حدثني عن التضحية

المتظاهرون الذين خرجوا أمس إلى باحة “مسجد التضامن” للتنديد بحادثة “استهداف الحرم النبوي” التي وقعت في التاسع والعشرين من رمضان، يبدو في نظري (غير واقعيين)؛ إما أنهم صائمون رمضان ليلة الثلاثين، ويتزامن تظاهرهم هذا بلحظة الانفجار، أو أنهم يصنعون أحاسيس لا تنتمي لمشاعرهم، فقط من أجل تمثيل “دراما عاطفية” واستهلاك “شعار جنائزي” لا يتماشى مع واقعهم المرير، فينطبق عليهم المثل الشعبي “تعبنا من السير فلنجرِ”، لأنه لو كان يحركهم إحساس بالتعدّي على “حرمة المسجد النبوي” لنزلوا إلى الشوارع عفويا لحظة وقوع الانفجار دون انتظار “بيان” من جهة ما يدعوهم إلى التموقع في باحة مسجد التضامن.

ولأننا – كالعادة – لا نتحرك من تلقاء ذواتنا للدفاع عن “أقدس الأماكن” على وجه الأرض لحظة الاعتداء عليها إلا بدعوة من أحد، فلا ضير في أن نؤدي – تلك اللحظات – دور ممثل يتكلف في التمثيلية، فيأتي تمثيله مصطنعا وركيكا من غير متعة وإثارة، فيهتف “المدعوّ” بما يناقض حاضره واقعه، ويكون شعار “التضحية” المنمّق، عنوانا بارزا في التظاهرة.

وإذا كنا “نضحي” أرواحنا “للأماكن المقدسة” لكنا مرابضين في باحات المساجد والساحات العامة مدة 49 عاما، حتى تتحرر القدس. لكننا لم نفعل، لأننا – ببساطة – نتظاهر ونضحّي أرواحنا تمثيليا! أو بلغة المصالح لم نقبض “ثمنا” يدفعنا للبقاء في التظاهرات طوال تلك المدة، فتركنا “القدس” يضحّي هو بنفسه، وتعهدنا بالتضحية للمسجد النبوي، رغم أن كلا المسجدين من الأماكن المقدسة. بل إن الأول  – وهو القدس – يشهد تهويدا لكل معالمه من الصهاينة منذ عام 67، لكن “له ربّ يحميه” على لسان حال المتظاهرين.

وإذا كانت التضحية مشروعة للأماكن المقدسة، فالنفس أولى منه. فزوال الدنيا أهون على الله من سفك دم مسلم بغير حق. فلماذا لا نضحي أرواحنا لهؤلاء الذين يُقتلون يوميا من غير وجه حق؟ ولماذا لا نتظاهر للمطالبة بحقوقهم؟ لماذا نطالب بحقوق الجدران ولا نطالب بحقوق النفوس الزاكية؟

فالجريمة هي الجريمة، ولا تحتاج التعامل معها انتقائيا، لكن الانفصام عن الواقع المر الذي تعيشه الصومال يدفع البعض إلى أن يكونوا متحدثين باسم بلدان أخرى، أو ظلّهم في الصومال، فلا هو يندد، ولا يدعوا للتظاهر، فيدفن رأسه في الرمال، حتى إذا هبت عاصفة في الدول التي يتحدثون باسمها تراهم ينتفضون، وينددون، ويدعوا الشعب إلى التظاهر، مع أن ما يحدث في تلك الدول لا يساوي 0.1% مما يحدث في الصومال.  فينزل الشعب إلى الشوارع كأنه دمية بيد جماعة، وقد نسي واقعه المرير، وانكمشت ذاكرته للتوّ، وتوقفت عن تذكر ماضيه وحاضره البائس، ويرفع لافتات كتبت عليها شعارات استهلاكية من قبيل: “مرتكبوا الجرائم ضد الحرمين الشريفين هم أشرار الخلق عندالله” كأن الذين يرتكبون الجرائم في الصومال أخيار الخلق عندالله، ولم تثبت إدانتهم عندالله بعد حتى يُجرموا! 

هي الانتقائية إذا، عندما تكون التضحية شعارا منمّقا، يصعب تطبيقها في الصومال، وتكون النفس تواقة لأن تضحّي روحها ودمها خارج حدود الوطن، فتهتف بحماس قاتل “بالروح.. بالدم.. نفديك يا …” لأن لها من النعيم ما لا يتصوره العقل في تلك الحالة، لكنها في مواجهة الظلم ونصرة المظلوم داخل حدود الوطن، ففيها نظر! 

محمد الحمراوي

محمد حمراوي كاتب ومدن صومالي
زر الذهاب إلى الأعلى