حتى لا تتكرر الفضيحة

ما زالت ألسن وقلوب تشكّك في نزاهة برنامج المساعدات الأمميّة المخصص للصّومال على مدى سنوات الانهيار، ولكنّ هذا التشكيك كان مجرّد انطباعات لا ترقى إلى الدّرجة التي تنال بها اهتمام المعنيين بالأمر، لكن وقد تمّ الآن ضبط شحنة غذائية فاسدة في مطار آدم عدي، على يد السلطات، فهذا يُعطي للقضيّة بعدا آخر يخرجها من دائرة الظّنون والأوهام إلى درجة الاتهامات التي تستثير التقصي والتحقيق. بل وتدفع نحو النظر في الشكوك والتهم الأخرى التي تترافق مع عمل هذه المنظمة بالبلاد. إذ يُحيط الكثير من الغموض ببرنامج مساعدات الأغذية الأممية، حيث اتّهامات الفساد في كلّ جانب، سواء في توزيع الموادّ وصرفها إلى المستحقين بنزاهة وعدالة وعدم تعرضها لتبديلها بسلع وأصناف أرخص ثمناً، أو في تساوي الحصص الموزّعة لدى المتلقين للإغاثة. وغيرها من شكاوى المواطنين المستفيدين من البرامج الإغاثية. ويعطي ضبط هذه الشحنة من الأغذية الفاسدة زخما لتلك الشكاوى والشكوك، بما يستدعي اتخاذ التدابير الوقائية ضدّ حدوثها مستقبلاً،بغض النظر عن حدوثها فعليًّا في الماضي وعدم حدوثها.
والجديد في المسألة اليوم هو أنّ السّلطات قد علمت بالأمر واتخذت الإجراءات اللازمة الأوليّة حيث ضبطت الأغذية، ويفترض أن تستكمل خطواتها للتحقيق في القضيّة والكشف عن حقيقة ما حدث وأسبابه الحقيقية. وهنا يقترح على السّلطات أن لا تقف عند معالجة آثار هذه القضية فقط، بل أن تجعل من القضية مناسبة لإحداث تصحيحات جذريّة لعمل البرنامج والبرامج المماثلة وتنظيم آليات التعاون بينها وبينه لإزاحة الغموض المحيط بالبرنامج وجعله يعمل بشفافية أكثر، وذلك بالتّركيز على المحاور الآتية:
أولا: العمل على أن لاتخرج الشحنة الغذائية المضبوطة من أيدي السلطات ومعاقبة المجرمين: وكأول خطوة للوصول لحلّ هذه الأزمة لا بد من العمل بجد على منع وصول هذه الشّحنة إلى أيدي الشعب سواء كان هذا الوصول بشكل مساعدات إنسانية أو عن طريق بيعها بثمن بخس، إذ أنّ وصول هذه الشحنة إلى الشّعب يعني غياب رقابة فعلية، إضافة إلى أنه يعطي إشارة تشجيع للفاسدين في البرنامج على مواصلة تلاعبهم لإشباع جشعهم على حساب هذا الشّعب المسكين.
لذا من لوازم الحلّ النّاجع لهذه القضيّة ملاحقة كلّ من كانت لهم يد في هذه الفضيحة ومعاقبة من تثبت إدانته عقابا رادعا يكون بمثابة رسالة تحذيرية للمتخفين ممن هم على شاكلتهم.
ثانيا: إجراء تحقيق رسمي وجدّي حول القضيّة: إنّ إجراء تحقيق رسميّ حول هذه القضيّة من شأنه أن يحدّ من تكرار مثل هذا المحاولات الخبيثة، فالتحقيق يساعد على الوصول إلى نتيجة معيّنة يمكن أن يبنى عليها الإجراءات التي ستتّخذ لاحقا، ومن خلال التّحقيق النزيه فقط، يمكن التحقق مما إذا ما كان الأمر مجرّد حادث عابر غير مقصود، أو كان أمرا مخطّطا له ومن ثمّ يجب الحذر منه.
وللصدقية ينبغي أن يطال التّحقيق طواقم المؤسسات الإغاثيّة الداخلية والخارجية، وذلك بتتبع خيط المتهمين الحاليين إلى آخر شخص يوصل إليه. كما ينبغي على المحققين مقاومة كلّ المحاولات لثني التحقيق عن المضيّ قدماً بالرشو أو بالتهديد.
ثالثا: تكوين لجنة رقابية: للتدقيق في أعمال برنامج الأغذية العالمي وأعمال جميع الهيئات الإغاثية العاملة في البلاد ورقابتها لضمان سلامة سير عملها وشفافيته. ولاضير في أن يتكوّن أعضاء هذه اللجنة من جميع الأطراف المعنية بالقضيّة، بأن تضم مثلاً ممثّلين عن الهيئات، وممثّلين عن المجتمع المدني، وممثلين عن السلطات، وهذا يساعد على الحدّ من تكرار أيّ نو ع من أنواع الفساد،إذ تقوم هذه اللجنة بمتابعة العمل من أوله إلى نهايته، مما يؤدي إلى تقليل الفرص على الخروقات والمخالفات، وتبديد الشكوك والظنون حول عمل البرنامج، ومن ثمّ اختفاء شكاوي اعتادت الآذان سماعها لكن لم تُعَر أيّ اهتمام.
رابعا: سنّ قوانين تحكم طبيعة هذا العمل: من أهمّ الطّرق لضمان نزاهة العمل وقف الفوضوية والتسيبية في عمل المنظمات في هذه البلاد التي يبدو أنّها تركت تزاول عملها بمفردها بحريّة مطلقة في تحديد مهامها وأعماله، وفي وضع جداولها، وإعداد قوائم المستفيدين من مساعداتها وغير ذلك مما لا بدّ فيه من تدخّل السلطات وتوجيهها. لذا ينبغي العمل على إيجاد قوانين تحدّد نظام عمل الهيئات وحدوده وخطوطه التي لايسمح بتجاوزها أو مخالفتها.
خامسا: تكوين غرفة عمليّات تنسيقيّة: من الشكاوي العديدة والمعتادة أنّ هذه المنظمات توازي توزيع المساعدات الغذائية مع موسم الحصاد، مما يزيد من حجم الكارثة؛ إذ أن هذا يسهم في تكدّس المحاصيل الزراعية وارتفاع نسبة البطالة لدى المزارعين، ولتفادي هذه الإشكالية فإنّ تكوين غرفة عمليّات تنسق بين المنظمات وبين المتضرّرين أمر ضرورويّ.
وهناك إشكاليّة يسوقها العاملون في مجال الإغاثة الإنسانية كمبرّر لهذه الشكوى، ألا وهي أنّ المنظمات لا تعمل بطريقة عشوائية، وإنّما لها جدول ونظام عمليّات، حيث يتسلسل العمل الإنساني من إجراء دراسة شاملة من خلالها يمكن تحديد حاجات المتضرّرين ومن ثمّ رفع تقرير إلى الجهات المعنيّة والمختصّة، ومن ثم الاستجابة. وهذا كلّه يحدث في مراحل متفاوتة وفي أوقات مختلفة، ولهذا يكون من أولى أولويّات هذه الغرفة التنسيق والتّوفيق بين حاجات المتضرّرين ومتطلّبات النظام لدى العاملين في المجال الإنساني.
وأخيراً نذكّر بأن هناك فرقًا بين الاتهام والإدانة فالمتهم بريء حتّى تثبت إدانته، وهناك دائما مسافة بينهما تنشط فيها عمليّات التحقيق وهي وحدها الكفيلة إمّا برد الاعتبار للمتهم وتأكيد براءته، أو إدانته وإثبات تلبسه بالتهمة ليتحول من بريء إلى مجرم. نقصد من ذلك أنّ البرنامج الأمميّ مع هذه الفضيحة لا يزال محتفظاً بمكانته، وندعو السلطات والأفراد إلى الحذر من التسرّع في حقّه ومعاملته كمجرم. وحتّى في حال ثبوت تورّط أشخاص فإنّ ذلك ينبغي أن يتعامل معه في حدوده ولا يتمّ تعميم الجريرة على البرنامج برمته، فهناك فرق بين قرار شخصي اتخذ من قبل فرد واحد أو مجموعة مترابطة، وقرار مؤسسي صدر عبر وثائق وتوقيعات رسمية من مكاتب المؤسسة. وإلى انتظار نتائج التحقيقات.

عمر محمد معلم حسن

الكاتب عمر محمد معلم حسن باحث أكاديمي وكاتب صومالي
زر الذهاب إلى الأعلى