مقديشو بين الأمس واليوم

قبل أيام معدودة، عدت الي تركيا بعد زيارة خاطفة لأرض الوطن، استغرقت عشرين يوما. هذه الرحلة تركت في ذاكرتي إنطباعا جميلا، وباتت نفسي على قناعة أن مستقبل البلاد باهر. والمشاهد الجميلة التي رأيتها دليل على  حقيقة هذا الإنطباع. لم تكن المدينة كسابق عهدها، تبوح منها رائحة البارود، والرصاص التي تزكم الأنوف، بل كانت مدينة تنبض بالحياة، تشق طريقها نحو الإزدهار، يتطلع كل من يعيش فيها الي حياة أفضل، قادرة على محو ما تعلق على ذاكرة العالم، بإنها مدينة الموت… مدينة الأشباح … أخطر مدينة في العالم.

قصة مطار آدم عدي الدوليgarooka 1

في الساعة السادسة ظهرا، وصلنا مطار أدم عدي على متن طائرة شرق افريقيا ، كان المطار مشغولا، ورغم بساطته، كان ينبض بالحركة والنشاط، عكس ما كان، قبل ثلاث سنوات، عندما غارت البلاد، واضطررت الي العيش في المنفى. طائرات تهبط، وأخرى تقلع في كل حين. وغير بعيد عن مدرج المطار، أعمال بناء تجري على قدم وساق، وسيارات فاخرة ، يستقلها اناس، ذو ملامح غربية، ومباني فصيرة ذات تصاميم، وهندسة معمارية جميلة، تلوح في الركن الجنوبي للمطار. بعد استكمال الإجراءات الروتينية في قسم الجوزات، ذهبت مباشرة الي صالة الخروج، لأجمع حقائبي وأغار المطار. تلك الصالة كانت عبارة عن غرفة ضيقة لم تبن بمواصفات  تضمن على سلامة وراحة المسافرين، وتفتقر الي أبسط مقوامات صالات المطارات. لم يكن في الغرفة مقاعد ولا مقهى، يمكن الاستراحة فيها. ولا أجهزة تهوية  تتناسب المكان. لكني لاحظت في المطار مؤشرات، تدل على أن هذه المشاكل في طريقها الي الزوال. وفي الأيام أو الشهور المقبلة، سيشهد المطار تحولات جذرية، كي يرتقي الي مصافي المطارات الدولية، حسبما قال لي بعض العاملين في المطار.

garonka

ليس دخول المطار أو الخروج منه، أمرا سهلا بالنسبة للمواطن العادي، نتيجة الإجراءات الأمنية المفرضة على المطار. حواجر منتشر في كل زاوية، وتفتيش دقيق، تقوم به أحيانا الكلاب المدربة، بالإضافة الي المسافة البعيدة التي أن يقطعها الشخص كي يستقل سيارة أجرة أو يجتمع مع أهله في خارج المطار.

للتنبيه، هذه المشاكل تخص فقط المواطنين العاديين، أما المسئؤولين، وكبار الشخصيات، كالفنانيين والفنانات- الضيف العزيز في هذه الأيام- يتلقون معاملة طيبة، ويتم ترحيبهم كالأبطال، وينقلون بالسيارات الفارهة، وسط إجراءات أمنية تليق بمستواهم.

قصة مركز حلني                        

xalaneهو المباني الواقعة جنوب المطار، وتمتد الي مصنع الكهرباء. كانت أيام نظام سياد بري مركزا لتدريب المعلمين. اما اليوم تحولت الي منطقة الحضراء في بغداد. وهي أكثر المواقع العسكرية تحصنا في العاصمة. ويوجد فيها سفارات بعض الدول كبريطانيا، ومنازل فاخرة للنزلاء الغربيين. ولا احد يعرف بالضبط ما يجري في هذه المنطقة. والمعلومات القليلة المتوفرة، تتحدث عن وجود مشرعات للبناء وفنادق جملية يتردد فيها كبار الشخصيات الأجنية العاملة في المدينة. خلال رحلتي الي شاطىء جزيرة، حاولت أن أرمق اليه النظر لكني لم أر شيئا يذكر، لأن هناك مباني ومقرات تابعة لشركات تركية تقع أمام مركز حلني، الا أني لا أشك أن في المنطقة حركة غير عادية، يطرح علامات استقهام كثيرة حولها.

