عباقرة لهم أصول في منطقة القرن الإفريقي(61) الشريف محمود عبد الرحمن (5)

فيما مضى عرفنا أنّ الشريف محمود اشتهر بتأييده وتحمسه لقضايا شعوب العالم الإسلامي المهضومة والذين يزرحون تحت احتلال المستعمر، حيث كان يتعاطف مع تلك المجتمعات رغم أنّ بلاده كانت لا تختلف عن حالهم، وكان – رحمه الله – يرى قدسية حرية الإنسان وضرورة تحرره من الاستعمار، بل ورفضه مهما كان الأمر من الثمن الباهظ، كيف لا، وهو – رحمه الله – كان عالماً بالشريعة الإسلامية وغيوراً في أمته وثقافته الإسلامية.

وفيما يتعلق بالقضية الصومالية فقد كان مطمئناً برحيل المستعمر والتحرر منه ، بل وتوحيد أجزاء الوطن الصومالي الكبير الذي جزأه المستعمر الأروبي إلى أقسام خمسة، وأنّ ذلك مطلب وطني وضرورة ملحة، والطريق إلى ذلك ليس مفروشاً بالحرير والزهور، وإنّه مما لا يوافق المستعمر، ومن هنا كان الشريف وزملاؤه في النضال في وطننا الكبير يحرصون على حذر من الانجرار نحو تنفيذ المخطط الاستعماري الذي يهدف إلى تقسيم المنطقة وعزل أبنائه في كنتونات وحدود مصطنعة، ومن هنافلم تأت محاولاتهم ومبادراتهم من فراغ في سبيل الحدّ من هذا المخطط وإفشاله، فكان سلاحهم العزيمة القوية والإصرار المستمر على الكفاح حتى االكرامة والحرية التامة.

وقد تأكدت أهداف الكفاح والنضال عند تأسيس المؤتمر القومي الصومالي الذي استوعب النضال في الصومال الكبير، وفور قيام هذا الكيان السياسي التحرري في عام 1958م تقلد رئاسته المناضل الصومالي الكبير السيد محمود حربي من جيبوتي التي كانت تسمى في تلك الفترة الساحل الصومالي الفرنسي، وكان الشريف محمود عضواً مؤسساً في هذا المؤتمر القومي الصومالي. وكان السيد محمود حربي اختير رئيساً لوزراء الحكومة الذاتية فى الصومال الفرنسى (جيبوتى حاليا) قبل انتخابه عضوا فى البرلمان الفرنسى، ومع ذلك كان معروفاً بمواقفه الشجاعة من على منصة البرلمان الفرنسى ضد العدوان الثلاثى على مصر فى عام 1956، وتأييد الثورة الجزائرية، والذى طالب باستقلال بلاده فورا، وأسس فيما بعد جبهة تحرير الصومال الفرنسى. وقد كان هذا المؤتمر يضم كل الأحزاب الوطنية التى تدعو إلى الاستقلال والوحدة فى جميع الأجزاء الصومالية المحتلة. وأهمية هذا المؤتمر تكمن فى أنه كان بمثابة جبهة وطنية عريضة، والذى نجح فى وضع استراتيجية ثورية شاملة للتحرير.

كانت رؤية الشريف محمود واضحة تجاه الاحتلال، ومن هنا لم يتردد في اختيار التيار الذي كان يقوده الرئيس جمال عبد الناصر رئيس جمهورية مصر والذي دعا إلى تحرير البلاد الإسلامية من الاحتلال الاستعماري والأحلاف العسكرية، بحيث وضع كل ثقله في تأييد هذا التيار بدلاً من التيار الآخر الذي بزعامة باكستان وإيران والعراق وتركيا الذي كان يؤمن بالتحالف مع بريطانيا والولايات المتحدة ضد الشيوعية، وذلك في الفترة التى أعقبت الاستقلال عندما ظهر تياران بارزان على مسرح الصراع السياسى فى العالم الإسلامى، وحتى ” لما عقد المؤتمر الإسلامى الذى مقره فى باكستان مؤتمرا للتنظيمات الإسلامية الشعبية بقصد جر الصومال إلى المحور الغربى بتشجيع من الحكومة، عارضه بشدة ، محذرا من مغبة السير فى هذا الاتجاه، دون أن يرفع وتيرة المعارضة اِلى المقاومة الإيجابية، نظرا لمحدودية تأثير هذا المؤتمر على المستوى الإسلامى ، وضآلة الدور الذى يمكن أن يلعبه الصومال فى مساندة هذا التيار. وإن كان الاتجاه الغالب فى البلاد هو فى صف التيار المعادى للاستعمار والأحلاف والحروب العدوانية والتوسعية رغم موقف الحكومة الرسمى المحافظ ” ، كما ذكر ذلك السفير محمد الشريف محمود صاحب سلسلة من التراجم لوالده الشريف محمود.

لم يهدأ بال الشريف محمود عبد الرحمن حتى ينال الوطن الحرية التامة والاستقلال الكامل من الاستعمار ، وتتمكن الأمة من إيجاد كيان وطني صومالي مستقل ذي سيادة كاملة، وفي سبيل هذا الهدف كافح وناضل في داخل البلاد وخارجها، وشارك بنضاله هذا ذويه وشعبه، وكم سهر ليالي، ونشط أياماً لتحقيق هذا الهدف النبيل، متبعاً بألوان من الكفاح والنضال قولاً وعملاً، وكان على صلة مستمرة بقادة الدول العربية ويكاتب ملوكها ورؤساءها لشرح قضيته ونضاله حتى يجد تأييداً معنوياً وحسياً، ونتيجة لهذه الحركة الدبلوماسية وجدت القضية الصومالية مساندة قوية في أوساط الشعوب العربية والإسلامية وقادتها.

الاستعمار ومعاقبته بالشريف محمود

لم يكن الاستعمار الايطالي يرحب بتصرفات الشريف محمود وغيره من الوطنيين الذين كانوا دائما يصرون على استقلال الصومال ونيل حريته في الوقت المحدد المتفق عليه دولياً، حيث كانت تنص بنود واضحة على استحقاق الحرية، ولكن المستعمر حاول أكثر من مرة تدويل القضية والمراوغة فيها، وقد ذكر السفير محمد شريف محمود بأنّه حيث كانت اتفاقية الوصاية تنص على وجود مجلس استشارى يمثل الأمم المتحدة فى مقدشو، ويختص بالإشراف والرقابة على أعمال وتصرفات الإدارة الإيطالية، ورفع التقارير الدورية إلى مجلس الوصاية التابع للأمم المتحدة عن كيفية تنفيذها ومدى وفائها بالالتزامات والتعهدات التى قطعتها، ولما كان هذا المجلس لا يملك من القدرات والإمكانيات للاطلاع على تصرفات الإدارة الوصية فى عموم القطر، لا سيما وأن الإدارة الإيطالية كانت تناور لعزل المجلس عن الاطلاع ومتابعة التطورات والأحداث ، فإنه كان يقوم بتقديم تقارير دورية مدعومة بالأدلة والشهادات إلى هذا المجلس عن انتهاكات إيطاليا لاتفاقية الوصاية، ومن بينها الممارسات القمعية ضد العناصر الوطنية، وإثارة الفتن القبلية وتحريض عملائها على استفزاز الشعب، والامتناع عن تنفيذ الالتزامات المتعهد بها فى اتفاقية الوصاية. وكانت هذه التقارير التى ترفع إلى مجلس الوصاية خير معين للمجلس على القيام بدوره الإشرافى والرقابى على الإدارة الإيطالية..

وهكذا كان الشريف محمود عبد الرحمن وزملاؤه يتصدون لمخطط الاستعمار – رغم قلة حيلتهم – بإصرارهم القوي على مجابهة الاستعمار مهما كلف الأمر ، ولكنّ ذلك سبب مقايضات كثيرة ضدهم، ولهذا وبالإضافة إلى موهبته القيادية وتميزه فى التأثير على الرأى العام نفته الإدارة البريطانية إلى مدينة براوة ، ومنعته من مغادرتها ، ووضعته تحت مراقبة الشرطة لمدة طويلة. ولم يتمكن من استعادة حرية الحركة والتنقل والعودة إلى العاصمة إلاّ بعد نقل الحاكم العام البريطانى من البلاد.

وهذه المضايقات لمن ينشد الحرية ويقف في وجه المستعمر كانت أمراً عادياً عبر تاريخ كلّ المكافحين والمناضلين، وما أصاب الشريف محمود فقد أصاب غيره من المناضلين والمكافحين الصوماليين وغيرهم، فهذا المجاهد المناضل السيد مقتل طاهر الأغاذيني الذي كافح في سبيل تحرير وطنه من المستعمر الحبشي في فترة الامبراطور حيلو سلاسي، لقى إساءات كبيرة من قبل الأحباش، وذلك عقب أن ألقى الاستعمار البريطاني القبض عليه في مقديشو في عام 1949م ثم سلمه للأحباش الذين ألقوه بدورهم في سجن ألنبقدي في إيثوبيا، حيث أمضي قرابة عشر سنوات مسجوناً نتيجة كفاحه ونضاله من أجل حق شعبه الطبيعي في الحرية والاستقلال لكيانه وأرضه.

ومثل هذا الفعل الشنيع لقيه المناضل الكبير محمود حربي الذي نادى بالاستقلال والوحدة في جميع الأجزاء الصومالية المحتلة، وقد ساهم مع غيره من رفاق السلاح بممارسة ضغوط على المستعمر سلمياً ثم عسكرياً بغية نيل الحرية والاستقلال.

وبعد فشل الاستعمار الفرنسي في استمالة المناضل ورفاقه بشتى الإغراءات كي يوقف نضاله، مارس المستعمر القبضة الحديدية والبطش والتنكيل ضد رموز حزب الاتحاد الجمهوري ومنع الاجتماعات والمظاهرات الوطنية، وزج بعدد كبير من المواطنين في غياهب السجون، أما السيد محمود حربي فقد دبر له الاستعمار المؤامرة التي وضعت حدًّا لحياته، حيث  توفي المناضل في حادث طائرة بطريقة غامضة وهو في طريقه إلى أوروبا، الحادث الذي تردد وقتها أنه كان مدبّراً تقف خلفه منظمة سرية من أدوات الاستعمار الفرنسي وذلك في عام 1960م.

وفي مدينة بربرا ونواحيها برزت حركة وطنية بقيادة الشيخ بشير شيخ يوسف، وكان هدفها إجلاء الاستعمار من أراضي الصومال كاملة، وبعد كفاح مرير تمكن المستعمر من قتل الشيخ بشير وذلك عام 1947م وألقى بجثته على قارعة الطريق. وحديث المجاهد الشيخ حسن برسني مشهور في الصومال الكبير وخاصة في القطر الجنوبي، وكان مناضلاً فذاً ومجاهداً مخلصاً لا يتردد ولا يتراجع، شارك في نشر تعاليم الشريعة الإسلامية والثورة في معظم الأقاليم الجنوبية، ولأجل جهاده وكفاحه الوطني ألقي القبض عليه، ومات في دروب النضال ضد الاستعمار في السجن. علماً أنّه رحمه الله كان شجاعاً يخوض المعارك بنفسه. وحروبه مع الإيطاليين كانت طويلة وقوية وأكثر نكاية بالمستعمر؛ فحينما استولت إيطاليا على جنوب الصومال أواخر القرن التاسع عشر رفض الشيخ حسن برسني حكمهم، وحاولت إيطاليا إقناعه بالتهديد تارة وبالإغراء بالمال والمناصب تارة أخرى دون جدوى، حيث أصر الشيخ حسن  على موقفه الرافض لحكم الإيطاليين إلى أن تمكنوا من إلقاء القبض عليه بعد معارك ضارية عام 1924م ووضعوه في سجن في مقديشو، وأخضعوه لصنوف من التعذيب منها منعهم عنه الطعام والشراب كي يتراجع عن مبادئه الثورية فلم يتراجع، ثم نقلوه إلى زنزانة ضيقة مسمومة في السجن فمات بها عام 1926م.

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى