خط السكة الحديديـة (الجيبوإثيوبيـة) .. الأهميـة الاقتصاديـة والاجتماعيـة

خلفيـة تاريخيـة:

  • السكـة الحديديـة (الجيبوإثيوبيـة) بين الماضي والحاضر:

تعود فكرة إنشاء خط السكـة الحديديـة الرابط بين جيبوتي وإثيوبيا إلى وقت مبكر من حقبـة الاستعمار الفرنسي وتحديداً في أواخر القرن التاسع عشر، وذلك عند ما أدرك الإمبراطور الإثيوبي منليك الثاني، ضرورة إيجاد منفذ بحري يربط الإمبراطوريـة الإثيوبيـة بالعالم الخارجي، وأدرك أن بقاء وضع الإمبراطوريـة على حاله بدون منفذ بحري يشكل عائقاً كبيرا لتطور البلاد.

وفي الـ11 فبراير 1893م، منح عقدا لـلمهندس السويسري السيد/ الفريد (ILG) لبناء أول خط للسكك الحديديـة بين جيبوتي وإثيوبيا وذلك على ثلاثـة مراحل.

وفي الـ9 مارس عام 1894م، أنشئت شركـة الإمبراطوريـة الإثيوبيـة (Compagnie Impériale Ethiopienne C.I.E)

وفي أكتوبر 1897م، انطلقت المرحلـة الأولى من المشروع بعد حصولـ الشركـة على موافقـة السلطات الفرنسيـة.

ولكن بعد خطوات متعثرة توقف العمل في خط (هرر ـ جيبوتي) نتيجـة لصخور اعترضت المشروع وصعوبات تقنيـة أخرى أدت إلى إلغاء هذا الخط  من المشروع.

وقد أعلنت شركـة (C.I.E) وفي الـ6 يونيو 1907م، عن إفلاسها، وتوقف المشروع بشكل كامل بعد أن استنزف الاقتصاد الإثيوبي.

وفي الـ30 يناير عام 1908م، توصلت الحكومـة الإثيوبيـة إلى اتفاق مع السلطات الفرنسيـة أنشئت بموجبـه شركـة جديدة هي الشركـة الفرنسيـة الإثيوبيـة لـلسكك الحديديـة (C.F.E) وتم استئناف العمل مرة أخرى في خط (جيبوتي ـ أديس أبابا)، وفي الـ17 يونيو عام 1917م، احتفلت الشركـة بافتتاح أول خط للسكك الحديديـة يربط بين جيبوتي والعاصمة الإثيوبيـة أديس أبابا، ويمتد على مسافـة تزيد عن (750) كيلو متر.

  • التطورات بعد استقلال جيبوتي:

وفي الـ27 يونيو عام 1977م، نالت جيبوتي استقلالها من الاستعمار الفرنسي، وأصبحت طرفا جديدا معنيا بالمعاهداث والاتفاقيات المتعلقـة بإنشاء وعمل الشركة الفرنسيـة الإثيوبيـة لـلسكك الحديديـة (C.F.E).

وقد أدركت الحكومـة الوطنيـة الوليدة أهميـة المشروع لتعزيز التنميـة الاقتصادية والاجتماعية،

وفي الـ21 مارس عام 1981م، توصلت الحكومـة الجيبوتيـة والإثيوبيـة إلى إتفاقيـة جديدة، أنشآ بموجبها الشركـة الجيبوتيـة الإثيوبيـة لـلسكك الحديديـة (C.D.E).

وتعتبر الشركـة الجديدة وفقا لـلاتفاقيـة، مؤسسة عامـة ذات ملكيّـة مشتركـة، وتدار من قبل مجلس إداري مشترك يتألف من أعضاء يمثلون الحكومـة الجيبوتيـة والإثيوبيـة.

وهذه الاتفاقيـة كانت ثمرة لـلجهود الكبيرة التي بذلتها الحكومة الجيبوتيـة، لتعديل المعاهدات السابقـة ونيل حصتها من الشركـة.

وفور التوقيع على الاتفاقيـة، أعيد مرة أخرى تنظيم السكك الحديديـة وتأهيلها مما جعلـها قادرة على مواصلـة مسيرتـها التاريخيـة التي أسهمت في دفع مسار الحياة العامـة.

