الفيدرالية في النظام السياسي الصومالي مبرراتها وملامحها

 

الفيدرالية في النظام السياسي الصومالي

مبرراتها وملامحها 

ورقة مقدمة إلى المؤتمر الوطني العلمي

بعنوان :الحوار أسلوب حياة…نحو تأصيل ثقافة الحوار الوطني وتجذير خيار الوحدة

29 سبتمبر- 3 أكتوبر 2014م

مقديشو – الصومال

 إعداد/ الدكتور محمد إبراهيم عبدي

كلية الآداب – جامعة مقديشو

        PDF 

 أولاً- مفهوم الفيدرالية

هناك آراء مختلفة حول أصل الفيدرالية ومعناها، ويعتقد أن أصل الكلمة لاتيني، وهي مشتقة من كلمة (Foedus) وتعني المعاهدة أو الاتفاق. ويرى البعض الآخر بأنها مشتقة من كلمة ( Fides or Trust) التي هي نوع من الاتفاق المبني على الثقة المتبادلة بين الأطراف، بينما يراها آخرون أن أصل الكلمة (Foedus ) يوناني ومعناها عصبة أو اتفاق بين طرفين أو أكثر أو ميثاق(1).

والفيدرالية نظام سياسي يقوم على بناء علاقات تكامل محل علاقات تبعية بين عدة دول يربطها اتحاد مركزي،  على أن يكون هذا الاتحاد مبنيا على أساس الاعتراف بوجود حكومة مركزية لكل الدول الاتحادية، وحكومة ذاتية للولايات أو المقاطعات التي تنقسم إليها الدولة، ويكون توزيع السلطات بين الحكومات الإقليمية والحكومة المركزية(2).

والدولة الفيدرالية تقوم أصلاً للتوفيق بين تيارين متضادين، أولها هو التيار الاتحادي الناشئ من عوامل تدعو إلى الوحدة ، وأما الثاني فهو التيار الانفصالي الناشئ من عوامل تستمد من رغبة الشعوب والجماعات في التمتع بأكبر قسط من الاستقلال(3).

وأهم الملامح العامة للأنظمة الفيدرالية هي : أن هناك نظامان حكوميتان على الأقل لكل منهما استقلاليته الذاتية، يديران شئون المواطنين مباشرة، وتوزيع دستوري للسلطتين التشريعية والتنفيذية، وتقسيم موارد الدخل بين نظم الحكومة، ودستور أعلى لا يمكن تعديله من جانب واحد، وحكم مرجح أومرجع، وغالبا ما يكون محكمة اتحادية أو فيدرالية(4).

وقد ازدادت عدد الدول الفيدرالية في العالم حتى أصبحت 28 دولة فيدرالية، وتضم 40 % من سكان العالم(5) وهي دول متعددة القوميات تحتاج الجماعات القومية فيها إلى المزيد من الاعتراف بها والمزيد من الحكم الذاتي لها(6)، ومن أكبر الدول الفيدرالية في العالم: الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والبرازيل وألمانيا والهند ، وتصنف ثلاث دول أفريقية على أنها أنظمة فيدرالية واضحة وهي: نيجيرها وجنوب أفريقيا وإثيوبيا(7)، كما أن هناك دول أخرى ما زالت في طور التحول نحو النظام الفيدرالي.

ثانيا- تطور نظام الحكم في الصومال

عاش الشعب الصومالي تاريخياً قبائل رعوية في دويلات منفصلة، كل قبيلة أودويلة مستقلة بمجالها الجغرافي ومراعيها وأبار المياه الخاصة بها، ولم يعرف الصومال حكما مركزيا تنضوي جميع القبائل تحت لوائه. وكانت السلطات الاستعمارية المختلفة أول سلطة مركزية تخضع الصوماليين لحكم مركزى، على الرغم من محدودية التأثيرات الإجتماعية التى خلفتها تلك السلطات، نظراً لطبيعة الصوماليين الرعوية القائمة على الإنتقال والترحال الدائم مع الماشية بحثاً عن الكلأ والمراعى والمياه.

بدأت ملامح الدولة الصومالية تظهر بفرض الوصاية الإيطالية على محمية الصومال الإيطالي في الجنوب لمدة عشر سنوات (1950-1960) تمهيداً للاستقلال، حيث تم تقسيم المحمية إدارياً الى ست محافظات، كما انتخب إدارة صومالية تعمل تحت إشراف سلطات الوصاية.

وكان ميلاد الدولة الصومالية الحديثة باستقلال محمية الصومال البريطاني في الشمال فى السادس والعشرين من يونيو، واتحادهما في نفس اليوم، واستقلال الصومال الإيطالي في الجنوب بعده بخمسة أيام فى الأول من يوليو 1960، واتحادهما معاً في نفس اليوم. وجاءت وحدة الإقليمين بعد مفاوضات جرت بين ممثلين للمحميتين أعلن على أثرها عن وحدة مركزية اندماجية عاصمتها مقديشو، ونظام سياسي قائم على التعددية ، وقسمت الجمهورية إلى ثماني محافظات (ست في الجنوب واثنان فى الشمال).

ومن الملاحظ أن الطرفين لم يدخلا مفاوضات مستفيضة ومفصلة حول الوحدة والدولة الوليدة، وربما يعود ذلك إلى أنه لم يكن شكل الدولة الوليدة والمشكلات التى يمكن أن تواجهها واضحة في أذهان القيادات الصومالية التى كانت في تلك الفترة تسعى أن تكون الدولة الجديدة نواة لدولة الصومال الكبير ، كما كان حلم الصوماليين جميعاً فى تلك الفترة.

لم يستمر عرس الوحدة وتأسيس الجمهورية طويلاً حتى برزت إلى السطح خلال السنوات الأولى التالية للوحدة – عدة مشكلات، من بينها فقدان هرجيسا – عاصمة الإقليم الشمالى – ثقلها السياسى والإدارى، وضعف الاتصال بين مركز الدولة والأطراف بسب غياب البنية التحتية للبلاد، والتباين بين سقف التوقعات لدى المواطنين قبل الاستقلال وحقائق الواقع تحت كنف الدولة، والصعوبات الناجمة عن تباين نمط الاستعمارين (البريطاني والايطالى) فى الاقليمين المتحدين، مما أدى الى تذمر بعض الشماليين من الوحدة منذ وقت مبكر من عمر الدولة الصومالية. ورغم ذلك لم ينفجر الوضع السياسي، حيث ساهمت أجواء الحرية والتعددية والتداول السلمى للسلطة والأمل في التغيير من خلال الانتخابات -التى كانت تجرى في المستويات المختلفة للدولة فى تلك المرحلة (1960- 1969) – وتعامل الدولة المرن مع المواطنين من خلال آليات الحوار والمشاركة – فى تخفيف حدة التوتر وخيبة الأمل التى أحسها المواطنون تجاه دولتهم الوليدة .

دخل الصومال مرحلة سياسة حسَّاسة بعد تولى الجيش الصومالي مقاليد الحكم في البلاد في اكتوبر1969م، وقام العسكر على الفور بالغاء الدستور والمؤسسات المنتخبة، واعتقلوا القادة السياسيين، واغلقوا الصحافة، وقاموا بتأميم الشركات والممتلكات الخاصة، وقسمت البلاد من الناحية الإدارية إلى ثمانية عشر محافظة. وأضافت تلك الخطوة التى اتخذها العسكر طبيعة المركزية الإدارية للدولة الصومالية بقبضة عسكرية شديدة، لم يألف بها الشعب الصومالى فى مرحلتي ماقبل الدولة وبعد الاستقلال.

ونتيجة للظلم والاستبداد الذى مارسه النظام العسكري، والتى تصطدم مع طبيعة الشعب الصومالى الميَّالة نحو الحرية والاستقلالية، إضافة إلى التأثيرات السياسية والاقتصادية للحرب الصومالية الإثيوبية فى عامى 77/1978 على البلاد، ونشأة الجبهات المسلحة المدعومة من إثيوبيا ضد الحكومة المركزية(8) ، ورد فعل النظام العسكرى القاسى تجاه الجبهات والقبائل المتعاطفة معها – أدت كل هذه العوامل إلى تقلص سلطة الدولة المركزية تدريجيًا من الأطراف وانحصارها فى العاصمة والمناطق المحيطة بها، ونجحت الجبهات فى نهاية المطاف فى إسقاط النظام الحاكم فى يناير 199م.

وكان الاقتتال الداخلى الذى نشب بين الجبهات المتصارعة على حكم البلاد بعد عام 1991م إيذاناً بانهيار الدولة الصومالية بعد ثلاثة عقود من عمرها ، وفتح المجال واسعاً أمام دوَّامة العنف الداخلى والمزيد من التدخلات الخارجية الاقليمية والدولية ، مما جعل الشعب الصومالى الذى كان نموذجاً فريداً فى القارة الأفريقية من حيث التجانس والوحدة هو نفسه مرة أخرى نموذجاً للفرقة والشقاق والاقتتال.

وكان قرار الإقليم الشمالى- أحد ركني الاتحاد الذى تشكلت منه الدولة الصومالية – انفصاله  فى مايو 1991م وإعلانه جمهورية أرض الصومال من جانب واحد حدثاً فارقاً في تاريخ الدولة الصومالية، وما عدا بعض السياسيين الذين يشاركون فى العمل السياسى الوحدي، فان إدارة أرض الصومال لم تشارك فى المؤتمرات الصومالية للمصالحة منذ انهيار الدولة الصومالية حتى الآن، حيث أصبحت الخريطة السياسية الصومالية تضم كيانين سياسيين منفصلين على أرض الواقع ، شمال معلن للانفصال ومستقر وجنوب تسوده الفوضى والاقتتال.

انحصر المشهد السياسى الصومالى فى فترة التسعينات من القرن الماضى فقط فى التحركات السياسية والدبلوماسية التى تقوم بها دول الجوار بين الحين والأخرى لكسر الجمود في مسار المصالحة الوطنية، وكانت تلك المؤتمرات تنتهى بعقد مؤتمر فى إحدى عواصم دول الجوار، وكانت فى العادة تنتهى بخلافات بين قادة الفصائل فى المراحل الأولية للحوار حول القضايا الإطارية للمفاوضات، وتفشل قبل أن تصل إلى مرحلة التطرق إلى القضايا الجوهرية مثل صياغة ميثاق انتقالى أو الاتفاق على شكل النظام السياسي الملائم للصومال(9).

ومثل تأسيس إقليم بونت لاند (منطقة حكم ذاتى ) فى أغسطس 1998م بداية مرحلة جديدة رسمت مساراً مختلفاً لبناء السلام من القاعدة بدلاً من القمة. وجاء إعلان تشكيل إدارة بونت لاند على خلفية فشل مؤتمر القاهرة 1998م، وكان انسحاب عبدالله يوسف رئيس جبهة الخلاص الوطني أنذاك (التى كانت تسيطر على إقليم الشمالى الشرقى) من المؤتمر بعد اتهامه الحكومة المصرية بانحيازها لمنافسه حسين عيديد وخيبة أمله من قادة فصائل مقديشو، والغموض الذى اكتنف عموما مستقبل المصالحة وإعادة الدولة الصومالية – مبررات كافية لتفكير يوسف والأعيان من عشيرته فى تأسيس منطقة حكم ذاتى تقدم الخدمات الضرورية للمواطنين في غياب الدولة المركزية التى طال انتظارها.

وإذا كان تأسيس إقليم بونت لاند قد مثَّل بداية مرحلة جديدة لجهود بناء السلام والدولة من القاعدة فإن مؤتمر عرتا في جيبوتي عام 2000م مثَّل مساراً مختلفاً للمصالحة الصومالية وبناء الدولة المركزية، فقد أعلن رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيلَّى المؤتمر على منهجية مختلفة، قائمة على دعوة زعماء العشائر والأعيان وقادة المجتمع المدني والسياسيين والمثقفين، باعتبارهم الممثلين الحقيقيين للشعب الصومالي بدلاً من قادة الفصائل المسلحة الذين فشلوا في التوصل إلى اتفاق فيما بينهم خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، ونجح المؤتمر لأول مرة منذ عام 1991م في التوصل إلى اتفاقية لتقاسم السلطة على أساس عشائري، عبر ميثاق انتقالي، على أساسه تم تعيين أعضاء البرلمان، الذي انتخب بدوره رئيس الجمهورية عبد القاسم صلاد حسن في اغسطس 2000م.

اعتمد ميثاق عرتا في جيبوتي التقسيم الإداري للصومال المكون من ثمانية عشر محافظة إدارية للدولة، وهو التقسيم الذي أنشأه نظام سياد برى ( 1969-1991م) ، ولم يتضمن نظام الفيدرالية، رغم اتفاق الجميع في حينها على ضرورة توسيع السلطات الممنوحة للمحافظات والأقاليم الإدارية. وقاطع كل من إدارة بونت لاند وقادة الفصائل في مقديشو المؤتمر، كما لم يعترفوا بمخرجاته على الإطلاق.

قاد فشل حكومة عبد القاسم صلاد إثر معارضة قادة فصائل مقديشو وبعض دول الجوار لها – إلى مؤتمر جديد في امبجاتي 2001م، الذي أفرز حكومة عبد الله يوسف، ونص الميثاق الانتقالي -الذي صادقه المؤتمر – الفيدرالية نظاما للحكم في الصومال، بينما تُرِك التفاصيل للمراحل اللاحقة .

ومنذ ذلك الوقت أصبحت الفيدرالية نصاً دستوريا وواقعاً على الأرض، ولم تعد بونت لاند الكيان الإقليمي الوحيد في البلاد، بل باتت هناك كيانات أخرى. وتجري جهود الحكومة الفيدرالية حاليا بالتعاون مع المكتب السياسي للأمم المتحدة في الصومال للانتهاء من استكمال إنشاء الحكومات الإقليمية في جميع ربوع الصومال قبل انتهاء ولاية الرئيس حسن شيخ محمود في أغسطس 2016م.

وقد تجاوز الواقع الصومالي حاليا الحديث عن مدى صلاحية الفيدرالية من عدمها، وإنما يجري الحديث حول ملامح الفيدرالية الصومالية، ومعايير تنفيذها على أرض الواقع، وعدد الأقاليم الي تتشكل منها الفيدرالية الصومالية، وهذا ما سوف تنناوله بقية محاور الورقة.

ثالثا- مبررات الفيدرالية في الصومال

ينقسم الصوماليون حيال رؤيتهم للفيدرالية -نظاماً للجمهورية الصومالية – حول معارض متخوف منها ومؤيد مستميت في الدفاع عنها، وبين هذا وذاك مؤيد أو معارض متحفظ على بعض معطيات الفيدرالية، وبغض النظر عن رأي النخب السياسية والأكاديمية الصومالية المؤيدة أو المعارضة لها لأسباب منطقية، فإن الغالبية من الشعب من المؤيدين والمعارضين لها على السواء ينطلقون من مواقف قائمة على الشك والتخوف من الطرف الآخر، واستدعاء تجارب الماضي المرير مع الدولة المركزية، والتوجس من تكرار سيناريوهات الحرب الأهلية.

وإذا انطلقنا من قاعدة (4.5) لتقاسم السلطة في الصومال(10) المقررة بالمواثيق الانتقالية لتحديد المؤيدين والمعارضين للفيدرالية، فإن ثلاثة من القبائل الأربعة الكبار (الدارود ودجل ومرفلى وغالبية قبائل الدر) على الأقل تؤيد الفيدرالية، وشرعت بعض القبائل منذ وقت مبكر في بناء مؤسسات الحكم الذاتي في المناطق التي تسكنها، وتعيش منذ فترة الفيدرالية واقعاً يصعب تغييره أو التراجع عنه. وتكثر معارضة الفيدرالية في أوساط قبيلة الهوية. أما القبائل الصغيرة فليس لديها موقف واضح من الفيدرالية، ولديها شكوك ومخاوف من عدم حصولها على حقوقها في المستويات المختلفة للحكم.

وتقوم مبررات الفيدرالية لدى العشائر المؤيدة لها من تخوفها من الدولة المركزية في مقديشو وخطورة سيطرة عشيرة أو مجموعة معينة مقاليد الحكم ومفاصل الدولة، وما يمكن أن يحدثه ذلك من أضرار بالغة على العشائر الأخرى تماما مثلما جرى في عهد الرئيس سياد برى، كما أنها تتخوف من أن يؤدي النظام المركزي إلى تركيز العاصمة واستئثارها لمعظم مخصصات التنمية، وتهميش المحافظات والأطراف.

أما عشائر الهوية فبحكم كونها تسكن في قلب الدولة الصومالية متمثلاً في العاصمة والمناطق المحيطة بها ومحافظات الوسط، فإنها تتخوف من فقدان العاصمة مركز الدولة أهميته في حالة تنفيذ الفيدرالية ومنح بعض سلطات المركز للحكومات الإقليمية. وتكمن مشكلة قبائل الهوية في أنها علقت آمالها – منذ انهيار الدولة الصومالية – في الحكومة المركزية، ولم تبذل الجهود الكافية لاستعادة الأمن والاستقرار وتنمية المناطق التي تسكنها، وإقامة حكم محلي لها، وساهمت الحروب والصراعات الشديدة التي شهدتها مناطق الهوية – أكثر من غيرها – في تخلف تلك المناطق وتأخر عملية بناء المجتمعات المحلية فيها.

وبغض النظر عن الانطباع الإيجابي أو السلبي لدى الشارع الصومالي تجاه الفيدرالية، والنسب الرافضة أو المؤيدة لها، فإن مبررات الفيدرالية الصومالية، استنادا إلى الحقائق على الأرض، والخبرة الموروثة من ثلاث عقود من الحكم المركزي، وعقدين من الحرب الأهلية، وخبرة البلدان الفيدرالية – قائمة على خمس حقائق رئيسية، هي: الانقسام الحالي للبلاد، والتعددية القبلية، وواقع الفيدرالية، والتنمية المحلية، وغياب البديل.

(أ) الانقسام الحالي للبلاد: إذا نظرنا إلى الخريطة السياسية للصومال نجد أنه غير موحد سياسيا، فهناك عدة كيانات سياسية، بعضها غير معترفة بالحكومة الفيدرالية كما هو الحال في إقليم (أرض الصومال)، وبعضها الآخر يتصرف قادتها كما لو أن هذه الأقاليم دول مستقلة ذات سيادة كما يحدث في بونت لاند، إضافة إلى المناطق التي تقع خارج سيطرة الحكومة المركزية والحكومات الإقليمية. وإذا كانت هذه الحواجز السياسية على الأرض فإن الحواجز النفيسة والاجتماعية التي خلفتها الحرب الأهلية مازالت موجودة في أذهان الكثير من أفراد الشعب الصومالي وقياداته.

وعلى هذا الأساس فإن النظام الفيدرالي الذي يوفر مستويين من الحكم ربما يكون ملائما لمعالجة الانقسام وإعادة توحيد البلاد، وتمثل الفيدرالية تدابير وقائية لمنع تفكك البلاد، وإقناع الشعب الصومالي في إقليم أرض الصومال – المعلن للانفصال – باستقلال حكم منطقتهم وإدارة شؤونهم الخاصة، مع الاستفادة من مزايا الحكم الفيدرالي والمشاركة الفعَّالة في المؤسسات الفيدرالية، والحيلولة دون أن تصل الأمور في مناطق أخرى إلى مرحلة اليأس، ومن ثمَّ الاقتناع بالانفصال عن جسم الدولة الصومالية نهائيا.

(ب) واقع الفيدرالية: لقد تجاوز الواقع الذي يعيشه الصومال حاليا مرحلة الحديث عن مدى ملائمة الفيدرالية للصومال من عدمها، فهناك حكومات إقليمية في معظم المناطق الصومالية لها برلماناتها ودساتيرها وأعلامها وأناشيدها الوطنية، فحكومة بونت لاند الإقليمية احتفلت في أغسطس الماضي ذكرى تأسيسها السادسة عشر، ويرى قادتها أن وضع الإقليم القائم على أساس الفيدرالية إنما تمثل نموذجا فريداً للتوازن بين موقفين متباينين، بين مركزية مقديشو وانفصالية أرض الصومال(11). وتعيش أرض الصومال واقعا انفصاليا منذ عام 1991م، ويبدو أن الشعب الصومال في الإقليم لن يقبل العودة إلى أحضان الوحدة فيما دون الفيدرالية على الأقل.

وليس النظام الفيدرالي في الصومال واقعاً على الأرض فقط وإنما هو أيضا واقع دستوري، فمنذ أن تم إقراره في الميثاق الانتقالي الذي أقره مؤتمر امبجاتي في كينيا – قبل أكثر من عقد من الزمان حتى الآن – لا يزال مادة دستورية لم تخضع للتعديل، ولم تصل الأصوات المعارضة للفيدرالية حداً تصبح فيه واقعاً يفرض مناقشتها في مؤسسات الدولة بما فيها البرلمان الفيدرالي.

ومن الصعوبة بمكان تغيير ذلك الواقع السياسي والدستوري الذي تجذر خلال تلك المدة، وتأسيس واقع جديد مختلف عما هو عليه الآن، فترسيخ ذلك الواقع وإجرا التعديلات الضرورية له عبر الحوار في كافة المستويات، والوصول إلى حلول وسط أسهل بكثير من تغييره، واحلال نظام سياسي واداري جديد للدولة الصومالية في المرحلة الراهنة.

(جـ) النتمية المحلية: من أهم مبررات الفيدرالية في الصومال تحقيق التنمية المحلية، حيث يتوقع أن يؤدي تقريب الحكم إلى المواطنين – الذي هو أحد أهداف الفيدرالية – عبر الحكومات الإقليمية إلى زيادة إحساس المواطنين بأن إدارة شؤونهم الخاصة بأيديهم، بدلا من انتظار المركز(12). ويعتمد دور الحكومات الإقليمية في التنمية المحلية في قدرتها على تنفيذ السياسات الاقتصادية على الأرض بشكل أكثر فعالية وشفافية وتأثيرا من حكومة مركزية بعيدة في عاصمة البلاد(13). وكما تساهم الفيدرالية في تحقيق التنمية المحلية فإنها تساهم أيضا في خلق اقتصاد الوفرة الانتاجية من خلال الدمج بين الأقاليم والمدن والبلدات الصغيرة، وفي تحقيق التوازن المطلوب بين المركز والأقاليم(14).

ويدعى البعض بأن النظام الفيدرالي يكلف أكثر من النظام الوحدوي المركزي بسبب كثرة الإدرات والمؤسسات في المستويات المختلفة للحكم، وهذا غير دقيق، فقد تكون الحكومات معقدة ومتعددة المستويات والطبقات في الدول الفيدرالية، ولكن ذلك ينظبق أيضا على بعض الدول التي لديها مستويات متعددة من الحكومات المحلية والاقليمية والبلديات، والفرق الجوهري بين النظامين – في تلك الحالة – يكمن فقط في الاستقلالية الدستورية التي تتمتع بها بعض المستويات الحكومية في النظام الفيدارلي(15).

(د) التعددية القبلية: إذا كانت التعددية الإثنية واللغوية أحد مبررات الفيدرالية لدى الكثير من دول العالم فإن التعددية القبلية في الصومال تعد بمثابة التعددية الإثنية واللغوية، وتقوم القبائل بنفس وظيفة القوميات، ويعتبر اليمن أقرب النماذج إلى الصومال من حيث البناء الإجتماعي ودور القبيلة السياسي والاجتماعي في البلدين(16)، وقد تكون ليبيا غير بعيدة عن هذا الإطار.

وقد آن الأوان الذي يعترف فيه الصوماليون بالتعددية العشائرية واقعاً لا يمكن تجاهله، بل يجب العامل معه، واعترفت بعض الدول الفيدرالية الناجحة في العالم ( مثل كندا وسويسرا) بالتنوع الإثني واللغوي، وتعَّرف دولها على أنها فيدراليات إثنية ولغوية(17)، وفي الحقيقة تخلى الكثير من الدول عن فكرة استيعاب الجماعات القومية أو اللغوية أو الدينية، واقتنعت بدلاً من ذلك في نهاية المطاف بالتعايش معها(18).

ويرفض البعض النظام الفيدرالي بحجة أنه يرسخ الحدود الفاصلة بين القبائل، ويكرِّس القبلية، مما يحول دون الاندماج الوطني، ويخلق صراعات قبلية لا تنتهي، وفي المقابل يعتقد آخرون أن الفيدرالية سوف تؤدي إلى تنافس بين الأقاليم الجغرافية التي تضم قبائل متعددة، بدلا من التنافس القائم بين القبائل حاليا(19)، ومن المؤكد – استنادا إلى خبرة الدول التي تضم مواطنين من جماعات مختلفة – أن الصراعات بين الجماعات لن تنتهي، ولكن يتم إدارتها بآليات مقررة دستوريا في الدول الفيدرالية الديمقراطية بدلاً من انفجارها في أوضاع متوترة(20) .

(ه) غياب البديل : يطرح المعارضون للفيدرالية في الغالب بحجج ومبررات مختلفة، ومن تلك المبررات أن الفيدرالية من صنع دول الجوار (إثيوبيا وكينيا)، وتهدف إلى تقسيم البلاد، وأن البرلمان الذي أقره معين وغير منتخب، ومن ثمَّ يجب إجراء استفتاء عام على النظام الفيدرالي قبل أن يتم تنفيذه على أرض الواقع(21). ونجد أن بعض المعارضين للفيدرالية في الحقيقة لا يعارضون الفيدرالية ذاتها وإنما يعارضون طريقة تقسيم الأقاليم وإنشاء البعض الآخر منها ، وبعضهم يتحفظ على حدود بعض الأقاليم الحالية. وفي الحقيقة لا يطرحون بدائل عملية قابلة للتنفيذ.

إن غياب البديل العملي للنظام الفيدرالي في الوقت الحالي يعد من أهم المبررات لاعتمادها في الصومال، باعتيارها واقعاً ومنصوصاً عليها في الدستور ، وتؤيدها الأغلبية من القبائل الصومالية، وعلى هذا الأساس ينبغي أن يكون التركيز في هذه المرحلة النقاش حول شكل الفيدرالية، ومعايير تشكيل الإدارات الإقليمية ، وأن يكون النقاش حول التشريعات المنظمة للعلاقة بين الحكومة الفيدرالية والحكومات الإقليمية.

 رابعاً- ملامح الفيدرالية الصومالي

 ليست الفيدرالية نظاما جامداً على نمط واحد يناسب كل دولة، ويتم وضعه في قوالب معينة، وإنما هي قواعد مرنة تكيِّف كل دولة اعتباراتها السياسية والاجتماعية لتتماشا معها، وعندما يتم تنفيذ الفيدرالية في بيئة معينة يكون المنتج نموذجاً مختلفاً له ملامحه الخاصة به، وعلى هذا الأساس يطلق على الولايات المتحدة الأمريكية – باعتبارها واحدة من أقدم الفيدراليات في العالم – بأنها معامل الديمقراطية ( Laboratories of Democracy)(22)

وانطلاقا من ذلك فإن للفيدرالية الصومالية ملامحها الخاصة بها نوجزها في ثلاث ملامح رئيسية هي : فيدرالية طوعية غير مفروضة من سلطة مركزية قوية، وهي أيضا فيدرالية تفكيك وإعادة التوحيد من جديد، وأخيرا فيدرالية يمثل الجتمع الدولي فيها- عبر المكتب السياسي للأمم المتحدة في الصومال- طرفا أساسياً في تنفيذها.

(أ) فيدرالية طوعية : تتميز الفيدرالية الصومالية بأنها فيدرالية طوعية اختيارية، وليست هناك سلطة مركزية قوية تفرض النظام الفيدرالية من القمة على الوحدات المكونة لها كما جرى في بعض الدول الفيدرالية، مع اعترافنا بأهمية وجود سلطة مركزية توازن النزعات الانفصاية وحماية الوحدة.  وإذا كانت الوحدة الأولى التي تمت بين المحميتين الصوماليتين الإيطالية والبريطانية في الأول من يوليو 1960م  التي أنتجت الدولة الصومالية- وحدة طوعية، جاءت تعبيراً صادقاً عن رغبة الشعب الصومالي في الوحدة والعيش معاً، فإن إعادة توحيد الصومال من جديد -عبر النظام الفيدرالي – لن يكون أيضا إلا برضى الشعب في جميع مناطق الجمهورية، ولن يأتي ذلك إلا بالتفاوض والتنازل المتبادل والوصول إلى حلول وسط.

 ومن المؤكد أن الأنظمة الفيدرالية التي تنشأ بصورة طوعية لديها فرص أكبر في البقاء والاستمرار من مثيلاتها القائمة على القوة والإكراه، كما أن الأنظمة التي تأسست تنيجة مفاوضات بين مكوناتها المختلفة تحظى على الشرعية لدى المواطنين، ولديها القدرة على نشر قيم التسامح والتعايش بين مواطنيها(23)، وفشلت بعض الفيدراليات الشكلية المفروضة من القمة بالقوة وانهارت مع مرور الوقت كما جرى في أنظمة الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وتشوسلوفاكيا السابقة(24)، وبعضها الآخر المتبقي منها ما زال قائما بفضل قوة السلاح لدى الدولة المركزية في صراع مع الزمن للبقاء.

(ب ) فيدرالية التفكيك والتوحيد معاً: من ملامح الفدرالية الصومالية أنها فيدرالية تفكيك وإعادة التوحيد معاً، فالفيدراليا في العالم عادة ما تتم عبر احدي طريقتين، الأول هو: تفكيك وحدة مركزية قائمة إلى وحدات إقليمية عبر منح بعض سلطات وصلاحيات المرز للأقاليم. والثاني هو: اتحاد عدة دول مستقلة في الأساس على نظام فيدرالي موحد عن طريق تنازل تلك الدول عن بعض صلاحياتها السيادية للدولة الفيدرالية. والفيدرالية الصومالية الحالية هو تفكيك للوحدة والدولة لمركزية الصومالية التي تأسست عام 1960م، ومن ناحية أخرى تمثل اتحاداً جديداً بين مكونات الدولة الصومالية المركزية التي تفككت خلال العقدين الماضيين من الحرب الأهلية إلى أجزاء متناثرة ومتقطعة لا يجمعها حكم مركزي فعلي على أرض الواقع  وإن لم تأخذ بعد شكل الدول المستقلة التي تتمتع بالصفة القانونية للاستقلال .

 وعلى هذا الاساس ينبغي أن يدرك الصوماليون جميعا قيادة وشعبا أن مركزية الدولة الصومالية الشديدة بالمسحة العسكرية الدكتاتورية لم تجد نفعا، وفشلت في الحفاظ على وحدة البلاد، وبنفس الدرجة فإن حالة الانقسام والتشرم التي عاشها الصوماليون خلال مرحلة الحرب الأهلية ومحاولة فرض نظام أحادي من طرف واحد لن تعيد الدولة الصومالية ولن توحد الشعب الصومالي من جديد، لذا ينبغي أن نستفيد من تجربة المرحلتين ونستخلص منهما الدروس، وندرس تجارب الدول الفيدرالية التي تمت عن طريق التفكيك أو التوحيد لإعادة كيان الدولة الصومالية من جديد على أسس مختلفة وعلى عقد إجتماعي جديد.

(جـ ) فيدرالية برعاية دولية : تنفرد الفيدرالية الصومالية عن بعض مثيلاتها في الدول الأخرى أنها فيدرالية برعاية وإشراف دولي، وليست شأنا داخليا يخص الأطراف الصومالية وحدها، فالاعتبارات السياسية الناشئة عن ظروف الحرب الأهلية، وانهيار الدولة الصومالية والأوضاع الانسانية الناتجة عنها، وعدم قدرة الصومال القيام بسئولياته أمام مواطنيه وأمام المجتمع الدولي كدولة – أدي إلى تدخل المجتمع الدولي في شأن الصومال عسكريا وسياسياً، ووضع الصومال في حالة شبه وصاية عليه تشبه الوصاية الدولية التي وضع فيها قبيل الاستقلال في الفترة ما بين (1950-1960م ).

وتعيش الحكومات الصومالية منذ عام 2000م في أحضان المنظمات الدولية ، ويقوم كل من المكتب السياسي للأمم المتحدة في الصومال ومنظمة الإيجاد والاتحاد الأفريقي – من خلال قوات حفظ السلام الأفريقية في الصومال – بدور الراعي والمشرف للعملية السياسية برمتها، ويقوم مبعوث الأمم المتحدة للصومال بدور المرجع في حل الخلافات السياسة بين الأطراف الصومالية ، كما يوقع الاتفاقيات بين الأطراف الصومالية بصفته طرفا أصيلاً في العملية.

خامسا – التحديات أمام الفيدرالية الصومالية: 

على الرغم من أنه ليس أمام الصوماليين حاليا من خيار آخر سوى السير قدما لتنفيذ النظام الفيدرالي، إلا أن الطريق نحو إعادة بناء الدولة الصومالية عبر النظام الفيدرالي وعر وشائك، وأمام الصوماليين تحديات جسام تتطلب قدراً كبيراً من الصبر والشجاعة والوضوح، وبذل المزيد من الجهود، وتعاون الجميع للتغلب عليها. 

ومن أهم تلك العقبات: المهمة المزدوجة والصعبة للحكومة الفيدرالية، ونقص الموارد المالية، ومعضلة التوقيع بين الحدود القبلية وحدود الأقاليم، وعدم وضوح الفيدرالية في أذهان الصوماليين، وسياسات دول الجوار ومحاولاتها ليتماشى نظام الفيدالية في الصومال مع مصالحها القومية.

 (أ) المهمة المزدوجة للحكومة الفيدارلية: يعتبر مهمة الحكومة الفيدرالية حاليا مزدوجة وصعبة للغاية، وتلقي عبئا سياسيا واقتصاديا ثقيلا عليها، حيث تأتي العملية السياسية الحالية بعد حرب أهلية طال أمدها، ودمرت فيها مؤسسات الدولة بصورة كلية. 

وتكمن الصعوبة في عمل الحكومة الفيدرالية من ناحية، على إعادة بناء مؤسسات الدولة وإعداد التشريعات اللازمة لتنفيذ الفيدرالية، وإعادة بناء الجيش الصومالي وباقي مؤسسات الدولة، ومن جانب آخر، عليها أن تعمل مع الحكومات الإقليمية والمجتمعات المحلية في تأسيس الأقاليم وتشكيل الإدارات المختلفة لها، مما يمثل تحديا كبيرا أمام المؤسسات الفيدرالية الهشة.

(ب) نقص التمويل اللازم لبناء النظام الفيدرالي: ويمثل نقص الموادر المالية الكافية لدى الحكومة الفيدرالية لبناء المؤسسات في ظل غياب الدعم الدولي الحقيقي للصومال تحديا آخر تواجه عملية إعادة بناء الدولة الصومالية في مرحلة التأسيس الصعبة والدقيقة. 

وبالإضافة إلى ذلك فإن تفاوت الموادر الاقتصادية بين الأقاليم، وعدم قدرة الدولة المركزية في سد الفجوة بين تلك الأقاليم بعد استكمال انشائها للوصول إلى الحد الأدنى من التنمية المحلية – سوف تزيد الأمور تعقيدا، وقد واجهت بعض الدول الفيدرالية كالهند والفلبين مشكلات من هذا القبيل(25)، كما أن اليمن الذي يسعى إلى التحول نحو الفيدرالية لديه نفس الهاجس(26).

(جـ) معضلة التوفيق بين الحدود القبلية وحدود الأقاليم: إن تقسيم الصومال حاليا إلى أقاليم حسب الدستور الصومالي قائمة على حدود المحافظات الثمانية عشر التي أنشأها نظام سياد بري (1969-1991) دون تغيير، حيث تم على أساسها إنشاء خمسة أقاليم، إضافة إلى إقليم (أرض الصومال) المعلن للانفصال من جانب واحد(27)، وهو في وضع خاص يتم التفاوض معه لاستعادة وحدة الجمهورية، وتضم الأقاليم الخمسة القائمة حاليا قبائل مختلفة، ولا تتطابق حدود تلك الأقاليم مع حدود القبائل. 

وتمكن المعضلة في رغبة كل قبيلة (القبائل الكبيرة على الأقل) أن تكون لها إقليمها الخاص، كما أن بعض الأقاليم التي تتمتع بالحكم الذاتي والتي أنشئت على أساس عشائري قبل أن وضع الدستور، والتي تؤثر عليها المعايير التي يضعها الدستور لإنشاء الأقاليم كما هو حال إقليم بونت لاند،تريد أن تبقى كما هي، وتمثل مدينة جالكعيو نموذجا لتلك المعضلة فهي مقسمة حاليا بين إقليم بونت لاند وجلمدغ، والمدينة إداريا عاصمة إقليم مدغ، ولهذا السبب فإن حكومة بونت لاند تعارض إنشاء إقليم جلمدغ الذي يشمل محافظتي مدغ وجلجذود، حيث تصبح المدينة على هذا الأساس جزءا من إقليم جلمدغ، ومن المستحيل إعطاء كل قبيلة إقليما معينا، ومن المتوقع أن تثير بعض القبائل الكبيرة التي تجد نفسها إقلية في بعض الأقاليم.

 وليس هذه المشكلة خاصة بالصومال، وإنما هي مشكلة قديمة واجهتها، معظم الدول الفيدرالية متعددة الإثنيات واللغات صعوبة في التوفيق بين المعضلتين، منها الهند والفلبين(28)، وتجنبت الولايات الحدودية عند رسم حدود ولاياتها لحظة التأسيس أن تتطابق مع رغبة بعض الجماعات التي كانت تسعى لتحقيق ذلك الهدف.

(د) سياسة دول الجوار تجاه الفيدرالية: يعتبر الصراع الصومالي-الإثيوبي الكيني في الماضي أكبر محدد لعلاقة الصومال مع جاريتيه الأفريقيتين إثيوبيا وكينيا، ويقوم ذلك الصراع حول منطقتي أوجادين وأنفدي، ومثل انهيار الدولة الصومالية عام 1991 للدولتين فرصة ثمينة لاستغلال الوضع وانهاء الصراع لصالحهما، بل والتحكم في مصير الصومال نفسه، والتمدد على الأراضي الصومالية، وملئ الفراغ الذي خلفته الدولة الصومالية المركزية، وذلك عبر استحواذ ملف المصالحة الصومالية، وخلق أصدقاء مقربين لهما، والمشاركة في تشكيل إدارات محلية، وأخيرا المشاركة بقواتهما في عملية حفظ السلام الأفريقية في الصومال ضمن البعثة العسكرية للاتحاد الأفريقي في جنوب الصومال. 

ولدى الصوماليين نتيجة لذلك، مخاوف من استغلال الدولتين – عن طريق نفوذهما في الأقاليم وقادتها – للنظام الفيدرالي الحالي، حيث يتخوف أن تؤدي منح اسقلال دستوري لبعض الأقاليم ضمن الإطار الفيدرالي إلى زيادة ارتباط بعض الأقاليم بمركزي أديس أبابا ونيروبي أكثر من ارتباطها بمقديشو مركز الدولة الصومالية(29)، مما يتطلب وقتا طويلا وحنكة سياسية لاستعادة قوة الدولة الصومالية، والسيطرة الفعلية على حدودها وممارسة سيادتها الوطنية على أراضيها.

(ه) غموض مفهموم الفيدرالية لدى الرأي العام الصومالي: من أكبر التحديات التي تواجه الدولة الصومالية حاليا الصورة الذهنية المسبقة الخاطئة عن الفيدرالية لدى المواطنين المؤيدين والمعارضين على السواء، ومن ثم تأييد مطلق لها دون إدارك التحديات التي تواجه النظام الفيدرالي، أو رفض مطلق دون طرح بدائل مناسبة لها. 

وتحدد أسباب ذلك إلى التصورات الخاطئة لدى بعض المؤيدين الذين يعتقدون أن الفيدرالية سوف تمنحهم حق استقلال الثروات الطبيعية،  وأن الأقاليم سيكون من حقها توقيع العقود مع الشركات الأجنبية، والحصول على العوائد المالية، وأنهم من يقرر النسب المقررة للحكومة الفيدرالية من تلك الثروات(30)

كما يعتقد الطرف الآخر أن الفيدرالية ما هي إلا مؤامرة قبلية أو إقليمية لتقسيم الصومال والقضاء على السلطة المركزية في مقديشو دون وضع الاعتبار للمطالب المشروعة لدى الكثير من المجموعات الصومالية التي تعبر عن رغبتها للفيدرالية نظاما للحكم في البلاد. وتزداد انتشار الصورة الخاطئة والمضللة عن الفيدرالية بسبب الاستقطاب الحاد والمزايدات السياسية، وعزف بعض السياسيين وتر القبلية والإقليمية الحساس في أوقات الأزمات السياسية، والاتهامات المتبادلة بين القادة السياسيين، مما يشحن المواطن العادي ضد الحكومة الفيدرالية او إقليما معينا. 

وتقوم وسائل الإعلام المختلفة دورا كبيراً في تضليل الرأي العام الصومالي تجاه الفيدرالية، وترسيخ المفاهيم الخاطئة عنها، والملاحظ في وسائل الإعلام المختلفة غياب البرامج الحوارية السياسية التي ترسم المعالم الواضحة للفيدرالية وتبرز سلبياتها والمآخذ عليها، وتوضح لرأي العام أنها ليست حلا سحريا، وإنما هي آلية من آليات الحكم يمكن إساءة استخدامها، أو تنطبق طبقا لمعايير معينة لتجاوز الانقسام الذي يعاني منه الشعب الصومالي.

سادساً- عوامل مساعدة لنجاح الفيدرالية

هل كتابة الدستور وإجراء بعض التعديلات عليه، وإنشاء الوحدات المكونة للفيدرالية ومنحها بعض السلطات كفيلة بأن تقف الدولة الصومالية على الطريق الصحيح، وتتغير أحوال الشعب الصومالي البائسة منذ عقدين من الزمن إلى الأفضل؟ هناك فرق كبير بين التنظير والتطبيق ، بين ما هو في الدساتير أو في مخيلة الناس وما ينفذ على الأرض،  فكما أن تجانس الشعب الصومالي من حيث التاريخ المشترك واللغة والثقافة والمعتقدات لم تؤدي تلقائيا إلى تحقيق وحدة وطنية تقود نحو الاستقرار وتماسك النسيج الاجتماعي والرفاهية – فإن اعتماد الفيدرالية نظاما سياسيا للحكم غير كاف لتحقيق الاستقرار والتنمية والتعايش السلمي ما لم تصاحب تلك الخطوة خطوات وعوامل أخري ضرورية لنجاح الفيدرالية.

وأولى تلك العوامل تتمثل في ضرورة أن تكون هناك ممارسة حقيقية للديمقراطية على الأرض التي تعني المشاركة والمحاسبة وسيادة القانون في المستويات المختلفة للحكم والتعاون بين الجميع، والنظام الفيدرالي  يعني (من بين ما يعني) المشاركة في الحكم ، كما يعني تماما الحكم الذاتي، ويلاحظ أن المشاركة الشعبية حالياً في تنفيذ النظام الفيدرالي وفي تأسيس الوحدات المكونة للفيدرالية ضعيف، وعادة ما تقرر النخب السياسية غير المنتخبة في غرف مغلقة بمنأى عن القواعد الشعبية مستقبل الصومال السياسي، وهو أمر لا يبشر بالإطمئنان ويجب إدراك خطورته.

وينبغي أن يكون هناك الوعي الكافي لدى المواطنين في إدراك متطلبات المرحلة، وأن تكون هناك محاسبة حقيقية للمسئولين، وخاصة مسئولي الأقاليم بعد أن أصبحت لديهم الصلاحيات الكاملة والمسئولية المباشرة أمام المواطنين لخدمتهم، وألا يسمح لهم بإثارة المشكلات بين المركز والأقاليم، والعزف على وتر القبلية والإقليمية لصرف الأنظار عن اخفاقاتهم أو التنصل من مسئولياتهم، كما يجب أن يكون هناك تعاون تام بين الجميع، وألا تكون المصالح العليا للشعب الصومالي ومصيره السياسي مجالاً للمزايدات والمناورات بين القادة عند المناسبات السياسية.

ولنجاح الفيدرالية من الضرروري أن تكون هناك خطط لإقامة بنية تحتية تتمثل لإنشاء طرق سريعة لدعم الوحدة والاندماج الوطني وربط المركز بالأقاليم، وبين الأقاليم نفسها، ولتسريع وتيرة التنمية المتوازنة في البلاد وتسهيل حركة البشر والبضائع. ويعتبر إعادة بناء الطريق القديم الذي يربط بين الجنوب والشمال ماراً بوسط البلاد ضرورة ملحة لمرحلة إعادة بناء الدولة الصومالية عبر الفيدرالية، ومن المهم أن يكون لكل إقليم ميناء خاص له ، وأن تكون هناك طرق عرضية تربط بين المواني وعواصم الأقاليم أو الولايات، وسوف تكون الحاجة ماسة في المستقبل القريب لانشاء طريق ساحلي يمر بموازات الساحل الصومالي الطويل، وانشاء خطوط مواصلات بحرية بين المدن الممتدة على الساحل(31).

