إثيوبيا بلد الأشقاء 3-7

مر بنا في الحلقة الماضية ما يمكن اعتباره، ملامح تشكيل للوعي لدى شعوب وقوميات القرن الافريقي، ذلك الوعي الذي ارتكز أساسا على اعتبار الآخر المجاور منافسا، وما حدث من تطور في فكرة (التنافس الطبيعي)، نحو خلق خطاب أكثر تطرفا، يعتبر الآخر ليس فقط منافسا يزيد تعقيد الظروف الصعبة على الأرض، بل تم ترقية حالة التنافس إلى حالة من “الهوس”، القائم على اعتبار وجود الآخر وإستمراره خطرا نهائيا على وجود (الذات)، تلك الذات التي كانت مبنية أساسا على (تسويات)، كذات التسويات الملحة، التي يُعتبر ـ من قبل المعاصرين ـ  رفضها أمرا مبدئيا، لسبب واه ملخصه هو أنها أوسع نطاقا من التسويات القديمة، وإن كان ذلك الرفض لتلك التسويات معيقا راهنًا لحلول السلام، ومؤجلًا لإمكانية منح برهة تتيح تحقيق ازدهار حقيقي يتسع ليشمل الفئات الشعبية الأفقر، والتي تشكل غالبية سكان القرن الإفريقي.

محاولة فهم النسق التاريخي لنشأة الكيانات:

معلوم أن الوجود البشري في شرق إفريقيا والقرن الإفريقي أقصى شرق تلك الرقعة، هو أحد أقدمها على وجه البسيطة، حسب علماء الإنسان والآثار، وفي ظل التسلسل الطويل من تغير العناصر البشرية المقيمة فيه، وتطورها بالتمازج والهجرات والهجرات المعاكسة، فإن من المنطقي اعتبار منطقة القرن الافريقي، من أهم الأقاليم التي يمكن من خلالها، فهم نشأة المجتمعات البشرية وتطورها، خاصة مع تصاعد التأييد للطرح العلمي الذي يؤكد نشأة حرفة رعي الإبل، في القرن الإفريقي، وما كان لذلك من دور في تقدم صناعة النقل، للتجارة واتساع الدول ونهضة الكثير من الحواضر والحضارات.

نشأة كيانات القرن الإفريقي

ارتبطت نشأة الكيانات في القرن الإفريقي شأن نظيراتها في أماكن أخرى من العالم، بعوامل عدة أساسية لقيام مؤسسات حكم، تتجاوز في مركزيتها وتعقيدها النظم العشائرية والقبلية القديمة، تلك النظم القبلية التي كانت خطوة مهمة في نشأة الدولة، انطلاقًا من نمو مجتمعات الصيد وجمع الثمار، التي كانت السائدة في الإقليم حتى الألف الثالثة قبل الميلاد، لتشكّل هجرتان كبريان الصورة النهائية للواقع السياسي في القرن الإفريقي، كانت إحداهما ظهور مملكة رعاة البقر في الشمال السوداني (النوبة) وتأسيس مملكة (كوش) إثر النزوح إلى الشمال الشرقي، بموازاة الـ”بجا” المستقرين قديمًا قديمًا إلى الشرق، اما الثانية فكانت الهجرة المعاكسة التي قامت بها عناصر سامية من جنوب الجزيرة العربية “الحالية”، باتجاه المرتفعات التي سميّت نسبة إليهم بـ”بلاد الحبشة”، مع استمرار تمدد وتراجع العناصر النيلية التي امتدت حتى البحر الأحمر وتنزانيا خلال وإلى الغرب من العنصر “الكوشيتي”، وحدوث فورة جديدة من النمو السكاني للعناصر الكوشيتية القديمة بعد تجدد النشاط فيها، لتعيد ملأ الأراضي التقليدية القديمة، بتغيير طبيعة نشاطها الرعوي، واعتمادها محاصيل شديدة التحمل للجفاف كالـ”سرغوم”، وترافق ذلك مع ذوبان العنصر الـ”أوموتي” بين شقي رحى “الكوشيتيين” و”النيليين” في جنوب إثيوبيا وشمال غرب كينيا.

نشأة الدول القديمة

كان انتقال النظم الاجتماعية من مراحل الصيد وجمع الثمار، إلى الرعي انتقالًا ناشئًا عن تقدم اجتماعي، إلّا أن نشأة الدول القديمة اعتمد على مركزية فكرية “دينية”، تجاوبت مع الاحتكاك الحاصل مع الأمم الأخرى البعيدة نتيجة للتجارة التي راجت في في الساحل الغربي للمحيط الهندي، مرورًا بالبحر الأحمر باتجاه غرب آسيا وجنوب أوروبا.

وقد يكون الواقع القائل بكون منطقة القرن الإفريقي منطقة طاردة للسكان، بسبب حساسيتها البيئية الشديدة، التي أدّت لتغيرات شديدة التطرف في ظروف الطبيعة، بين الرخاء والخصب والجفاف والجدب، أدّت إلى ضخ موجات من الهجرات البشرية القديمة، باتجاه شبه الجزيرة العربية ووادي النيل والصحراء الكبرى، وهجرات معاكسة باتجاه منطقة البحيرات الكبرىن بشكل يسير على ذات النمط التاريخي لنشأة عائلة اللغات الأفريقية-الآسيوية.

سلسلة لا تنقطع

وعلى الرغم من قلة ما تم نشره وقلة البحوث التي تمت حول نظريات نشاة الشعوب والديانات ونظم الحكم الإفريقية القديمة، فإن ارتباط دول كمملكة مصر الفرعونية، وومملكة كوش النوبية، ومملكة بونت، وممالك الحبشة وإمارات الـ”ميدجاويت/بجا”، ومملكة “أكسوم/الحبشة” وجنوب الجزيرة العربية، وصولًا إلى الممالك الأحدث في منطقة البحيرات الكبرى، والمكانة التي بلغتها تلك الكيانات السياسية المتقدمة في عصورها، على المستوى الاقتصادي والسياسي والعسكري والديني، يؤكد روابط حقيقية في نشأتها، خاصة مع تشاركها في عناصر أساسية تتجلّى في المعتقدات والتراتبيات الاجتماعية، موحية بوجود حركة مستمرة في الزمان والمكان، للنخب الرائدة القديمة، ضمنت استمرار معتقداتها كخيط رفيع واضح لا ينقطع، حاملًا موروثًا هائلًا لا يمكن فك طلاسمه بسهولة، نظرًا لتعقيده ودقته من ناحية، وتجنبًا للدمار الذي قد تخلفه مواجهة المعتقدات والتقاليد الأحدث، التي ارتبطت في انتشارها بالمصالح التجارية والاقتصادية الراهنة في كل فترة تاريخية على حدة، منذ الانتقال من مرحلة التنظيم الاجتماعي القائم على الرعي والمقايضة، إلى النظم الاجتماعية المدينية القائمة على الزراعة والتجارة الدولية.

خلاصة القول:

أنّ إعادة قراءة تاريخ منطقة القرن الإفريقي، بامداداتها الشرية والعرقية والثقافية التي لم تصل إلى كل زوايا القارة الإفريقية فقط، بل تتجاوزها إلى جنوب وجنوب غرب آسيا وجنوب وغرب أوروبا، من الأهمية بمكان، بحيث يمكننا كأبناء لهذه المنطقة فهم الصورة الأكبر للواقع، حاملًا معه حكمة كبيرة، يمكنها أن تؤدي إلى درجة أكبر من الوعي، تقودنا بهدوء لنفي أفكار الصراع الحدّي المولّد لكل أشكال التطرف الفكري والتعصّب العنصري من ناحية، ومتيحًا مجالًا أوسع لبذل المزيد من الجهود الإيجابية، بغرض تحقيق نتائج تحول دون الاصطدام المتكرر بقلة الموارد والتهميش الممنهج الممارس ضد مجملنا، وتمارسه كذلك فئات منّا ضد فئات أخرى سواها ضمن نسيجنا البشري العظيم والذي يستحق حمايته وتنميته ببذل كل جهد ممكن.

زر الذهاب إلى الأعلى