  • مرحلـة تراجع وتدهور الشركـة:

وفي مطلع التسعينات من القرن الماضي، تدهورت حالـة السكك الحديديـة بشكل غير مسبوق، وهنا بدأت الشركـة الجيبوتيـة الإثيوبيـة (C.D.E) دراسـات حول إعادة تأهيل السكـة الحديديـة وتحديثها، ولكن المشروع توقف كليا، لنقص الاستثمارات الماليـة الـلازمـة لتوفير المعدات الحديثـة وتأهيل ورش الصيانـة المهنيـة التاريخيـة والبنيـة التحتيـة التي بدأت تتآكل.

وفي مطلع الألفيـة الثالثـة وصلت مسيرة السكك الحديديـة إلى محطتها الأخيرة بعد أن بلغ  التدهور والتأكل إلى درجات قياسيـة أدت إلى إعلان توقفها عن العمل وإغلاق دفاترها وذلك  بعد مسيرة طويلـة حافلـة بالإنجازات والعطاء.

  1. خط السكك الحديديـة الجديد:

في الأربعاء الـ4 أكتوبر الجاري، احتفلت الدولتان جيبوتي وإثيوبيا بتدشين خط السكك الحديديـة العابر للحدود والأول من نوعه في إفريقيا الذي يعمل بالكهرباء فقط.

وأقيم مراسم الحفل في العاصمـة الإثيوبيـة أديس أبابا، برعايـة رئيس الوزراء الإثيوبي هيلي ماريام دسالين والرئيس الجيبوتي السيد/ إسماعيل عمر جيلـه.

ويربط الخط الجديد بين العاصمـة الإثيوبيـة وميناء جيبوتي، وبطول مسافـة أكثر من (750) كيلو متر، وتمّ إنجازه بتكلفـة إجماليـة بلغت بحوالي(3.4) مليار دولار.

وقام بنك الاستيراد والتصدير الصيني بتمويل ما يزيد عن (70%) من المشروع، وتم تنفيذه بواسطـة الشركـة الهندسيـة الصينيـة لـلإنشاءات المدنيـة.

كما أن الجانب الصيني سيوفر أيضا طاقم العمل لتشغيل خط السكك الجديد لمدة 5 سنوات يتم من خلالها تدريب الكوادر المحليـة التي ستتولى إدارتـه لاحقا.

ووفقا لتصريحات الرئيس التنفيذي فإن الخط الجديد سيعمل في هذه المرحلـة لتشغيل خدمات الشحن فقط، ولكنه من المقرر أن يبدأ قطار الركاب رحلات يوميـة منتظمـة بين جيبوتي وأديس أبابا في مطلع العام المقبل.

ونسبة إلى أن الكل في جيبوتي مازال يجمع على أهميـة السكك الاقتصاديـة والاجتماعيـة، ولا يرون لها بديلا آخر إلا السكك الحديديـة نفسها، فإن إحياء السكك وإعادة تأهيلها من جديد، ظل مطلباً شعبياً أكثر إلحاحا، منذ أن توقف عمل السكك في عام 2004م.

إلا أن رود الأفعال الشعبيـة في البلاد، انقسمت بشكل كبير حول مشروع خط السكـة الحديديـة الجديدة التي تم تدشينها مؤخرا. نتيجـة لأسباب تتعلق بطيبعـة المشروع الجديد وأهميتـه لحركة النقل البري بجانب دوره الاقتصادي والاجتماعي مقارنـة بالسكـة الحديديـة السابقـة (CDE).

وبغض النظر عن الخلافات الفنيـة والإداريـة التي تميز المشروع عن سابقـه ـ سلبا أو إيجاباً ـ إلا أنه موضوعيا، نستطيع القول أن هذا المشروع هو أكبر إنجاز يحسب لـصالح الحكومـة منذ عدة سنوات.

ومن جانبـه أكد الرئيس الجيبوتي السيد/ إسماعيل عمر جيلـه، أن الخط الجديد الذي تم تدشينـه مؤخراً ليس سوى الخطوة الأولى من شبكـة طويلـة تبدأ من ساحل جيبوتي وتصل إلى قلب إفريقيا.

