أزمة الحوار في المجتمع الصومالي

نظرا لضرورة الحوار لاستمرار العلاقات الاجتماعية وسلامتها وتطويرها على مستوى المجموعات أو المجتمع الكبير لكونه الأداة الأكثر فاعلية في تحقيق التفاهم والتعاون وحل المشكلات تمس الحاجة إليه في المجتمع الصومالي، خاصّة في ظل حالة الانقسام والاختلاف والمشكلات المتشابكة التي يعيشه في كل جانب من جوانب حياته، سواء السياسية، أو الفكرية، أوالثقافية، أوغيرها.

إلاّ أنّ هناك العديد من العوائق في التركيبة الصومالية الشخصية والاجتماعية والمفاهيم الثقافية السلبية المترسخة في ذهنية المجتمع وتقاليده في مجال العلاقات تمنع من قيام حوار جادّ مثمر وبنّاء، والتي يمكن الإشارة إلى أهمها في الآتي:

  • عدم القبول بالآخر: لا مكان للآخر في حسابات الأنا في هذا المجتمع، فكلّ يمارس حياته ويزاول أعماله وكأنّه يتحرك في كوكب خاص لا يشاركه فيه أحد، فالحياة الحقة هي حياته، وحياة الآخرين خطأ والأفكار التي يكونها الأنا لنفسه إزاء الموضوعات والأشخاص هي الحقيقة والصواب الذي لا ينبغي الحياد عنها أو تعديلها والمساس بها. يستوي في ذلك المثقفون والعوامّ.

فالمفتى يفتي حسب فهمه الخاص للنصوص ويلغي فهوم الآخرين لها ويحكم عليها بأحكام متفاوتة ابتداء من الخطأ، ووصولا إلى الضلالة والبدعة والمروق من الدين.

والسياسي يتصلب على رأيه في كيفية إدارة برنامج ما، ولا أفكار غير فكره تستحق الالتفات إليها ومناقشتها، وإنّما أي شكل من أشكال المعارضة لن يكون بعيداً عن تصنيفات المؤامرة والخيانة المعرضة صاحبها للمساءلة والمحاكمة وتجريده من امتيازاته.

ليس هناك هامش للاختلاف والتحاور في حياة هذا المجتمع، فالخلاف والمعارضة رديف الحرب والقتال، والبقاء للأقوى لا الأصلح ولا حدود للأنانية. ولعلّ عوامّ ربّات البيت أفضل حالا من النخب والقادة فيما يتعلق بوضع حدود للأنانية والاعتراف بوجود الآخر حين تجمع الجارتان المتقابلتان قمامة منزليهما إلى منتصف الشارع الذي يمر من أمام المنزلين باعتبار أن نصف الطريق لهذا المنزل والنصف الآخر للمنزل الآخر.

  • الجهل بحقيقة الحوار وطبيعته: الحوار في أساسه يهدف إلى تحقيق نوع من التفاهم حول الموضوع محل الاختلاف، أو التكامل والتعاون. وبمعناه هذا فهو غير موجود في إدراك الإنسان الصومالي الذي يعرف الجدل والخصومة بما يعنيه ذلك من تجاهل الحقائق، وبذل الجهد في فرض المبادئ والقناعات التي يتبناها طرف ما، وحشد كل القوى لشطب مبادئ وقناعات الطرف الآخر ووصمها بكل سيئ من الخطأ والتسفيه والتشويه والإغراض.
  • عدم الشعور بالحاجة إلي الحوار: يمتلئ الإنسان الصومالي بغرور صبيانيّ، يجعله يعتقد في مناسبات الاختلاف وتبادل الآراء اعتقاداً جازماً أنّه الوحيد الممتلك للحقيقة فآراؤه وأفكاره وفهمه حقائق منبنية على حقائق غير قابلة للنقد والنقض بأفكار تمّ التوصل إليها عن طريق التأمّل وإعمال العقل الذي بإمكان كلّ أن يستهدي بها إلى قناعات وأفكار مختلفة عنها.

ومن يمتلك ناصية الحقيقة ليس بحاجة إلى مناقشتها مع من لا يمتلكها، بل واجبه فقط أن يملي هذه الحقيقة ويملّكها لمن يفقدونها. أيضاً ونسف الأباطيل التي يقتنع بها الطرف الآخر كمبادئ وقناعات. وهذا هو مدار ما يعقد من أشباه الحوار من مؤتمرات وندوات بين المجاميع السياسية أو المذهبية ليس الهدف منها تبادل المعلومات والأفكار والحقائق لتحقيق التكامل المطلوب للحفاظ على المصلحة العامّة وتطويرها، وإنّما لاستعراض القوة الدفاعية التي تتمتع بها المجموعة للمباهاة بها أمام غرمائها من المجموعات الأخرى.

إذن فالمجتمع بحاجة إلى فرض رأيه ومذهبه عن طريق الخصومة وتفنيد الطرف الآخر. وليس بحاجة إلى أن يقدّم له الآخرون شيئا من الفائدة وهو الحائز على حقائق الأمور حسب اعتقاده. وهذا يعني أنّ الحوار في مجتمعنا في أساسه حرب كلامية مكملة للحرب اليدوية.

  • رفض متطلبات الحوار: من بين ما يتطلبه الحوار الجادّ والهادف الكثير مما لا ينسجم مع كوامن الثقافة البدوية الصومالية منها:
  • القبول بالآخر بما يعنيه ذلك من التواضع والتنازل عن الغرور والكبر الأجوف غير القائم على ركائز عقلية أو علمية، والاعتراف بدلا من ذلك بأنّ أحداً لا يتمتع بأي مميزات تمنحه الفوقية على الآخرين، بل كل فرد أو تنظيم إنما هو كيان مماثل ومساو لكيان الآخرين كما أنّ كيانهم مماثل ومساو لكيانه، ينطوي كلّ كيان على الكثير من عناصر الكمال والفضيلة كما ينطوي على الكثير من عناصر النقص. وليس التنازل إلى هذا الحدّ من الأمور السهلة على الإنسان الصومالي المملوء بأوهام الفوقية والنظر إلى الآخر بدونية. وإن كان البعض يتكلف التواضع ظاهريًّا إلاّ أنّ مخالفة الباطن للظاهر والاحتفاظ بهذه العقيدة في الدواخل ما تلبث أن تندّ في ثنايا كلامهم أو تتكشف من خلال تصرفاتهم العملية أثناء التواصل مع الطرف الأخر. حين يستخدمون عبارات التسفيه والتخطئة والتقبيح ضدّ محاوريهم، ولا يتمالكون أن يوجهوا عبارات ترشح عنفاً، أويصفوا محاورهم بكلّ صفات النفاق وعدم احترام الدين أو الثقافة أو المجتمع، ويكيلوا لهم السب واللعنات
  • الاعتراف بجواز الخطأ على النفس كما يجوز على الآخر: لن يكون الحوار مثمراً ما لم تكن أطرافه مستعدّة للتأثر بما يمكن أن يؤدي إليه من تغيّر في القناعات موضع الحوار، أو في النظرة إلى المحاور. إذ أنّه حتى في حالة عدم الجاهزية لتغيير القناعات والتنازل عنها أمام البراهين التي يقدمها الخصم وترجح كفته، فإن المحاور مطالب بتغيير نظرته السابقة إلى الآخر، من لومه على فكره ومذهبه إلى الاعتراف بأنّ للآخر مبرراته القوية لتبنيه هذالفكر. وبناء على ذلك يتمّ نبذ العداء والاتهام بالنوايا السيئة وتفتح صفحة جديدة من العلاقات التكاملية وتلاقح الأفكار وقيام التعاون.

إنّ الشخصية الصومالية بتركيبتها النفسية وخلفيتها في ثقافة تحقيق الذات وإلغاء الآخر غير قابلة لتطبيق هذه الأدبيات

والاعتراف بالخطأ خطوة مكملة لخطوة التواضع الذي هو مفقود في الشخصية الصومالية المعروفة بميلها إلى ادعاء الكمال والفضيلة والفوقية الجوفاء على الآخرين، والاعتراف بالخطأ يتعارض مع هذا المنطق، لما يعنيه في ثقافة الإنسان الصومالي من تجريده من المميزات الكمالية التي يعطيها لنفسه.

لذا فهذا أيضاً عنصر يلعب دوره في إعاقة قيام حوار حقيقي وجادّ، حيث يجعل المحاور في وضعية الدفاع بالصواب وبغير الصواب عن أخطائه مهما قامت البراهين ضدّها.

  • الانفتاح والاستعداد للاستفادة من المحاور: ويعني أن يكون لدى المتقدّم للمحاورة بعد أن اتصف بالتواضع، وصارت لديه القدرة على الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه الرغبة في الاستفادة من محاوره إن كان لديه جديد فكر ومعلومة ومنهج وسلوك ونحو ذلك.

فالحوار يكون بنّاء إذا كان هناك انفتاح وانشراح صدر بين المتحاورين بعيداً عن الحساسيات والانطواءات التي تجعل كلاًّ ينطوي على نفسه ويتشبّث بما عنده حتى لو تبين أنه لا يساوي قشة. وهذا الانشراح يجعل من الحوار كلّه مفيداً ليس فحسب في النقاش وإنما كذلك في كلّ أجوائه المحيطة به، فإضافةً إلى تبادل الأفكار والمعلومات ومناهج الاستدلال وطرق الاستنباط هناك آداب الاستماع والتحدث، وتهذيب الحديث من الأساليب الجارحة للكبرياء والمسيئة إلى نفسية المحاور أو الموحية بالعنف والكراهية والازدراء والسخرية، والنظرة إلى المحاور على أنه قوة يجب التكامل معها. كلّ هذا وغيره يجعل من الحوار سلّة فوائد لكل من الأطراف المتحاورة إذا كان لديهم الانشراح والاستعداد للأخذ والعطاء.

والإنسان الصومالي – الذي يدخل إلى الحوار من منطلق أنّ واجبه توصيل الحقائق وإملاؤها على الآخر الذي حجبت عنه، وتحيط به الأخطاء والقصور والأغلاط في فهمه وسلوكه، ويجب أن تصحح مفاهيمه المغلوطة ويدحض باطله، أو إقصاؤه وصدّه بعيداً حتى لا يعدي الناس عدواه – لا يجني أيّ فائدة من الحوار طالما أنه يخوضه بنية دفاعية عنادية.

  • الصراحة والجرأة: الحوار الجادّ يتطلب الانحياز للحقّ والحقيقة فحسب، لا التحيز من أجل الدفاع عن فكرة أو قناعة معينة يتقوقع فيها الإنسان.

وإذا كان الهدف هو البحث عن الحقيقة فذلك يقتضي اتباع الصراحة المطلقة في التناول ليس في الكشف عن مبرّرات اعتناق المبدأ أو الفكرة محل النقاش فحسب، بل أيضاً في الكشف عن الجوانب الخفية التي تضعف هذه المبرّرات، أو الإقرار بها عند كشفها من قبل الآخر. وهذا غير ممكن فيما إذا اتخذ كلّ من المتحاورين وضعية الدفاع وحرص على دعم مبرّرات موقفه متستّراً على دواعي التحفظ في الموقف، حتّى لا يهتزّ إيمانه أو عدم إيمانه بهذه الفكرة. مفضّلا البقاء أسيراً لقناعة منقوصة الأركان، مما يجعل الحوار فاقدا للمعنى كمن يقابل الطبيب ويعطيه وصفاً غير صحيح عن الأعراض المرضية التي يعاني منها خوفاً من تشخيصه على أنّه مصاب بمرض خطير لا يرغب في التعامل معه.

والاستعانة بظاهرة التستر على المعايب والمناقص للتغلب على المحاور أو – بالأحرى – الخصوم كثيرة في مجالس النقاش السياسي والفكري الصومالي بأن يؤكّد طرف على إبداء جوانب قوة الفكرة التي يؤمن بها علميًّا وعمليّا، متستراً على جوانب ضعفها، ولائذاً بالإشغال وإضاعة الوقت بحرف النقاش عن مساره خارج الموضوع. هرباً من مواجهة الحقيقة. مثلا يؤكّد أحدهم على صلاحية فكرة ما للتطبيق، ويتستر في نفس الوقت على ما تنطوي عليه من خدمتها مصلحة فئة معينة، أو على الخلل التنظيمي الموجود في تطبيقها الذي قد يؤدي إلى نتائج عكسية، ونحو ذلك مما لوكشف عنه أو طرح على طاولة الحوار اضطرّ المحاور إلى تغيير قناعاته أو التشبث بها على ضعف واهتزاز في نفسه حيالها.

تقف هذه العادة أيضاً عائقا أمام قيام حوار حقيقي جادّ من أجل الحق والحقيقة بعيداً عن الدفاع والانتصار لأشخاص بعينهم أو لأفكار بعينها على وجه حقّ أو على غير وجه حقّ.

إنّ فقدان الحوار يكرس التخلف واستشراء المشاكل متعددة الجوانب وضيق الأفق وضحالة الفكر وحالة الانقسام والاختلاف. ووجود الحوار الجادّ والهادف هو المخرج الوحيد لتجاوز هذه المظاهر السلبية، والوصول إلى الثراء الفكري، وسعة الأفق، والتنسيق بين جهود الجميع للتعاون على حلّ المشكلات ورأب الصدوع بين المجموعات المنقسمة فكريًّا أو مذهبيًّا أو سياسيًّا. إلى غير ذلك مما من شأنه تحقيق أنواع من التقدّم على أصعدة الحياة المختلفة.

وعليه ينبغي على نخب وقيادات هذا المجتمع إدراج تكريس ثقافة الحوار الهادف والجادّ والبنّاء ضمن أجندتها وبرامجها في إطار تعزيز الثقافة الصومالية وإثرائها بالظواهر الاجتماعية الإيجابية الناقصة، وتنظيم فعاليّات للحوار بين أطياف المجتمع خاصّة في مجموعاته المعروفة باختلافها الفكري أو السياسي أو المبدئي في أي مجال من مجالات الحياة.

 

زر الذهاب إلى الأعلى