عباقرة لهم أصول في منطقة القرن الإفريقي: الشريف محمود عبد الرحمن (8)

الشريف محمود بعد انهيار الدولة:

لم يتصور الشريف محمود عبد الرحمن – رحمه الله – يوماً من الأيام انهيار الدولة الصومالية وكيانها السياسي عن آخره دفعة واحدة. ولكنّ هذا ما حصل فعلا عند ذهاب النظام المركزي الصومالي ذي السيادة وغيابه عن الحضور إقليمياً وعالمياً،  فذاق الشريف مرارة الحزن والكآبة وهو يشاهد كل يوم ما كان يجري حوله من الظلم والقتل والنهب والتدمير، والحق أنّ هذا الأمر لا يطيق رؤيته عظيم مثل هذا الرجل العالِم الذي ناضل لاستقلال بلاده من المستعمر الأوربي. فضلاً من أن يعيش فيه ويصبح من يومياته، بذهاب بلد كان مستقلاً قرابة 30 سنة، ويصبح ألعوبة في أيدي الغوغاء ومحل أطماع دول إقليمية وأجنبية. ولكن وللأسف الشديد كان مكتوباً عليه أن يرى ما جرى على البلاد التي وقف عمره على خدمتها من تدمير وفقدان وتعطيل للمؤسسات الوطنية

مثله في الشعور بهذا القدر من المرارة مثل غيره من العلماء وأهل الفكر والإبداع عانوا كثيرا بما جرى لبلادهم وأمتهم مثل الشيخ علي صوفي ، ومجاهد مقتل طاهر، والشريف صالح محمد ، والشيخ محمد معلم حسن، والشيخ إبراهيم محمد علي ، والشيخ محمد نور قوي، والشيخ شريف عبد النور المقبولي، والشيخ عبد الغني، والبرفسور محمد حاج مختار، وغيرهم كثير.

شاء القدر أن يرى ويعيش الشريف محمود عبد الرحمن، الرجل الذي كافح من أجل تحسين مستوى التعليم في بلاده كثيراً، وأسس المدارس والمعاهد أن يرى الآلاف من أطفال الصومال انقطعوا  عن التعليم، وأن يرى البلد الذي عمل طويلا على تسهيل العيش فيه وهو يستحيل جحيماً أكثر أبنائه حظًّا من قدر على الفرار منه  ضمن مئات الألوف الذين لجأوا من الحرب وويلاتها إلى أماكن آمنة خارج الوطن، وأتعسهم الذين لم يستطيعوا الفرار من هول الحرب فصاروا من ضحاياها، أو نزحوا بعيداً عن قراهم التي دمرتها الحرب إلى مناطق أخرى في داخل الصومال، وعاشوا في ظل ظروف معيشية قاسية.

ومن العجيب أنّ الرجل الذي تصدى للتنصير في بلاده رآي أهله وذويه في مخيمات اللآجئين تحت رحمة الهيئات التنصيرية ومنظماتهم التي تقدم لهم الإغاثة.

يروي لنا قصته نجله سعادة السفير محمد قائلاً: “وقد عانى الوالد الأمرّين من محنة الحرب الأهلية حيث كان محصوراً فى منزله وهو فى التسعين من عمره بدون غذاء أو ماء لمدّة أسبوع بسبب العمليات الحربية، حتى تمكّن من نقله بعض الشرفاء إلى مدينة براوة، وهناك أيضا عاش العجب من سطوة اللصوص وقطاع الطرق من المليشيات القبلية التى أهلكت الحرث والنسل، وبلغ به الأمر إلى أن يفقد اللقمة ويتضور جوعا. وحيث لم يطب المقام في براوة أيضاً فقد اضطرّ إلى أن يغادر بلاده فركب زورقا صغيرا مع غيره من الهاربين من جحيم النهب والقتل الأعمى إلى مدينة ممباسا بكينيا، ثم انتقل إلى مصر حيث قضى أيامه الأخيرة مع أولاده وأحفاده، وقضى نحبه ودفن بها عام 1994م رحمه الله”.

هكذا كانت نهاية هذه الشخصية العظيمة الذي قضى جل حياته في تحرير الصومال ونشر الثقافة الإسلامية في المنطقة.

بيت الشريف محمود عبد الرحمن

لا شك أنّ مثل هذه الشخصية الفاضلة تترك بيتا طيبا لأن الشجرة الطيبة لا تنبت إلاشجرة طيبة أخرى، وقد قيل قديماً ” من يشابه أباه فما ظلم” ويكفي أن نشير من هذا البيت الكريم إلى نجله سعادة السفير محمد شريف محمود، والحق أنني أدين له هنا بجل معلوماتي عن الوالد، فقد كانت مما كتبه سعادته في شبكة الشاهد – كما أسلفنا في السابق – وسعادة السفير محمد دبلوماسي قضى جلّ حياته يمثل بلاده الصومال أمام المحافل الدولية، كما مثّل جامعة الدول العربية كمندوب في روسيا وأوروبا. وفي فترة تقاعده أقام في لندن في الممكلة المتحدة، وإلى ذلك فهو كاتب يكتب باللغتين العربية والإنجليزية، وله العديد من المقالات على المواقع والصحف العربية حول القرن الأفريقي.

ومن ناحية أخرى فله خبرة طويلة في العمل السياسي والاجتماعي، حيث عمل رئيساً لشركة الخطوط الجوية الصومالية في الفترة بين 1970 -1973م، ومديراً عاماً لوزارة الخارجية الصومالية ١٩٧٥-١٩٧٨م، وممثلاً دائماً للصومال في الأمم المتحدة ١٩٧٨-١٩٧٩م، وسفيرا للصومال في باريس، والممثل الدائم للصومال لدى اليونسكو ١٩٧٩-١٩٨٣م، وسفيرا وممثلا لجامعة الدول العربية في كل من داكار بالسنغال ونيروبي بكينيا في الفترة بين ١٩٨٣-١٩٨٨م، ومديرا للإدارة الأفريقية بجامعة الدول العربية ١٩٨٨-١٩٩٢م – ونائب رئيس الإدارة العامة للشئون السياسية في جامعة الدول العربية ١٩٩٢-١٩٩٤م، وسفيرا لجامعة الدول العربية في روما ١٩٩٤-١٩٩٩م.

وهناك شخص آخر من أبناء الشريف محمود عبد الرحمن وهو الدكتور عبد الرحمن الشريف محمود عبد الرحمن، وهو أيضاً كاتب وأستاذ جامعي في الولايات المتحدة. ولا غرابة في ذلك لأنّ الأب الشريف محمود قد اعتنى بتعليم أولاده وتعهّهم بالتربية، بدءاً بالقرآن الكريم وعلوم الشريعة التي كانت يتلقاها الأطفال في الحلقات والخلاوى التقليدية في المجتمع الصومالي في المدن والقرى والبوادي، غير أن الشريف محمود كان يتميز عن غيره من الآباء بأنّه تلقى التعليم في الصغر ويدرك قيمة العلم ولاسيما الثقافة العربية والإسلامية، ومن هنا كان يحرص على أولاده بأن يجيدوا أولاً اللغة العربية وعلوم الشريعة الإسلامية المختلفة من فقه وتفسير وحديث وما إلى ذلك.

وأعتذر عن عدم الإشارة إلى الباقين من أفراد هذا البيت الطيب الشريف والذين لم نورد أسماءهم هنا، ولعل غيري يواصل الدرب والوفاء لبيتنا المبارك الطيب من أبناء وأحفاد الشريف محمود، طيب الله ثراه وأسكنه فسيح جناته.

 

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى