الثأر.

وعليه فإن استبدال تلك الحالة من “البداوة الذهنية”، إلى وضع أهداف لصيانة ما تعرض للأذى، وإزالة كافة آثار الماضي الناضح بالصراع، قد يؤدي بنا سريعًا لأن نمنح أنفسنا برهة ضرورية لتركيز الجهد نحو البناء، ليس فقط البناء المادي والتقدم المحسوس على المستويات الاقتصادية والمعيشية، بل إعادة بناء اليقين بأن توجيه طاقتنا الهائلة، وكل العبقرية والثقة والمبادرة التي يحملها الصومالي، نحو تصحيح الأوضاع بين فئات مجتمعنا الواحد، داخل جمهورية الصومال، وعبر الحدود، وكذلك بين المكون الصومالي في مناطق التماس مع القوميات والشعوب المحيطة، كل ذلك سيسمح بان نصبح عنصر استقرار بما يضيف إلينا ما تحقق لنا من رصيد كوننا عنصرًا يضخّ الكثير من التطوير والتقدم للعناصر البشرية التي حرمتها ظروفها مما حظي به الصوماليون من انفتاح واحتكاك بعناصر بشرية، تعامل معها منذ قديم في سلمه معها تجارة وتعليمًا وتقنيات، أو في حالة الحرب من تحالفات وخبرات ودروس وعبر، وذلك اليقين الموجود لدى فئات عريضة من الصوماليين، هو ما يجب أن يُطرح علنًا، كما يجب ان يترسّخ، وأن لا نقف حياديين تجاه من ينادي بخلافه.

عزلة مثيرة للشفقة!

لقد كان الصوماليون وخلال القرون العشرة الماضية، عنصرًا مهمًا وأساسيًا في كل التقدم الذي شهدته المنطقة، كما كانت ردود أفعال قياداتهم عاملًا مساهمًا بنصيب وافر، في كمية النكبات التي حوّلت بلادهم التي تشغل ثلث القرن الإفريقي، والقرن الإفريقي ككل لنطقة يعجز أبناؤها عن بناء ما يمكنهم من مقاومة تقلبات المناخ والعوامل البيئية، وتركتهم عرضة للقتل والنهب والجهل والمرض والجوع والفاقة.

تلك الحالة العسيرة التي خلقها الصوماليون بالشراكة مع الكيانات السياسية المحيطة بهم، جعلت الشعور بالاضطهاد والخوف والكره حالة مزمنة، تشعر جميع الأطراف القاطنة في القرن الإفريقي، مثقلة بمظلومية تجترها حيال ما هو سواها، بحيث أصبح الموروث الشعبي حالة ممسوخة، من اجترار الألم والخوف والغضب، وهو ما يعيق كل محاولة للتواصل الإنساني الطبيعي، بل ويجعل الحالات المحدودة ـ نسبيًا ــ من التداخل والترابط، منظورًا إليها من قبل أطراف التناقض ـ المفتعل ـ، على أنها خيانة أو اختراقًا لا يمكن غفرانه، وهو امر مثير للسخرية في حال النظر لسلاسل النسب والرحم بين مكونات القرن الإفريقي التي تتداخل من أدغال الجنوب السوداني وحتى قمم الساحل الصومالي، ومن بحيرات الشمال الكيني، حتى الحدود المصرية السودانية، وهو ما يجعل حالة العزلة المفتعلة التي يعيشها الصوماليون، وهمًا مثيرًا للسخرية والشفقة!

التصالح مع الذات قوة!

إن الدور الذي ندفع بوجوب الصوماليين لعبه في المنطقة، سواءًا ضمن كياناتهم السياسية، أو ضمن الكيانات التي تشاركوها مع من هم سواهم، دور كبير ومهم وضامن لاستقرار ليس فقط بلادهم، بلد لبلدان يبلغ مجموع سكانها أكثر من مائة وخمسين مليون إنسان، وهو استقرار طبيعي وإجابي قد يخالف ما ترجوه قوى من حولنا، سوى على مستوى أقاليم قريبة أو على مستوى عالمي، تسعى لأن تبقى نظمنا السياسية مستدمة شرعيتها ومواردها عبر تسول الدعم وتوسّل القبول في المحافل الدولية، رغم إمكانية تحقيق تلك الشرعية، وفرض الاحترام من خلال ما يمكننا تقديمه نحن أبناء القرن الإفريقي والقارة ككل، لأنفسنا وللإنسانية، والآمال المعقودة على أبناء القرن الإفريقي كبيرة، وهي ذات الآمال التي تستدعي وضعهم في أوضاع حرجة لا يمكن لقادتهم خلالها سوى الإختيار بين “سيء” و”أسوأ” وتلك حلقة يجب ان تُكسر، وأول خطوات ذلك هو التصالح مع الذات، والتصالح مع الجميع، ليمكن فتح حوار لا يدع مجالًا للتخوّف وانعدام الثقة، مع اعتماد الحكمة وتجاوز الحالة الانفعالية التي سادت العلاقات، وجعلت الشطط والمبالغة في صور الصراع والتنكيل سمة ملازمة له.

دفن الأحقاد والموتى!

على مدى خمسة قرون، شهد الصوماليون من يجاورهم من شعوب وممالك، صراعات غاية في القسوة والحدة، رسّخها الخطاب السياسي الشعبوي، لنظم أرادت إخفاء عجزها عن بناء فكر حضاري، يوحد الشعب تحت رايتها، بتوجيهه نحو عدو يضمن حشد الجميع ضمن “حظيرة” العداء، والوعيد والاستنفار والتباهي بالرغبة في تدمير الخصم وإن ادّى لتدمير الذات، منذ حروب سلطنة “عدل-إيفات” مع ملوك الحبشة، حتى تخرصات قادة حركة المحاكم الإسلامية، واستغلال النظم الحاكمة للحبشة سابقًا، وإثيوبيا لاحقًا إلى التنكيل بالصومالي ودفعه إلى القتال حتى النهاية، في محاولة لكسب تعاطف الغرب “روما” في الماضي، و”واشنطون” في عهد “ملس زيناوي”، وهو ما ترك آثارًا متجددة لا يمكن إزالتها بسهولة، لكن يجب “التعامل” معها، بحيث تفتح الطريق أمام مستقبل أفضل للجميع، تكون بدايته بأن يدفن الجميع أحقادهم، كما دفنوا شهداءهم وقتلاهم!

زر الذهاب إلى الأعلى