  1. الأهمّيـة الاقتصاديـة للمشروع:
  • جمهوريـة جيبوتي:

جمهوريـة جيبوتي دولة صغيرة تبلغ مساحتها بـ(23.000) كيلو متر مربع، ويقدر عدد سكانها بحوالي (800) ألف نسمـة، وفقا لصندوق الأمم المتحدة للسكان مما يجعلها في المرتبـة 163 عالميا.

وتعتمد جيبوتي بصفـة أساسيـة على خدمات الموانئ وبها أكبر ميناء لـلحاويات في المنطقـة تزيد طاقته الإنتاجيـة عن (3.5) مليون حاويـة سنويا.

وهي تتطلع أيضاً إلى إنشاء أكبر منطقـة حرة في إفريقيا، لإعادة التصدير إلى الدول الإفريقيـة المغلقـة كإثيوبيا وجنوب السودان ورواندا وبوروندي وغيرها.

وتوصف جيبوتي بأنها (هبـة البحر) وقد ارتبط تاريخها المعاصر بإنشاء خط السكك الحديديـة الرابط بينها وبين إثيوبيا.

وبالنسبـة لـجيبوتي لم يكن المشروع مهمـا لتنميـة البلاد وزيادة التبادل التجاري وتسهيل حركـة النقل بينها وبين إثيوبيا فحسب، بل إن خط السكك يعتبر دائما شريانها النابض بالحياة وحل العديد من المشاكل الاقتصاديـة في البلاد، إلى جانب دوره الاجتماعي الأهم في ربط النسيج الوطني عبر خطوطه الممتدة من شرق البلاد إلى غربها.

ومن جهـة أخرى تعد إثيوبيا مصدراً للكثير من الثروات التي تحتاج إليها جيبوتي، حيث تستورد جيبوتي كافـة احتياجتها الأساسيـة من إثيوبيا، ويشمل ذلك المواد الغذائيـة والخضر والـلحوم والحبوب والطاقـة الكهربائيـة وأخيرا المياه.

كما أن إثيوبيا تمثل أيضا سوقا حيويا بحجم سكان يعتبر الثاني في إفريقيا بعد نيجيريا، يضاف إلى ذلك الحدود المشتركـة والتداخل السكاني والبيئي بين البلدين.

  • إثيوبيـا وحلم مشروع السكك الحديـدية:

تقع إثيوبيا في شرق إفريقيا وتشترك في حدودها الشماليـة والشرقيـة مع كل من جيبوتي وإريتريا، ومن الشرق والجنوب الشرقي مع الصومال ومن الجنوب مع كينيا ومن الغرب مع جنوب السودان ومن الشمال الغربي مع جمهوريـة السودان.

وبدأت تتشكل حدودها السياسيـة منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى استقرت بشكلها الحالي وذلك في عهد الامبراطور منليك الثاني الذي حكم البلاد في الفترة ما بين (1889م ـ 1913م).

ورغم كل الحملات التوسعيـة إلا أنها ظلت دولـة حبيسـة غير ساحليـة ومعزولـة عن العالم الخارجي مما شكل عقبـة كبيرة أمام نهضـة البلاد وتطورها، وهذا ما أدرك الإمبراطور منليك الثاني خطورتـه البالغـة.

وقد حمل على عاتقـه مسؤوليـة تحقيق حلم الإمبراطوريـة القديم  في إيجاد منفذ بحري، وذلك عبر كافـة الطرق والوسائل.

وكما سبقت الإشارة، فإن فكرة إنشاء الشركـة الإمبراطوريـة الإثيوبيـة (C.I.E) وبناء أول خط سكة حديد بين جيبوتي وإثيوبيا تأتي أيضا ضمن هذا السياق.

  • ملامح الاقتصاد الإثيوبي:

تعدّ إثيوبيا الدولـة الأهم المسيطرة على القرن الإفريقي والمؤثرة في مختلف مكوناتـه كما تشكل الثقل الحقيقي الأكبر في المنطقـة، إذ يقدر عدد سكانها بأكثر من (93) مليون نسمـة، حسب بيانات موقع (Breathing Earth) وهي تحتل المرتبـة الرابعة عشرة عالميا وفقا لعدد السكان.

