عباقرة لهم أصول في منطقة القرن الافريقي(60)الشريف محمود عبد الرحمن (4)

الشريف محمود عبد الرحمن ونضاله السياسي

وقد أشرنا فيما سبق بأنّ الشريف محمود عبد الرحمن بدل جهورداً جبارةً في سبيل الوصول الصومال إلى الحرية والاستقلال من الاستعمار الأروبي ولاسيما الاستعمار الايطالي، في داخل البلاد وخارجها، وخاصة عندما ترأس الوفد الصومالي الذي زار في مصر وغيرها من البلدان العربية الأخرى، بالإضافة إلى لقاءه عدداً ممن يهتمون بقضايا الحرية وإرادة الشعوب وتقرير الصمير في العالم،  وكان هواجس أهل الصومال أن لا يوفي المستعمر وعوده وإجلاءه من الوطن في الفترة المحددة في عهد الوصاية، وقد أطنب في ذلك الأمر سعادة الدكتور محمد حاج مختار في دراسته الدكتوراه في التاريخ الحديث بجامعة الأزهر الشريف في 1983م الميسومة ” الصومال الإيطالي في فترة الوصاية حتى الاستقلال 1950م – 1960م” …. ، ومن هنا كان أهل الصومال دوماً يجتهدوا على عرقلة نوايا الاستعمار وأن لا يتمكن في تحقق مآربه، وكان المناضل الفذ الشريف محمود من بين زعماء الصومال الغيورين، ووقف في المرصاد في عرقلة نوايا إيطاليا وأتباعها، ولا غرابة في ذلك أنّه كان ناشطاً وطنياً يهتم بقضايا أمته بصفته من أهل العلم والدراية، ومن زعماء الصومال السياسين المرموقين في تلك الفترة، وقد ذكر السفير محمد بن الشريف محمود  في ترجمة أبيه بأنّه – الوالد – ” كان عضوا قياديا فى حزب وحدة الشباب الصومالى الذى تولى قيادة النضال الوطنى من أجل الاٍستقلال، وفى حفلة تأسيسه ألقى خطابا جامعا شمل الخطوط الرئيسية لاستراتيجية الحزب من بينها رفض عودة الحكم الإيطالى وإلغاء قوانين التفرقة العنصرية والعمل بالسخرة فى المزارع الإيطاليية والمطالبة بتحقيق الوحدة الصومالية، والعمل على نشر التعليم كوسيلة رئيسية لتحقيق الرقى والتنمية والاستقلال”.

ومع هذا النضال السياسي والجهاد الديني  – والذي أشرنا فيما سبق – في سبيل وصول الحرية والاستقلاللبلاده لم يكن الشريف محمود ينسى قضايا الأمة العربية والإسلامية، كما أشارنا فى أعقاب العدوان الثلاثى على مصر فى 1956م، كما أنّه لم يكن يرضى إساءة الكيان العربي ونيل كرامته واقتصادياته الحرة فضلاً عن مصالح الصومال، وقد قاد الشريف محمود مع كوكبة من إخوانه تنظيم حركة احتجاجات شعبية واسعة النطاق ضد محاولات المستعمر الإيطالي والإسرائيلي عندما أقامت الأخيرة مركزاً تجارياً في جيبوتي، وخطاً ملاحياً بين إيلات وجيبوتي، بالإضافة إلى محاولتها بتشجيع من إيطاليا القيام بنشاط تجاري ممائل في الصومال، والبحث عن موطئ قدم لبناء نفوذ سياسي في البلاد من خلال تستر بالعامل الاقتصادي والتجاري، وقد نجحت الاحتجاجات الشعبية فيإحجام جميع محاولات الحكومة الإيطالية، بل إلى وقف وإغلاق هذه الأنشطة، وهكذا فشلت جميع محاولات المستعمر على الرغم من أن إيطاليا بدلت فعلاً بفتح شركة لتصدير اللحوم إلى إسرائيل في داخل مستعمرتها الصومال.

واستخدم الشريف محمود أحياناً كثيرةً العامل الديني لرفع المعنويات للجماهير في سبيل الاستمرار والوصول إلى الاستقلال والحرية التامة والخروج من الذل والمهانة، ولا شك أنّ ذلك وظيفة العلماء والعظماء، وكان يرى أنّ هذا التمثيل مطلب ديني، وضرورة وطنة، ومن هنا قد أثبت حضوره في اكثر من ميدان في تمثيل الوطن سواء في الداخل والخارج، وعلى سبيل المثال أنّه كان عضوا فى الوفد الذى كان يمثل حزب وحدة الشباب الصومالى أمام لجنة الأمم المتحدة المكونة من الأعضاء الدائمين لمجلس الأمن والتى حضرت البلاد فى 1984 للتحقيق فى رغبات الشعب فى إطار مساعى الأمم المتحدة لتقرير مصير المستعمرات الإيطالية السابقة. وأكثر من ذلك وكما ذكر السفير محمدالشريف أنّه ” كان الناطق الرسمى للحزب الذى عرض بالتفصيل برنامج الحزب وسياساته وشرعية تمثيله للبلاد بل ولكل أقاليم الصومال المحتلة فى نضالها من أجل الاستقلال والوحدة الصومالية، ورفض إعادة إيطاليا إلى الصومال تحت أى مسمى، وعدم الممانعة فى خلق نظام وصاية دولية تحت إشراف الأمم المتحدة. وبنفس الصفة تولى الرد على الاستفسارات والأسئلة التى وجهت إلى الحزب”.

وحتى عندما تقرر نيل البلاد بالاستقلال والحرية لم يرق العلماء مثل الشريف محمود مشاركة هذه الفرحة والاحتلال الكبير لليوم الوطني إسرائيل في عيد الاستقلال المقرر أن تتم في أول يوليو 1960م، وذلك بعدما وجهت الحكومة الإيطالية دعوة إلى إسرائيل للاشتراك فيها، ولم يغب عن بال الناس المغزى السياسى لهذا الإجراء ، الذى لم تعارضه إدارة الحكم الذاتى حينئذ، بحجة أنها لا تملك السيادة والصلاحية لتحدى مثل هذا القرار، ولما كانت الاحتجاجات التى قدمها لم تجد آذانا صاغية لدى الحكومة الإيطالية ، ولا لدى الإدارة الذاتية ، فما كان منه إلاّ أن نقل المعركة اِلى دور العبادة والمنتديات الشعبية والشوارع فى مظاهرات صاخبة وعنيفة وبدون توقف ضد مشاركة إسرائيل فى عيد الاسقلال، أدت إلى انزعاج وقلق السلطة ، الأمر الذى دفع الحكومة الإيطالية اِلى إلغاء هذا القرار بدون رجعة ، ودفن أحلام إسرائيل فى إقامة علاقات دبلوماسية إلى الأبد..

وكانلدى الشريف محمود استراتيجية واضحة وهدف محدد وهو تحرير البلاد من المستعمر سلمياً مهما كلف الأمر، وكان يعرف بأنّ ذلك يصعب إذا حدث الشرخ بين المجتمع ، ومن هنا كان يحرص دائماً على وحدة الوطن وتوحيد الصف ضد المستعمر بعيداً عن التفرقة والاختلاف الذي يفرق الصف ويضعف القوة ، حتى أدى ذلك إلى سكوته وعدم إثارته بعض تصرفات الأشخاص الذين كانوا يحاولون تحقيق أهداف معينة لا تخدم للقضية الصومالية في تلك الفترة العصيبة، ولكنه عندما رآي بأن الأمر خرج عن صبره استقال من حزبه وهو حزب وحدة الشباب الصومال في أواخر الأربعينات احتجاجا على بعض الممارسات التي اعتبرها لا تتوافق مع ضميرة ومع مصلحة الوطن دون أن يثير القلائل، مما يدل على إخلاصه الكبير ونضوجه الفكري.

تأسيسه بحزب الرابطة الإسلامية

وهذا ليس معناه بأنّه انسحب عن المسرح السياسي  والنضال الوطني، بل أسس حزباً وطنيا سياسياً يحمل أسم حزب الرابطة الإسلامية فى عام 1950م ، ويظهر على اسمه بأنّه حزب سياسي على طابع ديني، وتولى  أول رئاسة الحزب، وكان يتميز عن غيره بأن معظم أعضائه كانوا من العلماء وممن يحمل الثقافة العربية. وذكر سعادة السفير محمد الشريف محمود بأن هذا الحزب  ” يتلخص برنامجه فى العمل على تحقيق الاستتقلال والوحدة الصومالية وإعطاء الأولوية للنهضة التعليمية والمحافظة على الهوية الثقافية والحضارية الإسلامية للبلاد، وتعزيز أواصر التواصل والتعاون مع الدول العربية والإسلامية..”.

 

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى