من الجحيم إلى الجنّة

وُلدت في وطن مكتظّ بالنّكبات وخيبة الآمال، إسمه “ألصومال”. في الوهلة الأولى٬ كنت أتخيّل بأنّ الغد ستكون لي يوما ذا بهجة وغبطة، ومستقبلا مشرقا، وطريقا مفروشا بالورود والزّهور، بيدأنّه تحوّل جوّ طفولتي إلى أُتون ملتهب، وإلى جحيم لايطاق. كنتُ في السّنة الخامسة من عمري عند ما لقيت أمّي مصرعها، فبعد ذالك الموت الرّهيب، لم أذق حلاوة الطّفولة ونٌعومتها، وأصبحت تحت رعاية عمّتي ألتي كانت تصرخ على وجهي كالكلب المسعور، وأبناء عمّتي ينادونني بأفحش الأسماء وأرذلها. كنت أجلس في الغرفة متسائلا “لماذا الربّ لم يمهلني ولو برهة لألعب في أحضان أمي؟!”.

بالذّات، كانت تزعجني تلك السئلة وترهقني، إلى حدّ لا أقدر النّوم ولو لحظة. ترعرعت في ذاك المناخ المرعب، وأصبحت طفلا إنطوائيّا، يرى الحياة بمنظار قاتم، أفظع وأفجع من ذالك عندما ألحقوني بخلاة لتحفيظ القرأن، للتّحفيظ فقط، لا للرّحمة والتّهذيب، فتعرّضت أشدّ وأسوأ أنواع التّنكيل، الى درجة وصلت أن أتبوّل عند ما أكتحل برؤية ذاك الإنسان الملتحى، ألقصير القامّة، ذوالوجه المكفهرّ، ألّذي حرّمني من بحبوحة الحياة ولذّة العيش. فعلا، إنقلبت حياتي رأسا على عقب، لهول الخوف والعقاب ألذي تكبّدت به. كنت لا ألعب مع أقراني، لأن اللعبة كانت محظورة منّي منذ نعومة أظافري. وهكذ أصبحت حياتي بين الكبت والفشل الذريع، وهاأنذا اليوم أعضّ أصابع النّدم، ولا أعرف لما أنذم، وعلى أي شيء أندم؟! لقد وُلدت في هذه الغابة المليئة بالوحوش الضّارية، ألتي يفترش فيها القويّ ألضّعيف، وليس لي حظّ وافر لا من القوة ولا من الضّعف. أنا الطفل المحظور، والمنحوس أصلا، والمقهور في كلّ زاوية من زوايا الحياة٠

في بداية حياتي٬ كان هناك حلم يراوني، الا وهو تثقيف نفسي الغارقة في أوحال الجهل، و إنشال مجتمعي من غياهب الأميّة وعتمة الجهل، ولكن من المقزز أن تتحطّمت تلك الأحلام النبيلة على صخرة الّدواهي والمثالب. أبي فقد مهنته العسكرية، وكان يتباهى بها، فأصبح سمسارا من سماسرة سوق المواشي، وأمّي ظلت بائعة من باعة الشّاي والأطعمة الخفيفة في أرصفة شوارع مقديشو٬ قبل أن وافتها المنيّة. كان منظر أمّي لايروق لي ألبتّة، كان منظرا يثير الحفيظة والإشمئزاز. فرغم كلّ هذه الظروف العويصة، كان هناك شيء يقلقني دائما ودوما، وأصبح غصّة حلق بالنسبة لي، وهو مدرّس خلاوة تحفيظ القرآن ألذي إعتاد بأن يطردني من المدرسة في كل يوم الأربعاء، لأنني لا أقدر دفع الرسوم الأسبوعية، وأبي يرجع بخفي حنين في كل يوم، وأمي لاتزال صفر اليدين، فلا أخ أتعوّل عليه، ولا أخت أتّكل عليها، وأقراني يتقوّلون عليّ الأقاويل، لكوني شابّا يافعا يهيم على وجهه، يفترش الخضراء ويلتحف الغبراء. ففي ظلّ هذا المناخ المعقّد، بدأت أتسوّل وأتطفّل على موائدالمطاعم الفاخرة. في أغلب الأحيان كنت أتعرّض بالضّرب والصّفعة واللّكمة من قبل بعض التّجار وزبانيّتهم، ليس ألّا سوى أنّ مظهري كان يثير الإشمئزاز والتّقزّز. أخيرا، دارت الدنيا رحاها، ودقّ الحظ باب أبي، وانقشعت تلك السّحابة ألمشئومة، وبدأت الدراسة من جديد، وتحقّقت طموحاتي، ولكن بعد أن تجرّعت مرارة الفشل والهزيمة.

وهاأنذا أليوم أعيش حياة رغد، بيد أنّ تلك الذّكريات تركت بصماتها الواضحة في مخيلتي، ولم أعد أشعر صدمة وقشعريرة عند ما أرى متسكّعا لم يحالفه الحظّ، وتخطر في بالي ألمقولة القائلة “لقمة في فمّ جائع ، خير من بناء ألف جامع”٬ ولكن بعد كل هذه الجهود المضنية، لم تتغيّر وتيرة حياتي، وتوارت غبطتي وإبتهاجُ حياتي خلفَ أسوار هذ الوطن ألملتهب، وأصبح إختلاف الرأي وتّشابهُ الأفكار بين بني جلدتي ألصّوماليين لعنة فطريّة متسلّطة على رقابنا يوما تلو يوم، أخذت العزم لرحلة طويلة قاسية محفوفة بالمخاطر. تركت الجميع، وخليت كل نفيس وثمين من بلدي ألمتلوّن كالأخكبوط، والمتخبّط خبط ناقة عشواء، حيث الوالدان تحوّلا إلى آلة ضاغطة من المهد إلى اللّحد، ورفيق الدّرب إلى

حيوان مفترس، ينهش لحمي ليلا ونهارا، والجيران أصبح بوقا من أبواق التجسّس والرّقابة، وشريكة الحياة ظلت لصّة تصطاد في الماء العكر، تفكّ وتحلّ كل عقدة أحبكها.

تركت ذاك البلد المليء بغطرسة الرّجال وعنجهية السّاسة، يتناطحون في أتفه الأشياء، والكلّ يغنّي على ليلاه. شددت رحلتي إلى عالم خال من العراك، عالم مفعم بالحيويّة

وجمال الطبيعة، لا ترى فيه إنسانا مغرورا بماله، ولا متسكّعا إنقلبت الدّنيا عليه، ترى فقط هواء نقيّا خاليّا من الشّوائب والغازات الملوّثة ألمنبعثة من الصّواريخ ومدافع هاون. إنّه عالم بعيد كلّ البعد عن الكراهيّة والأنانيّة والمحسوبيّة. في هذا العالم تستعيد كرامتك المسلوبة، وحريتك المقهورة، وإنسانيتك المنهوبة٬ لكنني لا ولن أنسى إنتمائي إلى ذاك الوطن المليء بالكذب والخداع٬ والخزعبلات والأراجيف.

عبد العزيز محمد شدنى

كاتب وناقد صومالي
زر الذهاب إلى الأعلى