“التهريب” الفرار من الموت الى الموت

في السابع عشر من هذا الشهر غرقت سفينة بحرية كانت تحمل حوالي خمسمائة مهرب في سواحل البحر الأبيض المتوسط ، متوجهين الى اوروبا فارين من البلدان الافريقية ، وكان معظم ركاب هذه السفينة من الصوماليين ، حيث مات في هذه الحادثة اكثر من مائتين شاب صومالي جاءوا من الصومال بآمال جديدة ، وتوجهوا من مصر الى المحيط لكي يتجاوزوه ويصلوا إلى مقر حلمهم الأكبر اوروبا ، لكن القدر كان له رأي آخر ، حيث مات معظم ركاب هذه السفينة ، وماتوا بحلمهم ووصلوا الى الآخرة قبل ان يصلوا الى اوروبا .

وقد اثارت هذه القضية ضجة كبيرة بين اوساط المجتمع الصومال وخاضة فئة الشباب ، وتناولت الوسائل الإجتماعية هذا الخبر بكثافة ، وتحولت شاشة الفيسبوك لشاشة تعزية من قبل معظم المشاركين الصوماليين ، وضجت صفحات الفيسبوك بصور شباب هذه المحنة ، وعرضت في الفيسبوك صورهم الجميلة والأنيقة قبل خوضهم في هذا السفر ، لكن كل شيء تغير بعد هذه الحادثة المروعة ، حيث عرضت على الفيسبوك صورهم وهم قد رحلوا الى عالم الوفاة.

ومن القصص الحزينة التي شهدتها هذه المأساة ـ هي قصة عشيقين وزوجين صوماليين كانوا قد تزوجوا قبل بضعة اشهر ، وقرروا ان يعيشوا ويسعدوا في اوروبا ، ويخوضوا في غمار التهريب مرة واحدة ، وكانت صورهم التي نشرت في الفيسبوك تعبر عن حالة الفرح والسعادة التي اطلتهم خلال عرسهم ، لكن لسؤء الحظ لم يتمكن هذان العريسان من تحقيق حلمهم وسعادتهم على الطريقة التي كانوا يريدون بها ، حيث غرقت بهم السفينة وشاءت الأقدار ان ترسلهم الى عالم الأرواح ، نرجوا من الله ان يغمدهم برحمته ويغفر لهم ويحقق لهم السعادة في الآخرة.

هؤلاء هم خيرة شبابنا وجيل المستقبل الصومالي يموتون يوما بعد يوم في هذه البحار والمحيطات والصحارى وداخل وخارج الوطن،  تبلعهم البحر في كل رحلة يخوضون بها ، وكأنه اصبح محتوما علينا ان نعاني في كل مكان سواء في البر او البحر او الجو.

عاني شبابنا في داخل الوطن ، عانوا من البطالة ، حيث يعاني اكثر من 70% من شبابنا من البطالة في الوطن ،ويعاني شبابنا من الحرب الداخلية في الوطن ، حيث يعد الشباب اكثر شريحة تاثرت بالحروب، حيث اصبحوا مستخدمين من قبل اطراف النزاع الصومالي منذ سقوط الحكومة المركزية الصومالية ، ومات المئات بل الآلاف منهم في هذه الحروب ، ويعاني شبابنا في المشاركة في اتخاذ قرارات الوطن ، حيث مازال الشيوخ والزعماء يحتكرون اداوات ووسائل السلطة في الصومال ولا يسمحون للشباب بالمشاركة في القرارات المصيرية للأمة.

وهناك شعار تعود عليه السياسيون والزعماء ، حيث انه في كل مرة يخطبون ويجتمعون مع الشباب يقولون لهم ( انتم قادة الأمة في المستقبل) ، لذا لن يسمحوا لهم في ان يقودوا البلد في المستقبل القريب ، ويماطلونهم في انهم قادة المستقبل البعيد.

كل هذا وذاك ، أثر في كثير من شباب الصومال الحبيب ، وقرروا ان يفروا من هذا الموت الذي يلحقهم في داخل الوطن ، وعزموا التوجه نحو اوروبا وامريكا ، راجين ان يحققوا السعادة والطمأنيينة والراحة في اوروبا وفي المهجر ، لذا قرروا التهريب والمخاطرة بالسفر الى هذه البلدان البعيدة.

ويشق ابناؤنا طريقا طويلا بدءا من الصومال ومروا باثيوبيا او كينيا والسودان وليبيا او مصر لكي يبلغوا المحيطات ويتجاوزوه نحو اوروبا ، لكن لسوء الحظ فإن معاناتهم تزداد في هذا السفر ، حيث انهم في البداية يعانون خلال سفرهم من الصومال ، لأن المخلصين المسئولين عن سفرهم يأمرونهم بأوامر شاقة ، لانهم يسعون الى اخفائهم من السلطات الرسمية في هذا الدول التي يمرون بها ، لذا يتعرض كثير من شبابنا لحالات قاسية في سفرهم ، ويرغمون على السير لمسافات طويلة من اجل الهروب والتخفي عن السلطات الرسمية في هذه الدول.

وفي الأخير يصل هؤلاء الشباب إما الى ليبيا أو الى مصر ، وهنا تزداد المعاناة ، حيث ان المخلصين يسلمون هؤلاء الشباب لمن يسمون بالمخلصين الكبار المتواجدين في ليبيا ، واصبح هؤلاء المجرمون مشهورون لدى الصوماليين ، حتى لقبوهم بالشخص الذي لا يمكن لك ان تختفي منه او تتجاوزه (magafe ) ، ويأخذ هؤلاء المجرمون من الشباب فديات واموال طائلة تصل الى الآلاف من الدولارات ، حيث يدفع اهالي هؤلاء الشباب الأسارى  الى هؤلاء المجرمين هذه الأموال الطائلة من اجل الافراج عنهم والسماح لهم بمواصلة رحلتهم الى اوروبا ، لأن هؤلاء المجرمين الملقبين بالمخلصين لن يسمحوا لهم بالرجوع وارجاع هؤلاء الشباب الى الصومال، ويتعرض الشباب الى حالات تعذيب واهانة خلال تواجدهم في الحدود الليبية من قبل المخلصين ، الى حين دفع الفدية عنهم، وكذالك يدفع الشباب المتوجدين في مصر آلاف الدولار من اجل الوصول الى اوروبا.

وبعد ذاك يتوجه هؤلاء الشباب طامحين ان يصلوا الى اوروبا ، متوجهين من مصر وليبيا الى اوروبا ، ويركبون بقوارب ليست لديها صلاحية لنقلهم ، حيث يركبون بأعداد هائلة تصل للمئات بقوارب صغيرة الحجم ، وتكون رحلتهم محفوفة بالمخاطر ، وتتعرض هذه القوارب لموجات المحيطات مما قد يعرض الكثير منها للهلاك كما حدث في هذه المأساة الأخيرة في السابع عشر من هذا الشهر، ويتحول حلم هؤلاء الشباب  الفرار من الموت الى الموت.

لذا يجب  ان نقف مكتوفي الأيدي من اجل ايقاف جريمة التهريب في حق فلذة كبدنا وفي شبابنا وفي مستقبلنا ، يجب ان نحارب بكل السبل من اجل ايقاف هذه الجريمة النكراء في حق شباب الصومال الجريحة منذ اكثر من عقدين من الزمن .

وفي الأخير مالنا الا ندعوا من الله سبحانه وتعالي ان يغفر لهؤلاء الشباب ويسكنهم فسيح جناته ، ويغفر لهم عن زلاتهم وذنوبهم إنه الولي والقادر على هذا.

 

عبدالله عبدالقادر آدم

كاتب وباحث صومالي، خريج كلية الشريعة والقانون بجامعة افريقيا العالمية، حاصل على درجة الماجستير في القانون من جامعة الزعيم الازهري
زر الذهاب إلى الأعلى