جهود أهل الصومال في خدمة المذهب الشافعي1

استجابة لبعض الأحبة الذين طلبوا مني أن أكتب عن اسهامات أهل الصومال ودورهم في خدمة تراث المذهب الشافعي أتناول هذه الحلقة والتي بعدها بعض جهود لأهلنا في خدمة المذهب الشافعي، علماً أنني تحدثتُ هذه النقطة في الفصل الأخير من كتاب ” الثقافة العربية ورادها في الصومال ” وذكرنا أنّ علمي الفقه والتصوف يعدّ من أهمّ العلوم التي اهتمّ بهما أهل الصومال ، وكانت أكثرها تطورا ً، بل وأوسعها قبولاً في أوساط أهل العلم وطلابه في الصومال . ونظراً لارتباط علم الفقه وعمق اتصاله بالدين الإسلامي ومصادره الأصلية المتمثلة في الكتاب والسنّة النبوية الشريفة – عليه صاحبها أفضل الصلاة و السلام _ فلا يستغرب  إذا بذل أهل الصومال جهوداً حثيثةً في سبيل تعلمه والتعلق به والنيل من مناهله ومنابعه الأصلية . لأنّ هذا العلم – أي علم الفقه – يُعدّ من أهمّ العلوم الإسلامية التي لها علاقة مباشرة بسلوك المسلم ومعاملته الدينية والدنيوية، وتنظيم أحواله وعلاقاته المختلفة. ومن هنا أصبح علم الفقه وأصوله من أكثر فروع العلم تطوراً وأوسعها قبولاً ،ليس في أوساط الفقهاء والعلماء فحسب، وإنما في أوساط طلبة العلم وعامة النّاس. وقد اعطى أهل الصومال اهتمامهم الشديد بالفقه الشافعي رغم توفر مذاهب أخرى في المنطقة بحيث اقتصروا على مذهب واحد، وهو المذهب الشافعي نسبة إلى الإمام محمد بن إدريس –رحمه الله – هكذا أصبح اختيار  أهل الصومال وغيرهم من الشعوب المسلمة ومع أنّ هناك بعض أهل العلم من أبناء المنطقة تمذهبوا  بمذهب أبي حنيفة النعمان بن بشير –رحمه الله- وانتشر هذا المذهب، لا سيما في أوساط أهل الزيلع بل وصار بعضهم من أعمدة هذا المذهب في العالم حتى وضعوا كتباً أصبحت فيما بعد عمدة للمذهب ومرجعاً مهمّاً للفقه الحنفي. ومن بين هؤلاء الشيخ العلامة  الفقيه الزيلعي فخر الدين أبو عمر عثمان بن علي الزيلعي صاحب كتاب :(تبيين الحقائق لشرح كنز الدقائق) ، ويعدّ هذا الكتاب من أهمّ كتب الحنفية. ومن بين هؤلاء الزيالعة من الأحناف الذين تمذهبوا بالمذهب أبي حنيفة أيضا، المحدث الزيلعي جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد صاحب كتاب ( نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية).

أما المذهب الشافعي فكان علماء أهل اليمن وفقهائها روّاده إلى بلاد الصومال – كما أشرتُ أكثر من مرة – حيث كانت اليمن من أهمّ وأكبر الروافد العلمية والثقافية في الصومال، وبالتالي انتشر  المذهب انتشاراً واسعاً لا نظير له حتى ساذ المنطقة مما سهل أن يصبح أنّ أغلب النتاج الفكري والثقافي والعلمي المرتبط بالفقه وأحكام الشريعة  على المذهب الشافعي ،لشهرة هذا المذهب في أوساط أهل العلم وغيره من عامة النّاس ، وهذا الأمر ليس خاصاً بأهل الصومال فحسب ، وإنما المذهب الشافعي كان منتشراً – وما زال حتى الآن –  في جميع أرجاء منطقة الشرق الإفريقي. وإذا وقع اختيار أهل المنطقة على المذهب الشافعي فمن البديهي أن ينصب جميع جهودهم على خدمة هذا المذهب، وليس من الغرابة أن يخدم أصحاب الفكر والابداع من أهل الصومال لمذهب الإمام محمد بن إدريس الشافعي التوفى سنة 204ه، بل ومن الوفاء قيام ذلك وتقديم دراسات وبحوث تخدم لهذا التراث القيم الذي انتفع به سكان منطقة شرق إفريقيا قاطبة من خلال تعلقهم بالفقه الإمام الشافعي منذ أن وصل المذهب إلى المنطقة حتى عمّ على جميع أرجاء الساحل الإفريقي الشرقي بقدوم المهاجرين المسلمين السنيين الذين وفدوا من مناطق مختلفة في العالم الإسلامي كاليمن والحجاز والشام والعراق وغير ذلك.

