تاريخ الأبجدية في بلاد الصومال

ليس محددًا بدقّة تاريخ بدء الإنسان في التعبير عن نفسه، ومحاولته نقل أفكاره والمعرفة التي جمعها إلى من حوله، عبر استخدام أداوت التدوين، لكن ذلك بدأ باكرًا وتجلّى في رسومات الكهوف من العصر الحجري، كتلك التي اكتشافها في منطقة (لاسغيل) في إلى الشمال الشرقي من مدينة (هرجيسا).

وقد انتقلت التعبير الإنساني عن أفكاره وأحلامه وتصوراته للكون، من الرسم على جدران الكهوف، مصورًّا حياة الصيد والرعي التي كان يعيشها، إلى محاولة حفظ الكلمات عبر رموز تصويرية، يحمل كل رسم منها صورة لكائن أو شيء، يكون الحرف الأول منه هو المقصود به، فظهرت الكتابتان المسمارية في بلاد الرافدين الهيروغليفية في مصر القديمة، ثم انتقلت الكتابة إلى مرحلة جديدة بظهور الأبجدية السينائية القديمة، والتي كانت من البساطة والدّقة بحيث استخدمها التجار الفينيقيون وطوّروها، ناشرين لنظام كتابة جديد غير تصويري (أبجد)، يعتمد على رمز خاص بكل حرف، متطوّرًا ذلك إلى إدخال اليونانيين الإغريق للمدود ليبدأ عصر الـ(أبجدية).

ولم تغب تلك التطورات عن ما أصبح يُعرف اليوم ببلاد الصومال، باقية تلك الأبجديات القديمة منقوشة على الصخور والكهوف، ومصدرًا للكثير من علامات القبائل و “وسم” الإبل،  فقد كانت البداية موثّقة في آثار “ورقادي” من الألفية الثانية قبل الميلاد، ونقوشها التي لازالت تنتظر أن يفكّ العلماء طلاسمها، ومن ثم الدخول في مرحلة، المجهول منها أكثر من المعلوم، لتبدء مرحلة الانتقال إلى الكتابة بالحرف العربي “فر-وداد” بدئًا من القرن الثاني عشر الميلادي، ثم مع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين ظهور أبجديات (العثمانية) و(بورما/ جوادبيرسي) و “الكدَّرية”، ويطرح الباحثون الصوماليون بعد ذلك قريبًا من ثمانية عشر إقتراحًا للأبجدية، ما بين 11 نظام كتابة مبتكر كليَّة، وأربعة نظم ذات جذر عربي، وثلاثة نظم لاتينية الأصل،  فيستقر الأمر على اعتماد الحرف اللاتيني المبسّط  قبل ثلاثة وأربعين سنة، ليكون هو المعمول به إلى يومنا هذا.

وقد تبنى الصوماليون الأبجدية العربية باكرًا، مع دخول الإسلام وانتشاره، وتحوّل العقدية الإسلامية إلى اسمة المميزة للقبائل التي يتكوّن منها الشعب الناطق بالصومالية، خلافًا لما حوله من قبائل وشعوب وأمم، وتجلّى ذلك في ما نظام التعليم الديني الذي انتشر في طول البلاد وعرضها، وبلغ ذلك ذروته لدى وضع القائد الديني البارز (يوسف الكونين)، المدفون في قرية (أو-برخدله)، لتعليم حروف الهجاء العربية عبر منظومة باللغة الصومالية، وظهرت مخطوطات ونقوش باللغة الصومالية مكتوبة بحروف عربية، في خط سمّي (فر- وداد) أي (خط الشيخ/خط عالم الدين).

ثم تلى ذلك ظهور محاولات لإيجاد أبجدية صومالية خاصة، أشهرها (الأبجدية العثمانية) التي استنبطها الوجيه (عثمان يوسف كينديد) من العائلة الحاكمة لقبيلة (مجيرتين/ هوبيو) شمال الساحل الشرقي للصومال، ومن أهمّ ما يميزها كونها مبتكرة بالكامل، على عكس الكثير من الأبجديات المشتقّة من الأبجدية (الفينيقية/الأوغاريتية/الأوجاريتية).

وقد ظهرت مع الوقت أبجدية محدودة الانتشار ممثلة بأبجدية (بورما) المشتقة من الأبجدية الجعزية السائدة في هضبة الحبشة، والتي وضعها القاضي عبدالرحمن شيخ نور سنة 1933م، حيث كان يعيش في شمال غرب محمية الصومال البريطاني.

وفي العام 1952م ظهرت الأبجدية (الكدّرية)، على يد الباحث الصومالي (حسين شيخ أحمد كّدره 1935-2015)، الذي ولد في إقليم (بنادر) قرب (مقديشو)، ويشير الباحثون إلى أن تلك الأبجدية الجديدة، كانت عبارة عن مزاوجة بين الأبجدية (العثمانية) و تطويرًا لها على نحو مقارب لما في الأبجدية (البراهمية) الهندية.

ومع حصول البلاد على استقلالها، ووحدة أقليميها الشمالي والجنوبي، بزر من جديد السجال حول ضرورة اعتماد أبجدية موحّدة، فكانت المحصّلة أن يطرح الباحثون الصوماليون بعد ذلك قريبًا من ثمانية عشر إقتراحًا للأبجدية، ما بين 11 نظام مبتكر كليًا، وأربعة ذات جذر عربي، وثلاثة لاتينية الأصل،  فيستقر الأمر على رجحان اقتراح الباحث “شيره جامع أحمد”، الذي وضع تصوّره ذلك حولها خلال تلك الفترة الحاسمة، لينجح الحرف اللاتيني المبسّط، ليكون هو المعمول به إلى يومنا هذا.

وبذلك وصلت مسألة الأبجدية إلى مستقرّها، باعتماد اللاتينية في مثل هذا الشهر، شهر أكتوبر من عام 1972، ، وقد كان لاعتماد الأبجدية اللاتينية المبسّطة، الشبيهة لما في اللغة الإنجليزية، أسباب اقتصادية بحتة نظرًا لتوفر معدات الكتابة والنشر بالحرف اللاتيني على عكس الحرف العربي، كما توافق ذلك مع مساعي ثورة/انقلاب سنة 1969م في إحداق تغييرات جذرية في المجتمع الصومالي، تأسيسًا لما رمى فكر (الاشتراكية العلمية)، فأصبح فرض تلك الأبجدية، وسيلة لإنهاء الجدل الذي استمر لأكثر من عقد، حول الأبجدية الأنسب لكتابة اللغة الوطنية، بين أجنحة مشروع اعتماد الابجدية الثلاثة “المبتكرة والعربية واللاتينية”، فأصبح بالإمكان عبر إدخال الحرف اللاتيني، تحقيق قطيعة بين التراث الشعبي الإسلامي المدوّن بـ(فر وداد) وبين الأجيال التالية التي تأقلمت مع الأبجدية الجديدة، ولم يعد للحرف العربي أي ارتباط معاشي، سوى باعتبار اللغة العربية لغة أجنبية في التعامل اليوم، ومحض لغة للتعبد و معرفة الدين، الذي كان – هو ذاته – مستهدفًا من قبل التوجه الاشتراكي للنظام العسكري الذي حكم البلاد لعقدين طويلين.

زر الذهاب إلى الأعلى