الإخوة الأعداء والأسئلة الحرجة

    اندفع زكريا من بيته مسرعا يحمل حقيبته الخضراء على كاهله الغض، وفي نفسه أمل لذيذ في الفوز بمسابقة الفصل التي وعد المعلم أنه سيجريها غدا وأن على الطلاب أن يتنافسوا للحصول على جوائز رصدها لهم. قال لوالدته: يا أمي : أنا أحب معلم الرياضيات لأنه لا يضربني مثلما ضربني معلم الدوكسي الذي كاد يكسر يدي. في طريقه إلى المدرسة سرعان ما اندلعت حرب شرسة غير متوقعة فاستوقفه هدير المدافع التي بدأت تنطلق من مسافة غير بعيدة عنه وأرعبه صوت الرصاص المتطاير، بكى لأنه لم يدر ماذا يفعل وكيف يتصرف، استغاث بأمه قائلا: يا أماه ..يا أماه وقد رمى الحقيبة وتبعثرت دفاتره على الأرض وبدأ يهيم على وجهه .. أحد المليشيات منعه من التقدم لأن الطفل الصغير كان يتجه صوب مصدر الحمم النارية التي تتطاير من فوهات الآلات الرشاشة، وفجأة رأى والدته التي كانت تنادي وتلوح له من بعيد وقد جرت وراءه منذ سمعت صوت المدافع والرصاص المصبوب من تل قريب من بيتها كان يتمركز فيها مجموعة من المليشيات. في طريق نزوح الأسرة إلى قرية بعادوين التي تبعد عن جالكعيو 50 كيلو تقريبا كان يعتمل في ذهنه أسئلة كثيرة لا يجد الجواب لها وهو يرى العربات والشاحنات التي تحمل النازحين من أتون الحرب، كان يسأل والدته : يا أمي المعلم ينتظرني بالجائزة لأنني حفظت الأرقام، ألست أستحقها يا أمي، كانت الأم تقول له: سنرجع إلى المدرسة قريبا إن شاء الله وسوف يعطيك المعلم الجائزة.

 كانت الأم نفسها في حالة سرحان وذهول حقيقي لأنها بدأت تستعيد شريط الأحداث وتحاول تذكر عدد المرات التي نزحت فيها من المدينة وعن تصريحات الزعماء السياسيين الذين يطلقون الوعود تلو الوعود باستعادة العافية إلى مدينتهم، وبدأت تفكر في مصير متجرها الصغير الذي تبيع فيه الخضروات ولحم الماعز والبهارات ولوازم الجيران.

هذا مشهد مصغر مستقطع من شريط الأحداث المتكررة في جالكعيو إنها أسئلة الصغار والكبار، التي لا يهتدون لها إجابة متى سينتهي العناء؟ ومتى يستريح الناس من تعب النزوح لا أحد يملك الإجابة بالضبط. مدينة جالكعيو في موقعها الفريد وفي تنوع سكانها، وازدهار تجارتها، وفي لطف هوائها لكنها في المقابل أصبحت صورة مختصرة لأزمة الصومال، أزمة العصبية القبلية وفقدان الثقة، وانعدام الحوار في خضم التكالب على الموارد وعلى المكانة والشرف بين قبيلتين متجاورتين في الإقليم، بينهما كل مقومات الوحدة وأواصر التلاقي، إنها أزمة الهويات الفرعية وفقد المواطنة الجامعة.

   جميع الحلول المطروحة أصبحت مؤقتة مثل العقاقير المسكنة لأن الجميع لم يتفقوا على إجراء حوار حقيقي وجاد وعقلاني يتولد منه البحث عن أسباب الأزمة وبواعثها، ثم المحاولة الجادة لوضع حد لها.

أجمل ما في جالكعيو أنها كانت مدينة النضال ومعدن الكفاءات الوطنية والعلمية والاقتصادية والأدبية، وأجمل ما فيها هو موقها الفريد الذي جعلها نقطة الالتقاء وأقبح ما فيها هو الحروب المستمرة الناشئة من أزمة نفسية اجتماعية تتجسدها سلوكيات المليشيات التي لا يرهبها الموت بل تظل ساعية إلى الاصطلاء في أتون الحروب ليلا ونهارا.

 كثيرون قد فكروا وسيفكرون في الحل الناجع لهذه المشكلة، ولكن دلتنا العلوم الاجتماعية ان المشكلات الاجتماعية تنطوي على العديد من الأسباب النفسية والاجتماعية ويجب توظيف جميع الإمكانات لفهم الظروف المحيطة بالصراع الصفري للتوصل إلى حل.

 مأساة جالكعيو تختصر أزمة الصومال وهي أزمة انعدام القانون والثقة ومظاهر الدولة الجامعة التي تمثل الجميع.

محمد عمر أحمد

محمد عمر أحمد

باحث وكاتب صومالي، يؤمن بوحدة الشعب الصومالي والأمة الإسلامية، درس في الصومال وجمهورية مصر العربية، عضو إتحاد الصحفيين العرب سابقا، ومحرر سابق لموقع الصومال اليوم، يعمل حاليا محاضرا بجامعة ولاية بونتلاندا بمدينة جاروي.
زر الذهاب إلى الأعلى