إثيوبيا بلد الأشقاء (2-7)

بناءًا على المحصلة:

سار بنا الحديث في الحلقة الماضية، باتجاه المحصلة التي من المهم العودة إليها، لتحديد معادلة ذهنية غير نمطية – والحديث هنا لمن يمتلك عقله -، فمما لا شكّ فيه أنّ الصراع بين الكيانات السياسية الصومالية وغير الصومالية في منطقة الشرق الإفريقي على مدى ألف سنة، أخذ مساحة كبيرة من تاريخنا، وقد كان نجاح الصوماليين في تحقيق هدفهم من دخول تلك الحروب، جليًا نظرًا للاتساع المستمر حتى هذه اللحظة للأرض التي يقطنها قومنا المتمسكون حتى يومنا هذا بحياة البداوة، في بحثهم عن مرعى أخصب وتراجع القوميات الزراعية أمام استنزافهم لها، واستمرار تدهور الظروف البيئية في القرن الإفريقي، صفة البداوة الصومالية كانت مفتاح اتساع الأرض وإذابة الآخرين في ثقافة متأقلمة مع أصعب تقلبات البيئة، رغم أنّ تلك الصفة بدأت بالتراجع في ما داخل حدود الجمهورية الصومالية بكل كياناتها الفرعية!

ساحة صراعات هو العالم!

مع اعترافنا بحدوث صراعات بين الكيانات الصومالية وسواها، على هيئة قبائل ضد قبائل، ممالك ضد قبائل، ممالك ضد سلطنات، وممالك ضد ممالك، فإنه لفهم الواقع الذي كان قائمًا حينها، وقواسمه المشتركة مع واقعنا القائم اليوم، يكون ضروريًا التخلص من رواسب الدعاية السياسية التي خلقتها فترة الحكم العسكري والاستقطابات الدولية، التي كانت تتيح المجال واسعًا لنشر الأكاذيب ما بين أمم وشعوب متجاورة، بحيث لا يصمد التعايش او التعامل بمعطياته اليومية البسيطة، أمام نظريات التآمر والمخططات الجهنمية المؤدية دائمًا لإبادة أحد طرفي المعادلة، ووراثة أرضه!

وهو ما لم يحدث ولن يحدث سوى في حال حدوث انهيار ثقافي وفكري، ناتج عن تحلل سياسي وفشل اقتصادي قاتل، وعليه فإن الناظر إلى ما ترسخ في أذهان أبناء الشعب الصومالي، وأبناء القوميات المقيمة في إثيوبيا – كل عن نظيره – يبدو في بعده عن الواقع غاية في السذاجة، والأدهى أنه غدا موروثًا يكرره متعلمون ويمارسونه في حياتهم بكل إخلاص، رغم أن الثقة بالقريب الكهل الذي شهد ويلات حروب ماضية، لا يعني أن كلامه “المشحون بالعاطفة” ذاك حقائق لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها.

وجود صراعات أم صراعات وجود!

وبالعود على مسائل الصراع التي كانت جزءًا من نشأة شعبنا، ونمو قوميتنا واتساع رقعة أرضها على النحو الذي هي عليه، فإن فهم مصادر الصراع وأسبابه، سيكتشف أنّها كامنة بكل تفاصيلها في الصراعات “الصومالية-الصومالية” التي كانت تنفجر في ظل التنافس على “موارد اقتصادية” كالمراعي وموارد المياه، أو “نفوذ سياسي” غير قابل للقسمة على شركاء، ومؤدٍ لـ”مكاسب اقتصادية”، وعليه فإن حالة “صراع الوجود” الوهمية التي تمت بها برمجة الشعب الصومالي وأشقائه من الشعوب الإثيوبية، ليست سوى محض هراء، فالحاصل اليومي بين أطرافها كان جزءًا من الصراع مع البيئة لأجل الوجود، والآخر جزء أصيل من تلك البيئة، وعامل من عوامل الضغط ومصدر تهديد للموارد أو عقبة أمام الطموحات، ولذا فإنِّ أي حديث عن الصراعات بين أطراف صومالية، وأخرى في القرن الإفريقي خارج سياق حالة “النمو” التي يمارسها شعبنا بنجاح، في مقابل تلك الأطراف المجاورة الساعية لذات الهدف، – فإن أي حديث – خارج ذلك السياق الطبيعي “شعبيًا” لا يعدو سوى أن يكون محاولة لتحقيق تحشيد، يمكن من خلاله سوق قطعان المتحمسين، وممارسة الفظائع بيد الغوغاء، وصولًا إلى الدمار والتراجع الحضاري والتدهور الإنساني الذي لم يهدأ للحظة منذ دخول القوى الغربية إلى المنطقة، ومساعيها لترتيب الأوراق بالصورة التي تتلاءم مع مصالحها، بل وتحفظ لها أمن تلك المصالح حتى انقضائها أو حلول خيارات ئئ أقل كلفة وأعلى مردودًا محلها!

تحرّك التخوم!

في وقت كانت شعوب القرن الإفريقي مكونة من قبائل وسلطنات، ومملكة في هضبة الحبشة بدأت للتو الخروج من صراعات دامية، انتهت بكيان مركزي ساعٍ للخلاص من تحكم الكنيسة وامتيازاتها، نزل العنصر الغربي لأول مرة ساعيًا للاستقرار على الأرض، بعد أربعة قرون من الحملات البحرية والبرية، أنهكت إمارات الطراز الإسلامي، وجعلتها لقمة سائغة للقبائل التي بلغت من الحجم والقوة، بحيث استعادت نظم اجتماعية شديدة التعقيد، عادت حية بعد أن كانت جزءًا من أساطير الموروث الشفوي العظيم لهذه القبائل التي يتكون منها شعبنا الصومالي.

دخول العنصر الغربي حاملًا معه خرائطه التي أتى بها من مؤتمر برلين، فرضت واقعًا جديدًا، حددته خبرات الغربي مع مكونات المنطقة، والمعتقدات الدينية، لتكون أداة لتحقيق طموحات الغربي في وجود أبدي في أهم خطوط التجارة البحرية على وجه البسيطة، وكان أساسيًا وضع قواعد جديدة للعبة الحركة والتزاحم والتوسع والتراجع التقليدية، لتفكيك بنية المجتمعات التي تحمل عناصر قوة جماعية، ومفاتيح وحدة مفاجئة وزاخمة، قد تشكّل خطرًا على المشاريع المربحة التي أتى الغربي لتنفيذها.

أمره كله خير

هنا أتى دور البحث عن “وكيل” يحمل من الصفات الحد الأدنى، ليكون شريكًا وحارسًا للخطة الغربية، التي في شجعها وآنيتها لم تحسب حساب النتائج المدمرة لما هو آتٍ من ثمارها على أبناء القرن الإفريقي، بل يستمر الغربي حتى لحظتنا هذه، “يدير الأزمة” والأزمات التي خلقها ويخلقها ما صنعته يداه، مستفيدًا من غفلة الآباء وجهلهم وفقرهم، وانشغالهم باستنزاف طاقتهم في صراعات ضئيلة بحجم إدراكهم، سامحين للنكبات التي غطت الأفق أن تهطل عليهم مصائبها، وتغرقهم بطوفان من الكوارث!

ولـ”أن أمره كله خير”، فقد نتجت عن المخطط السائر في حسناته نحو “الأوروبي”، حسنات طالت من كان مطلوبًا أن يُعانوا ليتيحوا المزيد من المجال لخطط اخرى، فإنَّ إن خلق الحدود الاستعمارية في القرن الإفريقي والقارة الإفريقية، خلق حالات من التمازج والذوبان المتبادل بين مكونات الإقليم الجغرافي الشاسع هذا، كما أتاح بروز الثقافات الكوشية في ظل النجاح الذي حققته مشاريع كتابتها، ليبدأ “الناس” المهمشون، يتبدالون الخبرات نحو تأسيس “فخرهم” بهوياتهم الخاصة بهم، في نأيٍ عن الثقافات المهمينة بحكم النفوذ السياسي الذي امتلكته العناصر الحاملة لها، ورسّخه المشروع الأوروبي-الغربي في المنطقة، لتبدأ مرحلة تاريخية جديدة، بدأت شمسها تبزغ في الأفق على استحياء!

زر الذهاب إلى الأعلى