متطلبات عاجلة لتثبيت العملية السياسية 2-2

ثانيا: تحقيق الاعتماد على الذات في إدارة أمور البلاد:

الاعتماد على مساعدة الآخرين وتقديم الآخرين المساعدة مسألة وقتية غير قابلة للاستدامة، لذا علي السلطات أن تضع في الحسبان وتخطط لتولّي الأمور بنفسها وتجاوز الوضع الراهن الذي تعتمد فيه على المنظمات الإقليمية والدولية في أكثر الأمور أهمّية كالأمن وبسط نفوذها وسيطرتها على المناطق والمحافظات، مما لا تزال تعوّل فيه على دور القوات الإفريقية لحفظ السلام في البلاد، بحيث إن قوات وأجهزة الأمن غير جاهزة حتى لسدّ أقل فراغ تتركه هذه القوات الإفريقية كما حصل في العديد من المواقع التي أخلتها القوات الإفريقية في شبيلى السفلى وفي جدو  مثلاً، والتي سرعان ما يستغلها المسلحون معلنين سيطرتهم عليها مقابل اختفاء كا مل لدور الجيش وقوات الأمن الوطنية.

هذا التعويل الكامل على القوات الإفريقية يجب على السلطات إنهاؤه والتفكير في امتلاك القدرة على الوقوف بأقدامها خاصة وأنّ أصوات النداء بعودة هذه القوات إلى بلادها صارت عالية تتخذ منها المعارضة في تلك البلدان ورقة للعب بها، فوجود هذه القوات يكون على المحكّ في حال فازت المعارضة في أوغندا والتي ترى أنّه آن الأوان لوضع جدول زمني لإنهاء استمرار وجود القوات الأوغندية في الصومال بحجة محقّة هي أنّ الحكومة الصومالية عليها أن تتولّى شؤون بلادها وحسم مشاكلها بنفسها لا أن تنتظر من أوغندا أن تقدّم لها كل شيء.

فما الذي يمكن فعله إذا حدث ذلك في ظل الضعف ونقص التدريب والكفاءة والتنظيم التي تسم قوات الأمن الوطني وعناصر الجيش وتحد من قدرتها على تسلّم دورها في حماية الأمن والنظام وبسطه على ربوع البلاد في مقابل جهوزية المسلحين لتسجيل حضورهم في كل مدينة وكلّ قرية، وبسط سيطرتهم بسرعة البرق في كل لحظة وفي كل مكان يغيب فيهما الدور الإفريقي؟ هل تترك الأمور توجهها الرياح لتموت العملية السياسية في طفولتها ويعلو صوت الرصاص من جديد ولتتم العودة إلى الاقتتال القبلي والطائفي ؟ لا خيار آخر مع ما هي الأمور عليه الآن.

قبل حدوث هذا السيناريو المرعب لا بد من اتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ على ما تحقق من إنجاز ات وعلى رأسها انطلاق العملية السياسية وسكوت الرصاص. وأوّل هذه التدابير هو في إعداد الجيش الوطني وقوات الأمن الوطنية بما يؤهلهما لسدّ الفراغ الذي يخلقه غياب القوات الإفريقية التي تعمل على استكمال عملية إحلال السلام وبسط النظام وسيطرة الحكومة على كامل أراضي البلاد.

ولكي تتأهل القوات الأمنية والجيش الوطني لهذا الدور فهي بحاجة إلى تدعيمها وبناء عقيدتها العسكرية  في جانبيها السياسي الاجتماعي أو التقني التدريبي والتجهيزي كما يلي:

  • الجانب السياسي الاجتماعي: ونشير بهذا إلى العقيدة العسكرية في شقها الاجتماعي السياسي الذي يتلخص في نظرة الجنديّ إلى نفسه وإلى الوطن وإلى المجتمع. والتي توجهه في عمله كمواطن مسؤول عن حماية أمن واستقرار حياة مجتمعه، ويقتضي منه الدين والعقل والشرف الوفاء بما التزم به من هذه المسؤولية حتى وإن كلفه ذلك حياته، ويأبى عليه الدين والعقل والشرف أيضاً خيانة هذه الأمانة أو التقاعس عنها أو التساهل فيها مهما عاقته العراقيل أوالتهديدات أو هزّته الإغراءات. لأنه يؤمن بارتباطه بأرض هذا الوطن وبعضويته في هذا المجتمع الذي ينتمي إليه، وأنّه لا حياة له بدون حياته ولا وجود له بدون وجوده.

أول الواجبات غرس هذه العقيدة الوطنية والمبادئ الإنسانية وتعميق الإحساس بروح المواطنة والعضوية في هذا المجتمع، والشعور بالمسؤولية تجاه المحافظة على كيان الوطن وإنقاذ البلاد والشعب من ويلات الاقتتال والتمزق. وبمقدار تشرب الفرد من هذه القيم يكون اكتتابه وتجنيده. وعلى أساس هذه العقيدة تكون الترقيات والرتب. إذ بدون هذه القيم لا يكون لدى الجنديّ أيّ معنىً لأن يكون جنديًّا وأن يضحي براحته وبعمره وبحياته من أجل لاشيء، فذلك رديف الجنون والاختلال العقلي.

وقوات الأمن والجيش الوطني مصابة بالخلل في هذه العقيدة التي باتت محصورة لدى عامتها في أن الالتحاق بالعمل العسكري والأمني ليس إلاّ عملا كسائر الأعمال  لكسب المعاش فحسب. مما يجعلهم ينظرون إلى الأعمال الحربية على أنها عبث بأرواحهم لا تستحق صمودهم ومصابرتهم أو التفكير في إدارتها واحتوائها بل يقتضي المنطق لديهم التفكير في أيّ طريقة لتفاديها وعدم المخاطرة بأنفسهم في المعارك وتجنب مواقع النيران والحرص على النجاة بأنفسهم ما أمكن بدل الإقدام والمصابرة.

بل إن النقص في هذا الجانب هو الذي يوجههم إلى أن ينظروا إلى الشعب نظرة عدائية تدعو إلى سحقه وإذلاله مستغلة ضعفه وعدم تسلحه،أو نظرة مزدرية  تسلبه الكرامة والاحترام وتصنفه في طبقة الحشرات الضارة. وهذا ما يفسر  أسلوب البلطجة والإهانة والمضايقة الذي يكون سمة متكررة في مواطن احتكاك المدنيين والعسكر في الشوارع العامة أو النقاط والحواجز الأمنية.

لذا ينبغي رفع مستوى وعي عناصر الجيش الوطني وقوات الأمن على هذا الجانب بما يزودهم بفكر واضح وسليم عن طبيعة عملهم ويبصرهم بمكان المسؤولية الذي يتبوّأونه وحقيقة العلاقة بوطنهم ومجتمعهم والطرق التي يتعاملون بها مع المدنيين. وذلك:

أوّلاً: بوفائهم حقوقهم ودفع مستحقاتهم بانتظام، ومساعدتهم في تدبير شؤونهم العائلية بتوفير الرعاية الصحية والتعليمية اللازمة لأسرهم وأطفالهم.

ثانياً: بتحقيق العدل فيما بينهم في نظم الترقية وتقليد المناصب ومنح التقديرات بعيداً عن المحسوبية والوساطة والمعرفة وغير ذلك من أوجه الفساد الإداري،

ثالثاً: تنظيم الدروس التوعوية لبناء فكرهم وعقيدتهم تجاه عملهم ووطنهم ومجتمعهم.

رابعاً: والأكثر أهمية بغربلة العناصر الفاسدة منهم، فهناك في عناصر الجيش وقوات الأمن أعداد تتسلط عليها رواسب روح اللصوصية والمليشيوية السابقة لها، وقد فشلت في التكيف مع أدبيات العمل العسكري الوطني المنظم والتخلص من تلك الروح حتى الآن رغم بعد العهد بها ورغم خدمتهم طويلا في هذه الأجهزة الوطنية، حيث تصادف بعضهم يقوم بدون أدنى مبرر بمضايقة أحد المواطنين أو كيل اللعنات له أو الاعتداء عليه بالضرب على وجه الاستعلاء والمكابرة فقط، بل لا تفقد بعضاً من هذا النوع يقومون باللصوصية وقطع الطريق في اللحظات التي يمكنهم فيها ذلك. لذا ينبغي تنقية الأمن والجيش من مثل هذه العناصر الفاسدة والميؤوس من تدجينها لأدبيات العمل الوطني، إذ تبقى مثل هذه العناصر عقبة في طريق تحقيق الأمن والوفاق والتلاحم، ووصمة عار على جبين هذه الأجهزة الوطنية تؤدي إلى تشويهها وتشويه العمل الوطني الذي تؤديه، وإظهارها بمظهر القزامة دون مستوى مسؤوليتها.

علما بأن من الضروري قبل كلّ ذلك إعداد سجلات لضبط وإحصاء أعداد منتسبي الخدمة العسكرية والأمنية وتوزيعهم على الأقسام، مما يسهل متابعة أداء العناصر العسكرية أعمالها والوقوف على ما يحيط بها من أو جه حسن أو قصور ومخالفات، ويمكن من ملاحقتهم ورقابتهم ومكافأتهم أومحاسبتهم على سلوكياتهم أثناء تأديتهم مهامهم. وبدون هذا التنظيم يكون من الصعب متابعة ومراقبة العناصر العسكرية التي لا تحمل بطاقات توضح هوياتهم وأقسامهم، ويسهل عليهم الهرب والتخفّي بعد ارتكاب أيّ عمل غير قانوني يستدعي مساءلتهم قانونيًّا.  كما أنّ العناصر المخلصة والوطنية تفقد التقدير الذي تستحقه في ظلّ عدم الضبط والتنظيم.

  • الشقّ التقني والتدريبي والتجهيزي:

إضافة إلى البناء العقدي الوطني فإنّ من نافلة الحديث أنّ جهازي الجيش والأمن يعانيان نقصا في الإعداد العلمي والتدريب لمهنتهم، كما يعانون نقصا في المعرفة اللازمة للقيام بعملهم الأمني في ملاحقة المطلوبين والكشف عنهم وفي الإمكانيات المادية من التسليح وأدوات العمل.

معالجة النقص الحاصل في هذا الجانب في حدود إمكانات البلاد المحدودة وبما يضمن لهم التفوّق في المقارعة يعدّ عملا ضروريًّا لا ستكمال تأهيل القوى الأمنية والجيش.

ثالثًا: وضع خطّة موسعة لإنهاء العمليات المسلحة:

فالعمليات المسلحة يجب أن تنتهي ولصالح الخيار الوطني، واستمرارها إلى مالا نهاية لا يؤدّي إلاّ إلى  مزيد من القتل ويشكّل جرحاً ونزيفاً مستمرّ اً في جسد الأمّة ينعكس سلبا على أوضاع التنمية والاستقرار في البلاد. ناهيك بأنّ طول أمد المواجهات الدموية يرفع من أسهم ظهور فرص تغير موازين القوى لصالح الحركات المسلحة التي دائماً ما تراهن على إطالة أمد المواجهات لهذا السبب. وبهذا فالمواجهة المسلحة ذات طبيعة آنية قد تنجح أحيانا في الردع المؤقت وإجبار الخصم على القبول بالحل والتوافق، لكنها لا تصلح كاستراتيجية بعيدة المدى لأنها لا تضمن الحسم النهائي بالاعتماد عليها بمفردها، لذا ينبغي التسليم بوقتية الخيار العسكري وعدم قابليته للاستمرار  على مدى مفتوح. ويلزم اتخاذ تدابير أخرى سلمية بجانبه من شأنها إقناع المسلحين أنفسهم بصلاحية الخيار الوطني واتساعه للجميع، ومنحهم الفرصة لمراجعة مواقفهم الشخصية والجماعية ضمن خطّة موسعة لا تقتصر على المواجهة المسلحة والحسم العسكري فقط، بل تتضمن عديد الآليات والسبل من برامج للتوعية والمناظرات ودعوات إلى الحوار والمصالحة، ومنح عفو شامل يستفيد منه الراغبون في التخلّي عن السلاح والاندماج في مجتمعهم، وافتتاح مراكز لإيواء العائدين وإعادة تأهيلهم ومساعدتهم على الاندماج ماديًّا ومعنويًّا، وتشغيلهم في الدوائر التي يستطيعون العمل فيها في الجيش أو في الأمن أو في الوظائف المدنية في المكاتب الحكومية.

وبهذا يمكن التخلص من المهددات العاجلة التي تهدد بالعودة إلى المربع الأول من الحرب الأهلية وموت العملية السياسية، وتبقى بعد ذلك قضايا تنموية وتطويرية من قبيل تعزيز الديمقراطية ومكافحة الفساد وخفض الضرائب وتحسين الخدمات العامة وغيرها مما هي قضايا وبرامج لكثير من الدول المتمتعة بالاستقرار الأمني وبنوع من النموّ الاقتصادي. والزمن والعمل الإصلاحي كفيلان بتغلّب الإرادة الوطنية فيها في ظل الأمن والاستقرار.

 

زر الذهاب إلى الأعلى