الخطاب السلفي في الصومال: حركة الاعتصام نموذجا

بادئ ذي بدئ يجرنا الحديث عن الخطاب السلفي إلى وضع تعريف إجرائي مبسط لمفهوم الخطاب حتى لا يتجه تقييمنا إلى مجالات أخرى ليست موضع بحثنا. وعليه يقصد بالخطاب الدعوي هنا شيآن : محتوى الدروس والخطب والأنشطة الدعوية والعلمية التي تزاولها الجماعة، ثم الكيفية التي يتم عرضها أي ما يصاحب تقديمها من شدة وعنف أو من لين ويسر،،وفي نظري فإن أي خطاب دعوي يراد تقييمه ينبغي أن نضع في الاعتبار مدى صدق تمثيله للإسلام، أي مدى اتصافه بسمات الإسلام العامة والتي منها الربانية أي التزامه بالوحي كمرجع لا العقلانية، بالإضافة إلى مزايا أخرى مثل الشمول والإيجابية والتوازن والواقعية، ويندرج مما سبق مراعاة الخطاب الدعوي الموازنة الدقيقة بين مقتضيات الروح وبين متطلبات النهوض المعيشية لتحقق الأمة من خلاله أمانيها، وتتجاوز واقع التخلف الحالي، ويندرج أيضا في جوانب التقييم مدى مراعاة الخطاب للمصالح العليا ومقاصد الشريعة الكلية، واعتنائه بالدرجة الأولى ببث الاستقرار وتوافق النسيج الداخلي باعتبار الدعوة الإسلامية عامل استقرار لا مصدر تفرق وشقاء ، وفي ضوء ما سبق نقول: إنه في أواخر السبعينيات من القرن الميلادي الماضي وهو وقت ظهور (الجماعة الإسلامية) التي كانت أول كيان دعوي يحمل ملامح السلفية التنظيمية في الصومال والتي تطورت إلى حركة (الاتحاد الإسلامي) باتحادها مع الوحدة (حركة إخوانية التوجه في شمال الصومال) شعرت القيادات بالحاجة إلى خطاب ذي طابع متميز عن الخطابات الرائجة سابقا بشقيها الصحوي والقديم الصوفي ، ومنها خطاب حركة (الأهل) ذات التوجه الإخواني الذي يتسم بالثورية وتكفير الحكام ثم المجتمع، وبعيدا عن الخطاب الإخواني الذي يركز على التغيير الفوقاني ويلغي من حسابه تصحيح العقيدة ومحاربة البدع العقدية والعملية المسكونة في التراث ، كما تجاوز أيضا الخطاب السلفي الذي يكتفي بالبيان العام ويعلن تأييده للأنظمة مع تقصير واضح في استغلال وسائل الصراع العصرية، وبهذا فقد فكان التحدي الأساسي أمام الجماعة هو تحديد خطاب دعوي يترجم عن الحاجات الدينية والتربوية والمعيشية المناسبة للبيئة الصومالية.

 والفترة الأولى من نشأة الجماعة شهدت أكبر عملية مراجعات تناول سلم الأولويات التربوية للجماعة، وفي تلك الفترة جرى توسيع محتوى الخطاب ليتبنى نظرة شمولية في معالجة أخطاء المجتمع ، وأجرىت فيه تغيرات جوهرية في اتساعه وتحقيقه لصفة الشمول والتوازن فلم تقتصر الحركة على الاعتناء بالعقيدة والحاكمية كما كان السابق بل وجهت الاهتمام نحو البناء العلمي وفق منهج متكامل يعنى بتدريس العلوم الشرعية وعلوم الوسائل والعلوم التسخيرية.

مقارعة لونين من الأخطاء

وبالاختصار فقد اعتنقت الجماعة خطابا يقارع لونين من الأخطاء في آن واحد: المجال الأول هو تنقية الموروث مما علق به من تفسيرات دخيلة وشوائب غزو قديم تجسده الطرق الصوفية التي اعتبرتها الجماعة معول هدم للإسلام تجب محاربتها بدون هوادة، ولم تنظر إليها باعتبارها مدرسة إسلامية تحتاج إلى تصحيح وتكميل ، وهنا مكمن الأزمة لأن هذه النظرة سوف تولِّد سلوكا عمليا تجسد في إظهار العداء وسحب الأخوة والموالاة -عمليا وليس نظريا-من تلك الطرق إلى الحد يصعب أو ينذر معها الحوار والتفاهم إلى اليوم، وحل محله الإلغاء والإقصاء.

وأيضا فإن تبني مبدأ تنقية التراث مما علق به من شوائب البدع كان بمثابة السباحة نحو عكس التيار،فلم يعد الصراع فقط بين النظام العسكري وبين الجماعة بل بين الآباء والأمهات والعلماء التقليديين ، لكونه يقتضي تحفزا شديدا لإنكار ما درج عليه المجتمع بقصد اكتساح أي خطأ مهما صغر مثل قول أحدهم ” صدق الله العظيم” أو ” جمعة مباركة” أو أخذ سبحة لعد الأذكار ناهيك عن البدع الكبيرة الواضحة ، هذا الخطاب التصحيحي مع صحته مبدئيا لكنه افتقد سياسة دعوية راشدة تزيده قوة وبهاء وتمنعه من المغالاة في الإنكار، وافتقاد تلك السياسة الدعوية أدت إلى تكهرب الأجواء بالخلافات وسيادة حالة التغالب واستعمال القوة، بل إن شظايا النزاعات انزاحت من دائرة المسائل العقدية والبدع إلى الاختيارات الفقهية التي تختلف فيها أنظار العلماء، إلى الدرجة التي ضاق عنها الدكتور أحمد الحاج عبد الرحمن- رحمه الله- بقوله: “من الخطأ الفاحش اعتبار القول بنقض لمس المرأة للوضوء من أقوال المبتدعة ؛ لأنه ذهب إليه ابن عمر الصحابي وهو معروف بتشدده في التزام السنة، وهذه مسألة فقهية، ويمكن أن قولا أرجح فيها من قول، وأقوى منه دليلا فينبغي الاقتصار عند هذا الحد بأن نقول: هذا القول أرجح دليلا كما هو دأب العلماء وبعض الشباب ربما ظنوا أن الشافعي ليس من السلف، لكثرة ما ترسخ فيهم ذكر الشيخ ناصر الدين الألباني ، فربما ذهب ظنهم أنه من السلف والشافعي ليس كذلك بل إن الشافعي هو ناصر السنة[1].

وهذا الخطاب المتضايق من اختلاف الآراء، والعازف عن الحوار لم يكن تعبيرا عن المنهج السلفي الأصيل بقدر ما كان انعكاسا لظروف وخصوصية الشخصية الصومالية، وتأثير بعض المؤلفات النجدية وافتقاد القدوة العلمية الهادية المجربة ؛لأننا نجد الإمام ابن تيمية-رحمه الله- الذي يحتل مركزا مرموقا عند أتباع المنهج السلفي عبر عن فقه دقيق يجمع بين أمرين هما كالماء والنار يصعب التوفيق بينهما في الحالات التي يضيق فيها الأفق ، وهذا الفقه الدقيق لم يستحضره قادة الجماعة كقانون يجب اتباعه عند تعاملها مع الطرق الصوفية قال رحمه الله- في الفتاوى ج28 ص(209): إذا اجتمع في الراجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب على قدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب على قدر ما فيه من الشر، فيجتمع في الرجل الواحد موجبات الإكرام والإهانة ” فالنظرة المتوازنة تجاه علماء الطرق الصوفية كانت تقتضي النظر إليهم من زاويتين مختلفتين : زاوية أنهم قاموا بدور كبير في المحافظة على الهوية الإسلامية ونشر تعاليمه، وما زالوا يعملون به وهم بذلك يستحقون الولاء والإكرام ، وفي نفس الوقت هم بحاجة إلى تصحيح لما يمارسونه من بدع ولما يدافعون عن شركيات تخل بالعقيدة الصحيحة ، هذه النظرة المعتدلة لم تكن موضع اعبتار إلا في عدد محدود جدا من العقلاء المجربين في الحركة بل غلبت نظرة إسقاطهم واعتبارهم مصدر تهديد للإسلام.

طريقة تقديم الخطاب إلى الجمهور افتقرت إلى فقه دقيق يجسد الحكمة في مواضع التيسير والتشديد سواء في مجال الأمر والنهي والفتوى والتعليم، وهناك من الوقائع والمواجهات التي تطورت في بعض الأحوال إلى معارك ما يدعم القول إن كثيرا من الدعاة الصغار فقدوا القدوات العلمية المجربة التي تعلمهم الرفق الذي من شأنه أن يشيع الزينة في الأرجاء ،والطمأنينة في القلوب فاستعملوا لضد خصومهم لغة الاستفزاز ونبرة التبكيت التي ترى احترام الخصم ضعفا وتنازلا عن المبدأ ، وتتغاضى عن محاسن الآخر..وما زالت آثار التخاصم والجفاء مع علماء البلد، ومع أئمة المساجد تسود الساحة وتحتاج إلى تدارك شررها قبل فوات الأوان.

  وما زال هناك جدل مستمر إلى اليوم عن دور خطاب الحركة وسلوكها العملي في التمهيد لبروز ظواهر العنف الدائرة في البلاد اليوم، هذا الجدل له ما يسوغه لاعتماد الحركة على نوعين من التراث تشيع فيهما لغة الخطاب الثائر ضد الأنظمة وضد مضامين التراث الديني ، وهما : تراث المدرسة النجدية الإصلاحية في حربها التصحيحية ضد الطرق الصوفية وتراث سيد قطب ومن على شاكلته في حربها ضد النظام ،ولكن الحقيقة التي تؤيدها الأدلة هي أن الجماعة لم تتبن منذ نشأتها عام 1399هـ 1978م خطابا عاما يكفر المجتمع أو يعلن الحرب على الجميع، ولكن المراجعات والصراع ظلَّ يعتمل داخل الحركة لتحديد خياراتها، وأخيرا غلبت النظرة المعتدلة المتصالحة مع الأنظمة المحلية ومع المكونات المجتمعية الأخرى.

خطاب معادي للدولة العلمانية

المجال الآخر الذي وجهت الحركة جل ثقلها هو معالجة الغزو الحديث المتمثل في المذاهب الفكرية الغربية بشقيها الشيوعي والليبرالي واستتبع ذلك محاربة الدولة العلمانية ومؤسساتها التي تحمي الأفكار والسلوكيات التغريبية في كل فضاءات المجتمع من السياسية والتعليم ووسائل الإعلام ، ولأن أسلمة المجتمع واكتساح مخلفات الاستعمار الجاثمة هدف مشترك بين الجماعات الإسلامية بشكل عام، ولكن الفكر السلفي تميز  بالاهتمام بالتأصيل والمبالغة في رفض القيم الاجتماعية والسياسية والفكرية القادمة من الغرب مهما صغر شأنها إما لكونها بدعة أو لأننا مطالبون بمخالفة غير المسلمين.

هذا الموقف العدائي من الدولة العلمانية ومؤسساتها كان طبيعيا لأنه انعكاس لتباين الرؤى، وناتج أيضا من واقع الغضب والملاحقات والإعدامات والقمع الذي لقيه العلماء ، فالقمع وانعدام أي هامش للحرية جعل الدعاة يعتبرون أنفسهم مستهدفين، وهنا نشأ خطاب يعادي الدولة ويتمنى زوالها، ويحاربها سرا أو علنا، ويفرح بأي انتكاسة تتعرض له، ويسعى لإيجاد بديل لها، بل هو خطاب ينتزع الشرعية منها بالكامل.

مكمن الإشكالية هنا ليس في الاختلاف والكره المتبادل بين الطرفين ولكنه في غياب فقه الموازنات والمآلات ، وضياع المصالح العليا للأمة المتمثلة في الوحدة والاستقرار وحماية البيضة والحيلولة دون التدخلات الأجنبية نتيجة لغياب الرؤية السليمة، ولهذا مالت الحركة مع الثائرين على النظام ، وراهنت على سقوطه ظنا منها أنها تنتقل إلى مرحلة القيادة دون امتلاك إمكانات هذه المرحلة، وبهذا لم تختلف الحركة عن بقية أبناء المجتمع في تعاملها مع مرحلة دقيقة من تاريخ البلاد.

  وأخيرا هل تغير خطاب الحركة ؟

تجدر الإشارة إلى أنه في الوقت الحالي فإن نظرة الحركة نحو الأنظمة ومؤسساتها ، ومع مخالفيها لم تبق أسيرة لظروف النشأة بل تغيرت بشكل ملموس بحكم تغير واقع القمع الذي أنتج الخطاب الأول، فالنظرة الحالية التي تحكم خطاب الحركة تنطلق من مرتكزات المصلحة ورفع شعار ” الوجود أولا” أما استكمال تطبيق الشريعة فهو رحلة طويلة لا تتحقق في ساعة وضحاها بل تتطلب التدرج مع الحفاظ على كيان الأمة، وحمايتها من التفكك؛ لأن أشد ما يخشى حاليا هو ضياع الهوية الصومالية برمتها. وفي الجانب الآخر هناك تغير واضح في خطاب الحركة  تجاه الطرق الصوفية وتتجلى فيها لغة التصالح والمسلك العملي المتمثل في الدخول في شراكات وانتماءات جامعة والتعاون فيما يمكن التعاون فيه، والتركيز على المنحى العملي في الدعوة بدل توجيه الانتقادات، كل ذلك لأجل تبني خطاب يسهم في تهدئة البلاد ويمهد لقيام دولة يستظل بظلها الجميع في مرحلة دقيقة من تاريخ القرن الإفريقي.

يتبع،،

[1] – قال ذلك في شرح الترمذي عند شرح أحاديث نقض الوضوء.

محمد عمر أحمد

باحث وكاتب صومالي، يؤمن بوحدة الشعب الصومالي والأمة الإسلامية، درس في الصومال وجمهورية مصر العربية، عضو إتحاد الصحفيين العرب سابقا، ومحرر سابق لموقع الصومال اليوم، يعمل حاليا محاضرا بجامعة ولاية بونتلاندا بمدينة جاروي.
زر الذهاب إلى الأعلى