لماذا جيبوتى.. الآن؟!

تساءل كل المصريين عن سر الزيارة المفاجئة التى قام بها لمصر منذ ساعات الرئيس إسماعيل عمر جيلة، رئيس جيبوتى ، وما اتفاقيات التعاون ومذكرات التفاهم بين الدولتين؟.. وهل هى مجرد اتفاقيات تعاون فى مجالات التنمية.. أم أن هناك أسباباً أخرى؟ وأقول بكل صراحة.. هى زيارة مهمة وضرورية لأهم جانب من سياسة مصر الخارجية، لأنها تتعلق، ليس فقط بالأمن القومى المصرى، ولكنها – كذلك – تتعلق بالأمن القومى العربى.. وهذا شىء طيب للغاية.. بل وضرورى، حتى وإن جاء متأخراً.. فخير أن يأتى متأخراً.. من ألا يأتى أبداً

والسبب هو هذا الموقع الاستراتيجى شديد الخطورة والأهمية، لأنه – بصراحة – يسيطر على المدخل الجنوبى للبحر الأحمر، من ناحية المحيط الهندى، أى يسيطر على الطريق إلى قناة السويس، فى أقصى شمال البحر الأحمر.. بل إن موقع جيبوتى أكثر أهمية من موقع إريتريا.. وأيضاً من موقع عدن اليمنية.. لأن الذى يتحكم فى هذا المدخل – من خلال باب المندب – يمكنه التحكم تماماً فى الملاحة من وإلى قناة السويس، المصرية.. كيف ذلك؟!

ولقد فهمت الدول الكبرى أهمية هذا الموقع شديد الحساسية.. ولذلك تعمدت بريطانيا السيطرة على عدن عام 1839، بمجرد انسحاب جيش مصر من اليمن تحت الضغوط الدولية.. وردت فرنسا – منافستها فى البحار – بالسيطرة على جيبوتى عام 1896.. وللتاريخ، عرفت مصر أهمية هذا المدخل الجنوبى للبحر الأحمر من أيام محمد على، الذى استطاع إقامة مراكز أمامية للدفاع عن مصر هناك.. وجاء حفيده إسماعيل باشا فأكمل سياسة جده وتوسع فى إقامة هذه القواعد وتأمينها على طول الساحل الغربى للبحر الأحمر.. وحتى جيبوتى والصومال!! وبالذات بعد افتتاح قناة السويس فى عام 1869. بهدف تأمين طريق الملاحة إلى القناة.

وازداد الاهتمام بهذا المدخل، الذى يسيطر على مضيق باب المندب، وليس فقط جزيرة بريم، التى تتوسط هذا المدخل.. وفى العصر الحديث، وربما بعد نشوء ظاهرة القرصنة الصومالية هناك، زاد الاهتمام أكثر. ولم يعد مقروناً فقط بالتواجد العسكرى الإنجليزى والفرنسى.. بل دخلت أمريكا هذا الملعب بعد أن تعرضت إحدى مدمراتها «كول» لعملية إرهابية.. ثم وجدنا الصين قد وضعت أقدامها أيضاً فى جيبوتى – وغيرها – لتتخذها قاعدة للوثوب الاقتصادى إلى قلب القارة الأفريقية.. وما تراه من أن أفريقيا باتت من أهم أسواقها واهتماماتها.

وفى السنوات الأخيرة، ومع تصاعد الصراع الإيرانى – الخليجى، بقيادة السعودية، وجدنا إيران تدعم المتمردين الحوثيين فى اليمن، بهدف أساسى هو وصولها إلى جنوب البحر الأحمر لتحقق أهدافاً عدة، فى مقدمتها حصارها السعودية من الجنوب من اليمن، وهنا لا ننسى سيطرتها على مضيق هرمز فى مدخل الخليج العربى.. وتقويض النفوذ السعودى فى مدخل البحر الأحمر.. وأيضاً ضرب مصالح مصر الاقتصادية والعسكرية والسياسية، أى ضرب الطريق المؤدى إلى قناة السويس، أو على الأصح إجبار السفن التجارية المتجهة إلى القناة على الخضوع لرغباتها.

هنا تلتقى مصالح السعودية والمصالح المصرية – ورب ضارة نافعة فى العلاقات بينهما – إذ إن سيطرة، وبالتالى تواجد، إيران فى هذه المداخل يضرب فى مقتل المصالح السعودية – المصرية. ومن هنا جاءت زيارة الرئيس إسماعيل عمر جيلة لمصر، منذ ساعات. لتفعيل التعاون «المصرى – السعودى» حماية للأمن القومى العربى، وبالطبع الأمن القومى المصرى والسعودى معاً.

وجيبوتى – 23 ألف كيلومتر مربع فقط – هى الصومال الفرنسى، وأعلى الصومال الإيطالى والصومال الإنجليزى. وسكانها حوالى المليون نسمة، والعاصمة هى جيبوتى وسكانها حوالى نصف مليون. و47٪ من سكان هذه الدولة من قبائل عيسى، و37٪ من قبائل عفر، مع 6٪ من العرب. واللغتان العربية والفرنسية لغتان رسميتان. و96٪ من السكان من المسلمين السنة، و4٪ من المسيحيين، أغلبهم من إثيوبيا. وعلاقة جيبوتى بإثيوبيا علاقة قوية اقتصادياً.. إذ كانت هى الميناء الوحيد الذى تعتمد عليه إثيوبيا فى الصادرات والواردات، إلى أن استولت إثيوبيا على إريتريا عام 1952، لتصبح هى طريقها إلى البحر الأحمر، من خلال ميناء عصب «مصرى الأصل»، وبدأ إنشاء طريق سكك حديدية يربط أديس أبابا بالبحر الأحمر عام 1897، أيام الملك مينليك الثانى، وتم عام 1917، عبر جيبوتى. ولكن بعد استقلال إريتريا عادت جيبوتى لتحتل موقع المنفذ الأساسى لإثيوبيا على البحر الأحمر.. وتعتبر تجارة الاستيراد والتصدير الإثيوبية أهم مصدر لدخل جيبوتى حتى الآن.

■ ■ وكل ثروة جيبوتى هى تجارة الملح!! إذ تنتج أجود أنواع الملح فى العالم من بحيرة عسل «155 ميلاً مربعاً»، ويصدَّر إلى إثيوبيا بالنقل البرى مع ثروة معقولة من الماعز والأغنام والجمال والحمير، وتبلغ وارداتها من الخارج حوالى 400 مليون دولار.. وتتوقف صادراتها عند 50 مليون دولار.. إلى أن ظهرت لعبة القواعد العسكرية فى جنوب البحر الأحمر.. وهنا برزت أهمية جيبوتى. وبعد أن كانت إريتريا تستحوذ على معظم القواعد.. ظهرت جيبوتى لتتحول هذه المواقع إلى قواعد لبريطانيا وأمريكا والصين.. وبالطبع مع فرنسا، المستعمر الأصلى.

■ ■ أى أصبح موقع جيبوتى هذا يجذب دخلاً مالياً لهذه الدولة الصغيرة التى تتحكم فى كل منطقة القرن الأفريقى المشتعل بالقلاقل: فى إثيوبيا وإريتريا والصومال.. وأخيراً دخلت إيران المعمعة لضرب مصالح مصر والسعودية معاً، وأصبح دخل جيبوتى من هذه القواعد أهم دخل لها.. وهى التى تستورد كل غذائها.

فهل تقترب جيبوتى من القاهرة والرياض انطلاقاً من الخطر الإيرانى القادم من مضيق باب المندب؟! هذا هو المعنى «غير الظاهر» من زيارة رئيس جيبوتى للقاهرة ، منذ ساعات. 

المصدر: المصري  اليوم

زر الذهاب إلى الأعلى