وشهد الاقتصاد الإثيوبي خلال العقد الماضي تحقيق معدلات نمو قويّـة تتراوح ما بين( 8.6% ـ 9.7 % ) وهي بذلك تحتل المرتبـة الثانية عشرة في سلم النمو العالمي.

وتمثل جيبوتي أهميـة استراتيجيـة كبيرة لاقتصاد إثيوبيا الدولـة الحبيسـة التي تصدر حوالي (95%) من صادراتها عبر ميناء جيبوتي، وتستورد نسبـة لا تقل عن ذلك عبره.

وبحسب تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي، فإن خط السكك الحديديـة من شأنه أن يعطي دفعـة قويـة للاقتصاد الإثيوبي، كما أنه يقدم فوائد كبيرة للمجتمعات الصناعيـة والزراعيّـة في البلاد.

وأن أهمية المشروع تكمن في تسهيل حركـة نقل البضائع والركّاب وتقليل تكاليفها، مما يوفر الوقت والجهد والمال والمزيد من فرص العمل. بجانب أهميتـه في زيادة التبادل التجاري والسياحي بين البلدين، الـأمر الذي سيكون لـه أثر كبير في تحقيق التكامل الاقتصادي الإقليمي.

  1. النتائج والتوصيات:

ويمكن من خلال الاستعراض السابق، أن نتوصل إلى عدد من الاستنتاجات حول أهميـة مشروع خط السكك الجديد ودوره الكبير في تعزيز العلاقات والتعاون الاقتصادي المشتركـة بين البلدين، وتتضح أهميّـة المشروع عبر جملـة من العوامل المؤثرة ومن أبرزها:

  • الأهميـة الاستراتيجيـة لموقع جيبوتي، وما تتمتع به من تأثيرات سياسيـة وأمنيـة كبيرة على الاقتصاد الإثيوبي وأمنها، ويمكن قراءة ذلك من خلال الاهتمام الدولي المتزايد في جيبوتي،
  • مما يستدعي دخول إثيوبيا بكل ثقلها في بناء شراكـة استراتيجيـة مع جيبوتي التي تكتسب مزيداً من الأهمّيـة، نتيجـة لحاجـة إثيوبيا الماسـة إلى موانئ جيبوتي التي تعد أكبر منفذ لصادراتها إلى الخارج.
  • الأهميـة الكبيرة لتداخل الموارد الطبيعيـة وضرورة الاستخدام المشترك لها، ويكون على الجانب الجيبوتي التركيز على تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي مع إثيوبيا باعتبارها أكبر مصدر يمدّ جيبوتي بحاجتها من الموادّ الأساسية.
  • كما أن إثيوبيا تشكل الثقل الأكبر في منطقـة القرن الإفريقي، مما يجعل التعاون الاقتصادي معها أمرا في غايـة الأهميـة للاقتصاد الجيبوتي.
  • ومن جهـة مختلفـة فإنّ إثيوبيا تعتبر الدولـة الأهم المسيطرة على القرن الإفريقي والمؤثرة في مختلف مكوناتـة.
  • وهي كونها بلد مغلق لا يطل على موانئ، فإنها ما زالت مصرة على إيجاد منفذ بحري بشتى الوسائل، إلا أن هذا العامل يزيد من حدة الصراع في المنطقـة، ويوسع من الدور الإثيوبي المتوقع في المستقبل خاصـة في حالـة النهوض الاقتصادي للبلاد واستقرارها.

عبد الله الفاتح

باحث وكاتب صحفي. ماجستير في الإعلام بجامعة السودان للعلوم في الخرطوم (قيد الدراسة). حاصل على دبلوم عالي في الترجمة الصحفية في أكاديمية موزايك سنتر ـ أديس وبكالورياس في الإعلام بكلية الآداب في جامعة إفريقيا العالمية بالخرطوم. يعمل محرر ومترجم في الوكالة الجيبوتية للأخبار.
زر الذهاب إلى الأعلى