الترحم على “زمن” الديكتاتور  

تناقلت وسائل الإعلام العربية في يناير الماضي اعترافا صريحا ورد على لسان الدكتور إياد علاوي رئيس الوزراء العراقي السابق، ضمن حوار أجرته معه جريدة “الشرق الأوسط” قال فيه “إن العراقيين صاروا يترحمون على النظام السابق (صدام حسين)، بسبب اداء الحكومات التي أحرقت العراقيين بنار الطائفية والمحاصصة”

جاء هذا الاعتراف من الدكتور علاوي بعد ثلاثة عشر عاما من إسقاط نظام الرئيس العراقي السابق، وما أعقبه من أحداث سياسية وعسكرية في المنطقة لا تزال جارية حتى اليوم. ولم يكن صدام حسين هو الدكتاتور الوحيد الذي يترحم الناس على نظامه هذه الأيام، فهناك حالة عامة تكاد تكون مشتركة لدي كثير من شعوب البلدان العربية. وقد حدثت حالات مشابهة في الصومال وليبيا واليمن وربما البقية في الطريق.

كنت في مقهى في بغداد مع مجموعة من الزملاء العراقيين عقب سقوط صدام حسين، وكنا جميعا في حالة ذهول بسبب الأحداث المتلاحقة في العراق وقتذاك. وفي إحدى الجلسات تحدثت لهم عن خبرتي المتواضعة في الصومال، وكيف أصبحنا بعد فترة وجيزة من سقوط نظام الجنرال سياد بري ترحمنا عليه وعلى أيام حكمه وتمنينا عودته، وذلك بسبب الفوضى العارمة وما نتج عنها من حروب أهلية طاحنة أدت الي انهيار كامل للدولة.

قلت لزملائي على سبيل المزاح، هل سيأتي يوم على العراقيين يترحمون فيه على أيام صدام حسين ويودون لو يرجع الي الحكم، ويا ليتني لم انطق!، وقف جميع زملائي يستنكرون ما قلته، ورمقوني بنظرات حادة، لكنهم لم يخرجوا عن اللياقة، وكان كلامي ثقيلا عليهم وبدا أنني نكأت جرحا عميقا في داخلهم.

اعتذرت لزملائي وقلت لهم أنني أمزح، وشرحت لهم ما حدث في الصومال قبل ذلك بثلاثة عشر عاما وردوا على ” مستحيل أن يحدث ذلك في العراق” فقلت لهم وأنا أنسحب ” الأيام بيننا”، وتدخل أحد الزملاء وغير مجري الحديث فاستعدنا هدوءنا وعادت أجواء المودة والصفاء وتفرقنا على ذلك.

 كنت على اتصال مع زملائي العراقيين في السنوات التي أعقبت سقوط صدام حسين، وذكّرني بعضهم بما قلته في تلك الجلسة، واعترفوا لي بأنهم باتوا فعلا يترحمون على أيام صدام، حيث غطت الأحداث المروعة التي وقعت في العراق على مساوئ النظام السابق، وقال لي أحدهم إن ذلك ليس موقفا شخصيا وإنما هو حالة عامة في أوساط العراقيين غير المسيسين.

جميعنا يعرف المصائب التي جلبها الحكام العرب الديكتاتوريون الي بلادهم وما اقترفوه من جرائم في حق شعوبهم، ولكن الحقيقة هي أن ورثة الديكتاتورين من “ثوريين “و”مناضلين و”حركيين” الي ما هنالك من أسماء …كانوا أسوأ في كثير من الأحيان من الحكام الذين أطاحوهم بمساعدة من شتي المخابرات الأجنبية.

كشف ورثة الدكتاتوريين عن وجه قبيح وطريقة حكم رديئة، وفساد مالي وسياسي مريع، وطائفية مقيتة، وتبعية ظاهرة للأجانب، وتجاوزوا لل ما كان يعتبر ثوابت وطنية، وتبخرت جميع الوعود الكاذبة التي خدعوا بها الشعوب العربية وغيرهم من شعوب العالم ودوله، واتضح أن معظمهم تجار يعملون لصالح جيوبهم بغض النظر عن ذهاب الأوطان وبقائها.

