في وداع الشهر الفضيل

ها هو شهر رمضان كما استقبلناه محبوبًا محفوفًا بأشواقنا، مرّت أيامه رشيقة تعدوا نحو النفاد، قبل أن تشبع نفوسنا من نفحاته وما يحمله من سكينة وبركة تملؤ القلوب، هكذا وبعد أن كنّا نستثقل الأيام في انتظار حلوله بيننا، نشعر كمن سُرقت منه أيام صومه وعبادته، التي ملأت ساعات اليوم بأجمل ما يكون الانشغال، ساعات يوم لم تكن لتتسع لكل ما نريد الاستزادة منه كل لحظة وكل ثانية.

سرعة مرور أيام الشهر الفضيل تعيد إلينا تجربة نستشعرها دائمًا في الحزن على نفاد ما نحب، وليس أبعد عن التعويض من زمن يمضي، يُضافُ إلى أيامنا دونما أن تكون لدينا القدرة على استعادته، أو استعادة ما كان في أيدينا ونحن نعيشه ونقضيه فيما هو معتاد، تلك التجربة التي تدفعنا للتأمل والنظر في ما بقي من أيامنا، وكيف يمكننا أن نقضيها كأفضل ما يكون، ونحصل منها على كامل رحيقها، الذي يختزن كل جيّد ومفيد وإيجابي وبنّاء.

في شهرنا الفضيل هذا مرّرنا بتجارب إيمانية، تفاوتت كتفاوت الأرزاق المكتوبة للناس، من دنياهم وأعمالهم، كما تفاوتت عقولهم ومداركهم، ما يحملونه فيها من معرفة، وما تحمله صدورهم من إيمان، وما أقدمت عليه جوارحهم فيه من أعمال خير، سترفعهم أعلى درجة، أو أعمال مما هو دون ذلك، ستنحدر بهم أدنى دركة، لكنها جميعًا خبرات وتجارب نسأل الله أن يثبّت لنا جميعًا خيرها، ويعفو عن ما سواها ويصلحنا.

في شهرنا الفضيل هذا رتلنا القرآن، واستعدنا ذكريات تعلّمه والنجاح في ضبط ألفاظه ورسومه، كما استعدنا ذكريات التأمل في الآيات والأثر العميق الذي كان لنا في نفوسنا أول ما دخلت معانيها قلوبنا، واستحضرنا لحظات القراءة الخاشعة في سكون الليل، أو خلوات النهار ونحن نعيد الآيات ونكررها في تأمل وخشوع، وأفئدتنا تغسل ما قد ران عليها من مكابدة الحياة، بساخنات الدموع.

في شهرنا الفضيل هذا، استقبلنا الأيام بالبشر، عشرًا بعد عشر، نرجو الرحمة، ونطلب المغفرة، وندعو بالعتق الأبدي من النار، أرق قلوبًا، وأقرب نفوسًا، وأبشَّ وجوهًا، وأندى يدًا، لأننا امتثلنا لأمر إلهنا الرؤوف الرحيم، والعفو الكريم، الذي وعدنا على لسان نبيّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهل يتردَّدُ من يستعطي الكريم الذي ما عنده لا ينفد.

في شهرنا الفضيل هذا، صفت النفوس وتفتحت القرائح، واستقبلنا الأيام ونحن لدينا “خطّة” فيما نفعل، وكيف نقضي كل لحظة وكل ساعة، فاجتهدنا ولم نجهد، وسهرنا ولم ننم، ونحن مدفوعون بطاقة قلّما نجدها في أنفسنا بقية الأيام، طاقة من استجاب  لدعوة الله العظيم ورسالة نبيه الكريم، تحثنا أن نتقدم أكثر، لنقترب أكثر، ونأمل في أن نوفّق أكثر، ونصبح يومًا ما إلى الله في قلوبنا أقرب.

في شهرنا الفضيل هذا وضعنا جباهنا للرحمن، أكثر طمعًا في رحمته، وأكثر خشية من غضبه، وأكثر رغبة في النهل من معين حبّه ومحبّته، انسقنا في نهر إيماني مستسلمين لتياره دون تحفظ، لعلنا تخرجنا الأيام إلى الضفة الأخرى، حيث ينتظرنا شوّال بالعيد والفرحة، أخفّ أحمالًا وأوسع صدورًا، وأحرى بالبشر والابتسام من كل من حُرمَ لذَّتنا تلك.

زر الذهاب إلى الأعلى