الحكم الرشيد.. والـ 40%  

محمد الحمراوي*

إذا كان “أسوأ مكان في الجحيم -على قولة مارتن لوثر كينغ- محجوز للذين يبقون على الحياد في المعارك الأخلاقية العظيمة”، فإن أسوأ مكان في سقر -وهي لا تقل فتكا من الجحيم- محجوز للذين يتراقصون على أنغام “الحكم الرشيد” في عصر المجاعات وسوء التغذية.

تقارير تلو التقارير، ونداءات عاجلة، تدقّ ناقوس الخطر -من وقت لآخر- بأن نسبة مقدّرة من الشعب على موعد مع المجاعة، وسوء التغذية، إن لم تُقدم لهم مساعدات عاجلة، بكل ما في (العجلة) من نداء، ثم ننشغل نحن (شعب الله المختار)  بما لا ناقة لنا فيها ولا جمل، كأننا في نعيم مقيم في هولندا، ولسنا المعنيّين بما في التقارير الأممية.

في ظل “دولة القانون والحكم الرشيد”، كما يحلو للرئيس “حسن شيخ” توصيف فترة حكمه المنتهية، يتزامن صدور تقرير أممي ليضع مصير (%40) نصب عيني “الحكومة الرشيدة” قبل أن يحل عليهم خريف المجاعة، ويذهبوا إلى جوار الله.

5 ملايين مواطن صومالي بما يساوي 40% من إجمالي عدد السكان -وفق ما ذكره التقرير الأممي الأخير- يعانون من “انعدام الأمن الغذائي”، ما يعني أن دولة بحجم “فنلندا” يواجه شعبها كليا خطر المجاعة. فضلا عن 300 ألف طفل دون سنّ الخامسة يعانون من “سوء التغذية”، وأن 50 ألفا من هؤلاء الأطفال -خصيصا- يعانون من “سوء التغذية الحادة”!

فماذا بقى من هذا الشعب، إذا كان نصفه على حافة “المجاعة”، ونصفه الثاني يعاني من “الفقر”، ونصفه الثالث يعاني من “البطالة”، ونصف نصفه الآخر يعاني من “سوء التغذية”، سوى أن الوضع الإنساني يناقض كليا (أهازيج) “الحكم الرشيد”، اللهم إلا إذا كان “الحكم الرشيد” ليس بذات الحكم النزيه المتعارف عليه دوليا والذي يضمن الرخاء والاستقرار للشعب، وإنما (حكم رشيد بمقياس صومالي لا تنطبق عليه أيا من شروط الحكم الرشيد المنشود).

فحرام على دولة مثل الصومال التي تملك مساحة 8 ملايين هكتار أراضي صالحة للزراعة أن يواجه شعبها (خريف المجاعة)، مرة في كل ثلاث أو أربعِ سنوات، ويعاني من “سوء التغذية الحادة”. إنها لإحدى الكُبر في ظل “دولة القانون والحكم الرشيد”!

والسؤال المر: ماذا عن الـ 40%؟، عن هؤلاء الذين يواجهون المجاعة وسوء التغذية الحادة من جديد. هل نتركهم لوحدهم يواجهون مصيرهم، كما فعلنا بالسابقين، وننشغل بملف لاهاي، أم نحيل مسؤوليتهم للأمم المتحدة كما هي العادة لتقدم لهم المساعدات الضرورية، ونتفرّغ نحن “أولاد الحكومة” لمتابعة ملف الصراع الروسي الأميركي في سوريا؟

المؤسف أن “الأركان الستة” التي بنى عليها الرئيس المنتهي ولايته (قواعد حكمه) لا يوجد فيها ركن واحد له علاقة بالوضع الإنساني في الصومال، فأي (حكم رشيد) إذاً، هذا الذي تجاهل الوضع الإنساني المقلق، وتبنّى ركن المتاريس والمصافحات والإدانات؟

تمنيت لو أن (الطاقة المشحونة) التي توافدت صباح اليوم إلى ميدان “دلجركَ دَهسون” استجابة لرغبات “محافظ بنادر” لتأييد موقف الحكومة من النزاع الحدودي البحري بين كينيا والصومال، تظاهرت من تلقاء ذاتها في الميدان ذاته، وفي ميادين أخرى من البلد، استجابة للضمير الإنساني، للتنديد بسياسة الحكومة تجاه الشعب المطحون، الذي يواجه مصيره، لسوء تدبير حكومته، كأضعف الإيمان.

ولكن أيا من هذه الأمنيات التي تأتي فقط في أحلام اليقظة، بعيدة كل البعد حدوثها في الوقت الحاضر، ذلك أن الشعب في قالب ساسته، وفي نعيم مقيم، لا خوف عليه من المجاعة، سوى أولئك الذين شملهم التقرير الأممي، وكُتب عليهم -لسوء إدارة الأزمات- الجوع وسوء التغذية وما الله به عليم من المعاناة اليومية.

ومتى ما تحرر الشعب من القالب الذي يتموضع فيه حاليا، ويندفع للميادين من تلقاء ذاته، لا يحركه سوى ضميره الإنساني، كواجب ديني وأخلاقي ووطني، يمكن حينها أن يُعوّل عليه تغيير شيء ما.

وسوى هذه الحقيقة، يبقى مصير هذا الشعب، مطحونا تحت سطوة المتنفذين، ليقرر وحده مصيره المحتوم، ويحدد موقعه من البؤس سلفا، إما مغتربا، أو فقيرا، أو عاطلا، أو نازحا، أو لاجئا، في ظل “دولة القانون والحكم الرشيد”!

محمد الحمراوي

محمد حمراوي كاتب ومدن صومالي
زر الذهاب إلى الأعلى