وخدمة المدهب تعني نشره وتطويره من خلال الحلقات العلمية والمراكز الثقافية، وكذا من تأليف ودراسة وتحقيق لمجميع المصادر والكتب التي تخص بالمدهب بدءاً بإنتاج الإمام الشافعي ونظرياته الفقية، ثم الإنتاج العلمي الذي أبدعه العلماء الشوافع عبر القرون الإسلامية حتى يومنا هذا. وهناك كم هائل من الباحثين والعلماء من أهل الصومال تطرقوا هذا الباب خدمة لهذه المدرسة الفقهية في أكثر من وجه وحيثية، ومن الصعب حصر كل الجهود المبدولة عبر التاريخ في بحث واحد حتى ولو كان هذا البحث مستقلاً ومستفيضاً فضلاً عن هذه العجالة التي نحن بسددها في ملتقى أهل العلم والفضل من أخيارنا الكرام الذين لهم دراية في الفقه وأصوله، رغم أنّ بضاعتي مزجاة في هذا الباب، ولكن من باب فضول نحاول إن شاء الله تأريخ خدمة هذا التراث الثمين من خلال تتبع أقلام كُتابنا الصوماليين حسب المستطاع، علماً أنّ ذلك مجرد نماذج ليس إلا.

والباحث الذكي هو الذي لا يتعامل ولا ينظر القضايا من زاوية ضيقة بل يستطيع أن يتناول الموضوع أكثر من حيثية وبقوالب مختلفة، وخاصة عندما يكون الحديث خدمة أهلنا للمذهب الشافعي وكذا جهودهم في نشر المذهب في ربوع منطقة القرن الإفريقي قاطبةً. وقبل الشروع إلى تلك الكتابات والإنتاج العلمي الذي حقق أهلنا تجاه المذهب لا بد من الإشارة إلى الأروقة العلمية وجهودها في نشر المذهب عبر الحلقات بدراسة الأحكام الفقهية على مستوى الصومال الكبير، وهو أمر ليس بسهل بل يحتاج إلى جهود جماعية ومتكاتفة لاستيعابه بقدر الإمكان، ومحاولتنا هنا في هذا المنحى سوف تكون على سبيل ضرب الأمثلة لا للحصر، لأنّه ما من بقعة في المنطقة سواء في المدن والحضر، والقرى والأرياف إلا وكان لها – وما زال – أنشاطة فقهية، ولكن هناك بعض المراكز يشار إليها بالبنان، واشتهرت بنبوغها وتفوقها في ذلك المجال، مثل النشاط الفقهي الذي تتمتع مدينة مقديشو عبر العصور، وكذلك مدينة باطيرا في جنوب البلاد ومركزها الفقهي المعروف في أوساط اهل العلم. والنشاط العلمي الذي كان يجري على جنبات مقديشو كان على مقدمته الدراسات الفقيه، كحلقة الشيخ أبي بكر المحضار،  والشيخ محي الدين معلم مكرم ، والشيخ حسين عدي وغير ذلك من الحلقات التي كان يمّ طلبة العلم بجيمع أنحاء المنطقة.أما مدرسة باطيرا الفقهية فما زالت حتى الآن يمّ إليها طلبة العلم  من أنحاء مختلفة ولها نظامها الخاص، وتمتاز هذه المدرسة بمواصلتها دون التوقف رغم الظروف الأمنية ، وأنّ علماء الحلقات العلمية يستخدمون أغلب اللهجات الصومالية حتى لا يتعرض طالب العلم عوائق في سبيل تحصيله العلمي.

الإنتاج العلمي والثقافي للتراث الشافعية:

أما مساهمات أهل الصومال في خدمة المذهب الشافعي من حيث الإنتاج العلمي فنستطيع القول بأنّ هناك جهود جبارة نحو ذلك ، ولكننا نقسم تلك الجهود إلى قمسين:

أولاً: قسم مباشر لخدمة المذهب من حيث تراث الإمام الشافعي رحمه الله.