ومن العوامل المهة لنجاح الفيدرالية في الصومال العمل على إيجاد أحزاب قومية تتخطى حدود الأقليم وتنجح في كسب مؤيدين لها في جميع أقاليم الجمهورية، وهو أمر يساعد على تدعيم الوحدة الوطنية وإزالة الحواجز الإقليمية والقبلية، وكان من نجاح نجاح بعض الفيدراليات في العالم مثل كندا وسويسرا وجود مثل تلك الأحزاب الوطنية المتعددة اللغات(32)، كما كان أحد أسباب نجاح فيدرالة الهند تجاوزها من سيطرة حزب المؤتمر التقليدية على الحكم لفترة طويلة إلى نظام متعدد الأحزاب بعد أن استطاع تحالف أحزاب صغيرة متعددة هزيمته والوصول إلى الحكم(33).

وأخيراً  يجب أن يدرك الصوماليون أن الطريق الذي ينتظرهم لإعادة بناء دولتهم المنهارة ليس سهلا ويتطلب لوصول نهايته الكثير من التضحيات، إن مشكلتنا ليست مع شكل نظام الحكم السياسي أو الإداري الذي نختاره، ولكن مشكلتنا الحقيقية تكمن في عدم استعدانا بعد للعيش المشترك والمواطنة المتساوية والشراكة الحقيقية، رغم توفر الأساس والمقومات لذلك، فهل حان الأوان لتحقيق ذلك.

خريطة للوحدات المكونة للفيدرالية الصومالية

 image

الخريطة من تركيب الباحث

الهوامش

(1) هكار عبد الكريم فندي – الفيدرالية مفهوما وتطبيقا، ، الطبعة الأولى 2009م، دهوك- العراق، ص 11-12 .

(2) فتحي شهاب الدين، المصطلحات السياسية والاقتصادية، مؤسسة اقرأ، القاهرة 2011، ص 77.

(3) د. شورش حسن عمر، خصائص الظام الفيدرالي في العراق- دراسة تحليلية مقارنة، مركز كردستان للدراسات الاستراتيجية،2009م ص 30 .

(4) رونالد  ل. واتس، نماذج المشاركة الفيدرالية في السلطة، المعهد الوطني الديمقراطي في بيروت، ص 7 .

(5) جوج أندرسون، مقدمة عن الفيدرالية، ، ترجمة مها تكلا، منتدى الاتحادات الفيدرالية، 2007 ، ص 10.

(6) سيلين أوكلير، الفيدرالية – مبادئها ، مرونتها وقصورها، مجلة الاتحادات الفيدرالية، المجلد 5 عدد خاصن خريف 2005، أوتوا –كندا، ص 5 .

(7) Michel Burgess, Federalism in Africa, An Essay on Impacts of Cultural diversity, Development and Democracy, The Federaal Idea, January 2012, P. 3

(8) لمعرفة المزيد من نتائج الحرب الصومالية- الإثيوبية راجع محمد إبراهيم عبدي، مشكلة الصومال الغربي وأثرهاعلى العلاقات العربية الأفريقية، دار الفكر العربي، الطبعة الأولى ن القاهرة 2010ن ص 99-107.

(9) للمزيد من نتائج مؤتمرات المصالحة الصومالية راجع : حسن محمود عبد الله، الجبهات الصومالية النشأة والتطور، دون ذكر مكان وتاريخ النشر، ص 130 وما بعدها.

(10) هذا القاعدة تم اعتمادها في مؤتمر عرتا في جيبوتي عام 2000م، ويتم تقاسم السلطة على أساسها منذ ذلك الوقت حتى الآن، وتسنتند إلى أن هناك أربعة قبائل كبيرة ، إضافة إلى مجموعة قبائل صفيرة تم ضمها مع بعض رغم أنه ليس بينها رابط قرابة أو نسب وذلك فقط لتسهيل عملية تقاسم السلطة، وتحصل على ما يساوي حصة قبيلة كبيرة وتطلق تلك القاعدة اختصارا ب (4.5) .

(11)   Faroole’s speech on federalism at Università Degli Studi Roma Tre (University of Rome III).Published on May 16, 2014 .

(12) Guidebook on the Provisional constitutions of Somalia, the UNDP/UNPOS, Joint Constitution Unit. August 2, 2012.

(13)  تمهيد حول الفيدرالية، العهد الديمقراطي الوظني، مرجع سابق، ص 6.

(14) خوسيه دي فينيسيا، سياسي فلبيني يرسم مسارا جديدا، مجلة الاتحادات الفيدرالية ، مرجع سابق ، ص16.

(15) تمهيد حول الفيدرالية، مرجع سابق، ص 5.

(16) للمقارنة راجع عارف أبو حاتم، فيدرالية اليمن عنوان لبناء الدولة أم للانهيار، 14/4/2014م، www. Aljazeeraa.net

(17) جون مكجاري، هل يستطيع النظام الفيدرالي على إدارة التعددية الإثنية والقومية، مجلة الاتحادات الفيدرالية، مرجع سابق،       ص 18 .

(18) سيلين أوكلير، مرجع سابق، ص5.

(19) ورد ذلك في محاضرة لرئيس وزراء الصومال عبد الولي شيخ محمد، نظمها مركز هريتيج( التراث) في فندق الجزيرة- مقديشو 4-8-2014م، وكان الباحث حاضرا فيها .

(20) سيلين أوكلير، مرجع سابق، ص5.

(21) Omar Salad Elmi, Federalismand Decentralization Options for Somalia, Organised by UNDP and UNPOS in assocition with TFG, 27-27 Non. 2008, Nairobi- Kenya, p 1.

(22)michael G. Roskin, et. all, Political Science and Interoduction,Senenth Edition, New Jersey, P. 232.

(23) جون مكجاري، مرجع سابق، ص 20 .

(24) نفس المرجع ص 17 .

(25) خوسيه دي فينيسيا، مرجع سابق، ص 16.

(26) عارف أبو حاتم، مرجع سابق.

(27) لمعرفة تلك الأقاليم راجع الخريطة في آخر البحث

(28) خوسيه دي فينيسيا، مرجع سابق، ص 16.

(29) صرح الرئيس الكيني السابق دانيال أرب موي الأسبق خلال زيارة له لأمريكا في سبتمبر 2003 في محاضرة القاها في جامعة الدفاع القومي العسكرية أن إثيوبيا وكينيا لا تدفعان في اتجاه قيام نظام مركزي قوي في الصومال عبر التاريخ وخصوصاً منذ الحرب الإثيوبية الصومالية عام 1977 ، نظراً لأن البلدين لديهما مخاوف من أن قيام أي نوع من الحكم في الصومال سيكون نواة مشروع الصومال الكبير .

(30) عارف أبو حاتم، مرجع سابق.

(31) راجع الخريطة في نهاية البحث

(32) جون مكجاري، مرجع سابق، ص 19.

(33) آش نارين روي، كيف نجحت الفيدرالية في العند، مجلة الاتحادات الفيدرالية، مرجع سابق، ص 9.

 

زر الذهاب إلى الأعلى