 مقديشو والناس

في كل صباح، عندما تطلع الشمس، ويظهر أديم النهار، ترى طوابير طويلة من السيارات، وحشود كبيرة في الطريق بين المطار، والقصر الرئاسي، يحثون الخطى، الي أعمالهم الي سوق بكارى، وحي مكة المكرمة، وسوق حمرويني ملتقى المال والأعمال، بحثا عن لقمة العيش، وحلم المستقبل، بينما المدينة تنفض غبار الموت والدمار، وتعمل بلديتها، ليل نهار من أجل توفير كل ما يحتاجه هؤلاء المواطنون أو الزائرون من طرق نظيفة تضمن على سلامة المارة والسيارة. وكانت شرطة المدينة في كل مكان، ساهرة لحماية الأمن. والفنادق الفاخرة، منتشرة في وسط المدينة، ولا تبعد بعضها عن المطار أو المواقع المهمة، سوي كليلومترات قليلة.muqdisho وأخرى على شاطئي ليذو وجزيرة.

في هذه الفنادق تجد كل ما لذ وطاب، وسفرة عليها كل ما تشتهيه الأنفس، لحم الجدى المتبل بالفرن وجمبري واسماك مختلفة ألوانها. ويعمل فيها، موظفون صوماليون وأجانب من بلاد عربية وأفريقية مدربون على أداء وجباتهم بأكمل وجه، وحريصون على توفير الراحة للنزلاء. في كل يوم جمعة كنت على موعد مع البحر، أقضي ساعات في شاطىء ليذو أو الجزيرة. ما أمتع هذه الساعات التي تقضيها مع الأصدقاء، تستنشق عبق البحر، وتتمتع بأكل طعامه نقية طازجة، أمام الهواء الطلق.  

iidowفي الحقيقة، تنبض مدينة مقديشو بالحياة، أنوارها في اليل لا تنطفأ، وتكاد تكون أوقات العمل في الليل والنهار. يمكن للمواطن العادي أن يعود الي بيته في الساعة العاشرة مساء، وهو يستقل سيارته، ولا يخاف الا أمنيات “الشباب” التي تنشط أيضا داخل المدينة. أما الملشيات القبلية التي كانت تثير الرعب في نفوس السكان ، أختفت أو تكاد، رغم وجود بعض تشكيلاتها في مناطق محدودة من العاصمة.

 في منصف الليل توقف سيارتك في أحد الحوجز الأمنية في ناحية وذجر، ياتيك جندي، مطالبا منك بكل احترام وتقدير أن تزل من السيارة للتفتيش، وبعد أداء واجبه، يودعك دون أن يمد يده الي جيبك أو يسألك إتاوة أو leejo بل يتمى لك السلامة، ويطلب منك توخي الحذر. وهذا مؤشر واضح الى التغير الذي طرأ علي قوات الحكومة الصومالية التي كانت تشتهر بممارساتها المنافية للقوانين والأعراف. ومنذ أن بدأت الحكومة الصومالية بصرف روتب العاملينفي الأجهزة الأمنية المختلفة، تغير كثير من تصرفات هذه الأجهزة، وبدأت بشكل تدريجي، تحترم القانون وتخصع للمحاسبة وإن كانت أحيانا شكلية. لكن مهما يكن الأمر، في هذه الأيام عندما تمر بجوار جندي مسلح يحرس أحد شوارع المدينة، لا ينتابك القلق، ولا يسري في عروقك الخوف والوجل، كما كان أيام الحكومات الإنتقالية. الا أن مشكلة واحد لم تحل بعد، منظر هذه القوات السيئ، وهندامها المنفر. لا أعرف لماذا لم تعط الحكومة أولوية لهذه المظاهر البسيطة، ذات التأثير الإيجابي.liido

الإقتصاد والناس

بدأت الأوضاع المعيشية في المدينة تتحسن. هدأت موجة الغلاء المعيشي، ولا يشكو الناس من ارتفاع الأسعار في الأسواق، كما كان في الأعوام الماضية، وزاد دخل الفرد، والأسرة. فعلى سبيل الميثال، كان العام الماضي سعر كليو أرز 25 الف شلن صومالي واليوم يباع ب15 الف شلن. وجاء هذا التحسن، نتيجة حركة التجارة النشطة، وعلميات البناء في المدينة بالإضافة الي الوظائف التي تعرضها الحكومة للمواطنيين بين الحين والآخر، مما وفر فرص عمل للعدد كبير من الشباب سواء المتخرجين من الجامعات واصحاب المؤهلات العلمية أو ممن لديهم مهارات يدوية كالبناء أو إصلاح السيارات.

 زرت أهم الأسواق الكبيرة في العاصمة مقديشو، ورأيت فيها حركة تجارية نشطة، ولامست همة عالية في نفوس الناس، كل يرنو نحو الأفصل، ولكل شأن يغنيه. هناك من يعمل مع شركات عالمية، وله علاقات تجارية مع أسواق العالم، وهناك من أنشأ مشاريع صغيرة تدر له ارباحا معقولة. هل لديك مشرع جديد؟ هو السؤال المشترك بين الجميع. يسأل عنها رجل الأعمالن والمواطن البسيط. nalaka

سوق بكارى الذي بدأت منه الزيارة، تبدو عليه آمارات التغيير، ويبحث طريقه نحو الإزدهار، ليس هناك الطرق الضيقة التي كانت تتزاحم فيه المارة والشاحنات التي تنقل البضائع للسوق. نجحت بلدية مقديشوا في فتح وتوسعة هذه الطرق، وصارت حركة المرور سهلة وانسيابية. صحيح فعلتها للحيلولة دون استخدام أمنيات “الشباب” لتنفيذ عملياتها، لكن الأمر انعكس إيجابا على حركة التجارة في السوق، حيث يمكن للمتسوقين التنقل في انحاء السوق بشكل خال من الإزدحام المروري الذي كان يدفع لبعض الأفراد الي عدم التبضع في سوق بكاري، تفاديا للمضايقات التي كانت تسببها القوات الأمنية في المدينة، وتكدي الناس، لكن  هذا الأمر لم يعد اليوم موجودا.

وفي سوق حمرويني الذي أصبح في السنوات الأخيرة، ثاني أكبر أسواق العاصمة ازدحاما بعد إغلاق سوق عيلشا في الطريق بين مديشو وافجوي، وانخفاض حركة التجارة في سوق بعاد شمال العاصمة، نتيجة الأوضاع الأمنية التي لا تزال آثارها باقية في هذه المناطق. استعاد هذا السوق هيبته وسمعته التي كان يتمتع بها قبل انهيار النظام المركزي في البلاد عام 1991م. بدأت متاجر أفراردود الشهيرة تفتح ابوابها، وعاد بعض التجار المعروفين إلي السوق لمزاولة أعمالهم وحرفهم. هذا السوق صار أيضا وجهة للطبقة الثرية – ان جاز التعبير- في العاصمة، وخاصة المسؤولين في الحكومة والموظفين في الشركات الكبيرة أوالهيئات الدولية. هؤلاء لا يزال هاجس الأمن يساورهم، ويمنعهم عن الذهاب الي الأسواق الكبيرة الأخرى كسوق بكارى.

ذات مرة، ذهبت مع صدق عزيز لي الي سوق بكارى للتسوق، وكانت معنا موظفة في احدي الوزارات السيادية للحكومة الصومالية، كانت تلبس النقاب. كوني رجلا فضوليا، سألتها لماذا تلبس النقات وأعرف أنك لست من السيدات التي تؤمن بوجوب النقاب؟ فأجابت بإختصار.. لأسباب أمنية. وقلت: وماذا تخاف؟ فردت وهي تمتنع عن الخوض في تفاصيل هذا الموضوع: لا أذهب عادة الي بكارى دون أن ألبس النقاب؛ لأن عيون القوم لا تزال نشطة في هذا السوق.mouqdisho

الدوائر الحكومية تنبض بالعمل

ومن أهم المعالم الحكومية التي زرتها مقرات بعض الوزارات، والمواقع التي تشهد فيها المشاريع العمرانية. فقمت بزيارات خاطفة الي كل من وزارة التعليم في حي زوبي، ومدرستي بولي تكنيكو وبنادر في حي رقم4، ومبنى السابق لوزارة البريد القريب من تقاطع جوبا، ومشروع بناء كلية المعلميين قرب مقر البرلمان السابق. تشهد بعض هذه المواقع عمليات بناء وترميم، والمسؤولين عن هذه المشاريع ذكروا لي أنها ستنتهي قريبا وستدخل في خدمة الشعب. أما المواقع الأخرى، كمقر وزارة التعليم رأيت فيها حركة عمل دؤوب، يبذلها العاملون فيها. والميزة التي لا حظت في الوزراة هي، أن معظم المسؤولين في الوزارة من رواد التعليم النظامي في البلاد.

ومن خلال تجوالي في انحاء المدينة، صليت في مسجد التضامن الاسلامي. وأمام المساجد، رأيت هذا الحي الشديد الحراسة الذي ليس من السهولة الدخول فيه، وحتى بعض الوزراء والنواب لا يقدرون او على الاقل يواجهون صعوبات شديدة في دخول بعض المباني في هذا القطاع. ولا يضاهيها في الحراسة أي مكان آخر سوى مركز حلني قرب المطار.

 تضم هذه المنطقة، المعالم الحساسة للدولة، القصر الرئاسي ومقر البرلمان، ومنزل وزير الداخلية. قيل لي أن هذا المنطقة محروسة  بالكامرات والأسلاك المكهربة، وهذا ما لا يتوفر لدى المواقع الاخرى كما أنها أسلوب جديد لم تكن تسخدمه الحكومات السابقة، ولم يألفها سكان هذه المنطقة. wasaradda waxbarashada.1

لا تضيعوها…. الرجال تصنعها الأحياء الشعبية

بعض الأحياء الشعبية، نالها قسط من رياح التغيير. ولكن هذا غير كاف. حي مدينة، الذي ولدت فيه وترعرعت يعد ضمن أكبر المناطق الشعبية في العاصمة. هذه منطقة كانت مهمشة لم تحظ الاهتمام منذ نشأتها، حتى تأخرت عن أقرانها، رغم كونها صانعة معظم الشخصيات الناجحة التي مرت بالبلاد، ولا يسع لي المجال ان أذكر اسمائهم، لكنى آخد على سبيل المثال للحصر، الرئيس الصومالي والدكتور الكبير دسوقي ووزير العدالة… والقائمة طويلة كان هؤلاء من سكان هذ الناحية. ولا تزال تعاني من الفقر والتهميش. ليس في هذه المناطق شوارع كبيرة صالحة لاستخدام السيارت ولا اسواق ولامدارس او جامعات. وتفتقر الي مقومات الحياة الصحية. لا تحصل على حصتها من المعونات الدولية لإعادة اعمار الصومال، ولم تخصص الحكومة مبالغ لإعادة اعمار المدنية. كما فعلت بالنسبة للاحياء التي تقع فيها مقرات الحكومة. فمثل هذه المشاريع الإنمائية يمكن أن تساهم في ايجاد فرص عمل للشاب الذين باتوا معرضين لخطر الضياع أو الانضمام الي الشبكات الإجرامية.

 لكن هذه الأيام، ينتظر أهالي المدينة إنفراجا للازمة، وتطورا مهمها في صعيد العمراني والإنمائي. بدأت الشركات التركية ومقاولين من القوات الأفريقية بإهتمام المنطقة، وشرعوا في بناء شوارع واسعة، تربط المدنية خاصة من الجهة الحنوبية بباقي مناطق العاصمة. تمتد هذه الشوارع من مقر قوات الأفريقية حلني الي أحياء حوش و جامعد مرورا بحيي ابسيبو وكاوجذي.

inf@mogadishucenter.com

 

زر الذهاب إلى الأعلى