أستعير هنا تعليقا نسب لسيدة مصرية بعد تنحي مبارك عن الحكم، قالت معلقة على ما حدث عقب سقوط مبارك بأنه ” الراجل ده كان جالس علي غطا البالوعة، فلما شالوه طلعت لنا كل الحاجات الوسخة” هذا الكلام العفوي من سيدة مصرية بسيطة هو تعبير بليغ لما حدث في كثير من البلدان العربية بعد سقوط الدكتاتوريين، حيث انفلتت الأمور بعدهم وتشرذمت البلاد علي يد من خلفوهم في السلطة، الذين لم يستطيعوا حتى الاحتفاظ بهيبة الديكتاتور فضلا عن أي شيء آخر.

لماذا كتب علينا نحن كعرب دون غيرنا من الأمم أن نُجبر في الاختيار بين العيش تحت حكم ديكتاتور، وبين الفوضى التي تأكل الأخضر واليابس؟ أعتقد أن هذا الأمر يستحق دراسة معمقة من مراكز الأبحاث العربية وهي كثيرة لتحليل هذه الأزمة والبحث عن حلول لها.

إن القاسم المشترك بين شعوب البلدان العربية التي سقطت فيها الأنظمة الديكتاتورية هو الشعور بالغبن والقهر معا، وهذا ما يجعل ذاكرتنا القصيرة تعود الي تلك الأيام القريبة فنترحم عليها ونتمنى أن تعود. في إحدى اعترافاته الشجاعة قال الرئيس الصومالي الراحل “عبد الله يوسف أحمد” الذي أسس أول جبهة معارضة مسلحة ضد نظام الرئيس سياد بري ” لو كنت أعرف أن الأمور ستؤول الي ما آلت اليه بعد إسقاط النظام، لما أطلقت رصاصة واحدة عليه، ولما أنشأتُ معارضة مسلحة ضده أصلا”

هذا الاعتراف من رجل عرف بالصراحة جدير بالاعتبار أيضا، ولعلنا نسمع اعترافات شجاعة مماثلة من الذين يتصدرون المشهد السياسي والحربي في بعض البلدان العربية حاليا.

وتحضرني نكتة صومالية شعبية قد لا يسمح المقام بتفاصيلها ولكنها تقول ” إن حراميا دخل علي منزل عائلة تتكون من ام وبنتها، فهجم الحرامي علي البنت ليغتصبها وأوقعها أرضا، فاستنجدت بأمها، فهبت الأم لنجدة ابنتها من المغتصب، وضربته بعنف، وتحول الحرامي الي الأم لينتقم منها، واغتصبها، لكن الذي حدث ان الأم عاشرت الحرامي بهدوء وأوقفت العنف، والبنت تنظر ما يحدث بذهول، وقالت قولة مشهورة أصبحت مثلا فيما بعدُ، “يا ماما هل قمت بما فعلتِ نجدة لي أم كان قصدك المتعة!

هذه القصة رغم قساوتها تعبر عن واقع الحكام الجدد الذين وعدوا الشعوب العربية بالحرية والديمقراطية والعهد الجديد، ولكن عينهم كانت على الثروة والسلطة، والحلول محل الديكتاتور، والنتيجة أصبحت أن العهد الجديد أسوأ من العهد القديم، فبدلا من ديكتاتور واحد أصبح لدينا مئات الديكتاتوريين الصغار في البلد الواحد، والذين بدورهم يتناسلون الي ما لا نهاية، والبلد الواحد أصبح بلدانا، والهوية الجامعة أصبحت هويات قاتلة!

أليس من حق الشعوب العربية إذا والحال هذه، أن تترحم علي زمن الديكتاتور، وربما عليه أيضا!

على حلنى

صحفي صومالي يعمل ويقيم في مقديشو، ورئيس نقابة الصحفيين الصوماليين، عضو المكتب الدائم لاتحاد الصحفيين العرب، يعمل حاليا مراسلا لتلفزيون وراديو ال بي بي سي عربي.
زر الذهاب إلى الأعلى