ثانيا:وقسم آخر قام بخدمة عموم المذهب، سواء من حيث الدراسة والتأليف وتخريج النصوص وتحقيقها، وشرح المتون والتعليق عليها، وجمع القواعد والأقوال وتهذيبها ولملمتها ثم عرضها على القرآء متناسقة كدراسة مستغلة، كل ذلك على إطار المذهب الشافعي.

أولاً: قسم يباشر رأساً لخدمة المذهب من حيث تراث الإمام الشافعي:

وقد وجد من بين جهود أهل العلم في الصومال نخبة من العلماء والمثقفين اجتهدوا كمساهمة لخدمة تراث الإمام الشافعي رغم البعد الزمني وقيام كثير من أهل العلم الشافعية عبر العصور الإسلامية الزاهية في خدمة هذا التراث.

ومن بين أهل العلم في بلاد الصومال الذين قاموا بدراسات وبحوث تخدم للتراث الشافعي فضيلة الدكتور علمي طحلو جعل علسو مالن، بحيث وضع رسالة نفيسة أسماها ” أسس تغير مذهب الإمام الشافعي” .. بين الحقيقة والدعاء”، وهو بحث في غاية الأهمية، ويعالج المؤلف في بحثه ظاهرة استدلال المعاصرين لتغير المذهب الشافعي من القديم العراقي إلى الجديد المصري ليعبروا إلى أن كل عصر فقهية وفقهاؤه،  ولو كان الجديد خلاف النصوص الشرعي. ومن هنا جاءت هذه الدراسة لرصد الأسس والأساليب التي أدت إلى تغير مذهب الشافعي وبيان أدلة لكشف المفارقة الكبيرة بين الوهم الشائع عند المعاصرين حول الجديد والقديم الفقه الشافعي .. بغية حماية الفكر الإسلامي من الاغتيال، ورغم أن هذه الدراسة انتهى بها الدكتور منذ شهر رجب عام 1422ه الموافق 2001م إلا أنّه ما زال مخطوطاً غير مطبوع، وهو بحدود 130 صفحة.

وقد سلك فضيلة الدكتور عمر إيمان أبو بكر نفس مسك زميله في الدرب الدكتور علمي طحلو في خدمة التراث الشافعي وإن كانت دراسة الدكتور عمر لها علاقة بالحديث وعلومه ولكن لها صلة مباشرة بالتراث الإمام الشافعي وهي دراسته ” الأحاديث التي علّق الإمام الشافعي القول بها على صحته “. وهذا الكتاب لا يزال مخطوطاً حسب علمي وكما أخبرني المؤلف نفسه في بدايات عام 2006م قبل أن يضم المؤلف في السلك السياسي والانتماء الأحزاب الدينية السياسية في الصومال. وعلى العموم أن الكتاب يتعلق بالأحاديث التي يقول الإمام الشافعي فيها إن صح هذا الحديث قلت به ، فيتم دراسة ذلك الحديث ليعرف هل هو صحيح أم لا. وفضيلة الدكتور عمر له دراسة أخرى أنجز في سبيل خدمة التراث الإمام الشافعي، وهي دراسته ” منهجية الاستدلال بالحديث عند الإمام الشافعي”. ويعني طريقة الإمام الشافعي رحمه الله حينما يستدل بالحديث على الأحكام الفقهية ماذا يشترط لقبول الحديث. هذا الكتاب لا يزال مخطوطاً لذا مؤلفه.

ثم جاء أحد الفضلاء المتواضعين لبلادنا، وكنت أعرفه منذ ثلاثين سنة وهو فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله الشيخ نور عبدي محمد. وقد استطاع الدكتور إنجاز دراسة أكاديمية لها صلة بالتراث الشافعي عند وضع كتابه ” رواية الإمام الشافعي عن شيخه إبراهيم بن يحيى في كتابه الأم” ، وقام بدراسة حول الأحاديث والأثار التي أوردها الإمام الشافعي في كتابه الأم عن طريق شيخه إبراهيم بن أبي يحيى، وهذه الأحاديث تصل إلى قرابة 200 حديثا. وخلال البحث والدراسة في هذا الأمر اتضح لدى فضيلة الدكتور الشيخ عبد الله شيخ نور بأن أغلب الأحاديث والأثار سليمة من حيث السند أو في المتابعة، ما عدا أقل من عشرين حديثا، وهي تعتبر ضعيفة. وقد برهن المؤلف – أي الشيخ عبد الله –  كيف يروي الإمام الشافعي عن شيخه. وهذا الكتاب عبارة عن رسالة علمية نال بها الكاتب لنيل درجة الماجستير من جامعة أم درمان الإسلامية في السودان في عام 2011م. والشيخ له دراسة أخرى لها صلة أيضا بالتراث الشافعي وهي دراسته: ” الأحاديث المعلقة الواردة في كتاب الأم للإمام الشافعي – وصلا ودراسة “، وهنا اختار المؤلف هذا العنوان ليعالج الأحاديث الواردة في كتاب الإمام محمد بن إدريس الشافعي – رحمه الله –  والشروط التي وضعها علم الحديث ، وليزول هذا الإشكال عمل الشيخ عبد الله دراسته هذه. وتدور هذه الدراسة حول تلك الأحاديث المعلقة وجمعها ثم تتبعها من كتاب الأم ثم دراستها وتلمس الأسباب التي أدت إلى التعليق. وقد توصل المؤلف خلال بحثه النفيس عدة نتائج ومن بينها : بأن الشافعي أول من دوّن علوم الحديث وأنه كان من حفاظ الحديث .أما الأحاديث المعلقة الموجودة في كتابه إما أن تكون في الصحيحين أو إما أن يكون لها شاهد في كلا الصحيحين أو أحدهما.  ويرى المؤلف بأن هناك أسباب أدت إلى أن يعلق الإمام الشافعي هذه الأحاديث مثل كون الإمام أراد الاختصار وعدم تطويل ، وكذلك لأسباب تتعلق بالمناظرة بحيث أن بين المناظرين يعرفون سلسلة الأحاديث وليس من الضرورة سرد كل ما يتعلق بالأحاديث. وعلل المؤلف أيضا بكون الأحاديث مشهورة بين المحدثين. وذكر المؤلف سببا آخر وهي رواية الحديث بالمعنى، فعلق حتى لا يظن القارئ بأن الشافعي نقل هذه الألفاظ بهذا السند أو الأسانيد. وجزم المؤلف بأن هذه المعلقات من الأحاديث لا تقل عن مستوى كتاب الأم وقيمته العلمية لأن الأحاديث المعلقة التي لم توجد المتابعة أو الشاهد هي أربعة أحاديث فقط من بين 869 أحاديث معلقة، علما أن كتاب الأم يحوي قرابة 4600 رواية تقريبا ، مما يدل على براعة الشافعي وتمتعه فن علم الحديث. وعموم البحث الذي أنجز فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله الشيخ نور يصل حوال  835 صفحة وما زال مخطوطا غير مطبوع.

وإذا كان أغلب تراث الإمام الشافعي يتعلق بالفقه وأصوله فلم يتأخر أهلنا في الصومال ممن لديهم ميول فقهية بل ونبغ في ذلك المجال مثل فضيلة الدكتور محمد شيخ أحمد شيخ مٌحٌمد عمر متان المشهور بشيخ محمد حاج بحيث قام بتقديم بحوث مماثلة نحو تراث الإمام مثل دراسته المسماة ” المذهب الشافعي في الصومال: معالم وملامح من واقع التفاعل البيئي ” وهو عبارة عن بحث مقدم لمؤتمر الإسلام في إفريقيا الدولي الذي انعقد في الخرطوم 2006م، ثم نشر في مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة إفريقيا العالمية، العدد التاسع، 2007م ، وأخبرتي المؤلف بأنه طوّر البحث إلى أن وصل كتاب علمي قابل للنشر وهو الآن في قيد الطبع والنشر في القاهرة بمصر بواسطة دار الزيلع للنشر والتوزيع. وهناك بحث آخر أنجر فضلته على النوال نفسه وهو بحثه ” تفاعل المذهب الشافعي مع الواقع الاجتماعي ومستجات الحياة” . وهذا البحث كان ضمن الأوراق البحثية التي قدمت إلى ملتقى مؤتمر الثالث لعلماء شرق إفريقيا الذي تنظمه جمهورية جيبوتي تحت عنوان: ” دور الإمام في إثراء الفقه الإسلامي” وهو بحث له صلة بفقه النوازل والمستجدات في مختلف جوانب الحياة. ويهدف هذا البحث أساساً إبراز المقومات الرئيسة التي توافرت المذهب الشافعي، ليكون على الرغم من تأخر ظهور زمنياً.

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى