ثورة 21 أكتوبر بين التمجيد والتشنيع

في 21 أكتوبر عام 1969, شهدت الصومال  ثورة أو انقلابا عسكريا بالأحرى بقيادة نخبة من القيادات في الجيش الصومالي, كان من بينهم الجنرال محمد سياد برّي رئيس الصومال  إبان فترة الثورة,  وينتهج الصوماليون معظمهم حيالها, نهجين متباينين, نهج تمجيد وتبريك لهذه الثورة ونهج تشنيع وتعييب لها, والفريقان ينطلقان من أسس وفلسفات كاستناد لما ذهبوا إليه,.

ومع هذا الانقسام الحاصل إلاّ أن الجميع يتفق أن يوم 21 أكتوبر  يمثل منعطفا تاريخيا مهمّا , ونقطة تحول كبير  في مجرى التاريخ الصومالي المعاصر, تستلزم الوقوف عندها لاستخلاص دروس مهمة في الحاضر الحالي,  وبين هذ ين النهجين  نحاول قدر الإمكان الالتفات بنظرة منصفة خالية عن التشنيع العاري العاطفي، والدفاع الخاوي مستشهدة بالمآثر  والمآخذ أثناء تلك الحقبة للتوصل إلى موقف معين .

إنجازات ثورة أكتوبر : قبل ثورة أكتوبر  كانت الصومال تحتفظ بديمقراطيتها الوليدة التي كان عنوانها الأبرز التداول السلمي للسلطة, إلا أن تلك الديمقراطية كانت تعاني من هشاشة, بسبب فقدان النضوج السياسي, والذي أدى إلى سوء استخدامها, وتغلب الطابع القبلي عليها، و الذي  كان يمثل وقتها اللاعب الأساسي في الساحة السياسية كما هو الحال الآن, وكان يتغلغل في داخل الأحزاب السياسية القائمة آنذاك, حتى كادت تصبح أحزاباً قبلية.

في هذا الجو المليء بالتجاذبات القبلية, والفساد والمحسوبية, والتي أعاقت التنمية, شهدت الصومال ثورة عسكرية حولت نظام حكمها من دولة ديمقراطية قبلية إلى دولة تيوقراطية شمولية, تحكمها طبقة معينة تنتهج نهج الشرق السوفييتي, واستمر هذا الحكم لما يقارب عقدين, تحقق أثناءها إنجازات ملموسة في شتى المجالات .

ويمكن القول أن ثورة 21 اكتوبر بدأت من الصفر , إذ لم يكن هناك تطور يذكر في المجالات المختلفة, ففي مجال البناء, والبنية التحتية, قامت الثورة  بتعبيد طرق مهمة لحركة السير  والنقل منها  شبكة الطرق البريّة التي ربطت بين الأقاليم والمدن في البلاد، كالطريق الطويل الموصل إلى مدينة بوصاصو, والطريق الرابط بين مدينة جرو وي ومدينة هر جيسا, ومن مقديشو إلى بيدوا, وفي داخل العاصمة قامالحكم العسكري بمد وتعبيد وصيانة أكثر من عشرين شارعا وطرقا فرعية, كما قام ببناء جسور عديدة فوق الأنهار والأودية, من بينها جسر  بلعد, وأفجويي, وبلدوين, وجوهر  ولوق… وجميع الجسور المقامة على الأودية المتواجدة حاليا, كما قام ببناء جميع المطارات والمرافئ المنتشرة في طول البلاد وعرضها.

كانت الثورة تعتمد سياسة العمل الطوعي, وبها تأسست مرافق كثيرة مهمة للدولة والمجتمع, من بينها المباني الحكومية, فأصبحت كل وزارة تستقل بمبنى مجهز بجميع المستلزمات الوزارية .

وفي مجال الزراعة قامت الثورة بمشروع أطلقت عليه تأمين الأمن الغذائي، والذي كان الهدف منه التوصل إلى الاكتفاء الذاتي, وعدم الاعتماد على الغير, فيما يتعلق  بالأمن الغذائي,  كما أطلقت مشاريع فرعية كثيرة كان من بينها مشروع  زراعة الأرز المعروف بمشروع مغانبي .

وفي مجال الصناعة قامت ثورة أكتوبر بتدشين أكثر من خمسين مصنعا تضم مصانع كبيرة وصغيرة, وكاد يطلق عليها  الثورة الصناعية، من بين هذه المصانع على سبيل المثال لا الحصر,  مصنعا السكر في جوهر ومريري, مصنع الملابس, مصنع الكبريت والسيجارة, مصنع العطور, مصنع الإسمنت, مصنع الأسلحة, مصنع الأسماك, مصنع الألبان, وغيرها الكثير الكثير  .

وفي مجال الخدمات الأساسية قامت الثورة بتوفير خدمات عديدة للمواطنين, من بينها الأمن, فأسست جيشا قويا استطاع السيطرة على أمن الوطن ويوفر الحماية للمواطنين ، وبلغ الجيش الصومالي حينها أوج قوته من حيث العدد والعتاد, وأصبحت الصومال مهابة إقليميا ودوليا,

وفي جانب الخدمات التعليمية, نفذت الثورة مشاريع تعليمية مجانية كان في مقدمتها وأهمها مشروع كتابة اللغة الصومالية, وإن كان ثمة تباينات بين المثقفين حول أصحّية كتابتها لا تينيا أو عربيا, وقامت بإشاعة هذه الكتابة بين المواطنين في حملة أسمتها ” أكتب واقرأ ”  وأرسلت خلالها بعثات معلمين في جميع أنحاء الوطن,  وأسست مدارس أساسية وثانوية, وجامعات عديدة تقدم للمواطنين خدمات تعليمية مجانية, كما أعدت منهجا تعليميا أتم الإعداد, وفي فترة وجيزة تخرج للصومال كوادر متعلمة في مختلف التخصصات و المجالات الطبية والهندسية والعسكرية والإعلامية .

وفي جانب الخدمات الصحية قامت ثورة أكتوبر  ببناء مستشفيات ومرافق صحية توفر خدمات مجانية, لا يزال بعضها في الخدمة حتى الآن كمستشفيي مدينة وبنادر , ومستشفيات كثيرة أخرى .

كذلك كانت هناك خدمات أخرى مجانية من بينها الكهرباء والماء, وغير ذلك من المحاسن التي يكثر عدّها هنا, وإن كانت هذه الخدمات لا تتوفر بصورة متساوية في أرجاء البلاد المختلفة, بسبب المركزية الإدارية التي كان يتبناها النظام السابق .

 إخفاقات ثورة أكتوبر :  بجانب هذه الإنجازات المبهرة, والتي أعمت الممجدين للثورة عن عيوبها ومآثرها, كان هناك إخفاقات تخدش صفحة  الإنجازات, لا يهمنا هنا حيثيات بداية الانقلاب, فهناك ملابسات كثيرة تحيط به ولا يزال الاختلاف عليها قائما, من بينها الاختلاف الحاصل حول تحديد الأيادي الخفية التي كانت وراء اغتيال الرئيس عبد الرشيد علي شرما كي, وما إذا كان الانقلاب دمويا أو أبيض, لكنّ الشيء المتفق عليه لدى الجميع هو أن ثورة أكتوبر  كانت بمثابة وأد للديمقراطية الوليدة التي بزغ فجرها في الصومال بعد الاستقلال,  ووضعا لزمام الأمور بيد فئة قليلة من قيادات العسكر, والتي لم تكن تلقي بالا لبقية الشعب, وكان التهميش والسطو على المخالف, والتشبث بالسلطة وعدم إفساح المجال للآخرين الطابع السائد في المشهد السياسي, وكان حزب  الثورة هو الحزب الأوحد الذي لا يجارى , وتم حشد الشعب بقوة أو بغير قوة لأن يكون بوقا للحزب الحاكم, ولا مجال للحريات السياسية والتعددية الحزبية, وحرية الرأي والقول,  ناهيك عن المحاسبة والمعارضة, ولم يعد ثمة مجالس شورى ولا دوائر قرار صومالية أخرى كانت تستقل برأيها وتدلي برأيها عن القضايا المصيرية  وأصبح الوطن و قضاياه المصيرية يدار على مزاج الحاكم وبطانته. نتج عن هذا غياب البوصلة وتبني قرارات اعتباطية وسياسات خاطئة كان من بينها حرب 77 التي خاضتها الثورة العسكرية ضدّ إثيوبيا, والتي أدت إلى التصادم مع الحليف السوفييتي والتخلي عنه والرهان على الغرب, يضاف إلى هذا التآكل الداخلي والتي كانت تتمثل طلائعه في التصفيات والاعتقالات التي استهدفت قيادات في الجيش اتهمت بأنها كانت تنوي القيام بأعمال مضادة مما مهد الطريق أمام محاولات انقلابية قام بها قيادات تمردت وخافت على نفسها من مثل المصير الذي آل إليه رفاقها, وتأسست جبهات مسلحة كانت تدعم من دول الجوار وتسمت بأسماء مختلفة .

وكان قرار إعدام العلماء والجرأة على تعدّي حدود الشرع أيضا يمثل إخفاقا يحمل خطرا كبيرا, حيث كان يستفز مشاعر الشعب بسبب المساس بالمقدسات, مما كان له أثره السيئ في علاقة النظام مع دول عدة إسلامية, وعربية .

كما بدأ الفساد والمحسوبية والاستئثار السلطة والقرار  من قبل أقلية كانت مقربة من الحاكم لأسباب أهمها عشائرية, كل ذلك تغذت عليه الجبهات المسلحة, واستغلت روح الكراهية والرفض لدى عامة الشعب ضد تصرفات النظام، مما أدى إلى تمرد بعض المناطق، وبدأ النظام يحاول إخضاعها بالقوة بدل الاستماع  والاستجابة  للمطالب المشروعة،أثر ذلك سلبا على التماسك  والنسيج الاجتماعي, ولا زالت الصومال تعاني من تبعات هذه السياسات الخاطئة. كل هذه الأمور ساهمت في التقهقر الذي أصاب الثورة , وفي الأخير أدى إلى سقوطها على أيدى جبهات قبلية,

وحب السلطة الجنوني الذي كان يتصف به الزعيم الراحل وعدم إصغائه للمعارضين بسبب الغرور,  قاد الوطن إلى أتون حروب أهلية, وفوضي عارمة استمرت لأكثر من عقدين, ويمكن القول أن النظام الراحل هو الذي هدم ما بناه بيده, ولم يكن أحسن من الجبهات القبلية التي كان يقودها التطلع المفرط للسلطة, حتى على حساب الوطن .

وبعد رحيل نظام الثورة, أصبحت أزمة الامور بيد جبهات قبلية قادت الصومال إلى  مصير مجهول وأدخلتها في مستنقع الحروب والفقر والتشرد والمجاعة, مما جعل أكثرية الشعب الصومالي يترحم على الديكتاتور الراحل مع مساوئه, لكن الشيء الأهم من هذا والذي ينبغي هو أخذ الدروس والعبرة من الماضي, وعدم تكرار سيناريوهاته السلبية مجدّدًا.

تقرير: عبدالله حسين نور

زر الذهاب إلى الأعلى