تاريخ معمّى عليه، مضيّع ومنهوب

رغم التعتيم الذي يواجهه التاريخ الحضاري للإنسان على أرضنا، نتيجة لعوامل كثيرة بدءًا بالانقطاعات الحضارية التي حدثت، ومؤثرات بيئية واقتصادية واجتماعية، مسببة لسيطرة “البداوة” في أسلوب حياتها، على معظم مساحة البلاد خلال القرون الماضية، وما حدث في التاريخ المعاصر من قصر التجربة الديمقراطية، والدخول في الفترة الدكتاتورية التي أدّت لغرق البلاد في حروب وصراعات بالغة ذورتها سقوط الدولة وتفكك البلاد، فإنّه مع انفتاح المجتمعات الصومالية، على القيمة المعنوية والمادية للآثار وبقايا الحضارات التي عاشت على أرضنا، يَظهر عبر المعروض منها، ما يدلّ على كثافة كبيرة في الوجود الإنسان على تلك الأرض، في فترات زمنية طويلة ومتقاربة، لنظم حضارية تزامن بعضها جنبًا إلى جنب، مع ما حمله كلٌّ منها من تميّز وتقدّم، بحيث أصبح من غير المستغرب أن تصلك رسالة عبر الـ”وتساب”، تحتوي صورًا لتماثيل وآثار للبيع من صديق، كأنها سلعة معتادة كسيارة مستعملة، أو حتى جهاز هاتف متحرّك، وتعبثر المخطوطات والوثائق التاريخية من مرحلة إلى مرحلة، حيث تجد من يفخر باقتنائنها من كل أنحاء العالم، وهذا ما قد وصلت إليه الحال بالنسبة التاريخ البلاد وآثارها!

المراحل التاريخية الكبرى في البلاد:

عاش الإنسان على الأرض الصومالية منذ ظهوره الأول، حسب النظرية العلمية التي تقول بانتشار الإنسان الحالي “كرومانيون” منطلقًا من منطقة الأخدود الإفريقي العظيم الحادّ للصومال الطبيعي، وعليه فقد كانت بلادنا أحد مناطق الاستيطان الأولى والمعبر الرئيسي إلى جنوب غرب آسيا “الجزيرة العربية”، ومنه إلى آسيا وأوستراليا وأوروبا كذلك، كما أكّد استمرار الوجود الإنساني ما تم إظهاره من وجود رسومات من العصر الحجري المبكر، في كهوف “لاسغيل” و”طمبلن”، وما تلى ذلك من ظهور بلدات كمستوطنات “عمود” و”ورغادي”، وملكة “بونت” ذات الصلات العرقية والثقافية والاقتصادية مع مصر الفرعونية، ومملكة “مكروبيا”، وما وثّق له الرحالة والمؤرخون الإغريق من مدن تجارية ساحلية من أهمها “زيلع/أفيليتيس” و”بربرة/ملاو” و”حيس-ميط /مندس” “موسايلون/ بوصاصو” “أروماتا/ غيس غاردفول” و”حافون/أوبني” “دامو” و”مقديشو/سيرابيون” “مركا-براوة/إسّينا” و”كيسمايو/غوندال”، وقيام الحضور التاريخي للتوحيد عبر الإله الواحد “رع” في فترات، و “واق” في فترات عاصرت دخول الدين اليهودي إلى البلاد، مستمرًا بذلك الوجود الحضاري والحضري للإنسان في البلاد ودخوله مرحلة جديدة، بوصول الدعوة الإسلامية في بواكيرها، وانتشار الدين الإسلامي بين السكان، وتحوّله للدين الأوحد للصوماليين.

مسائل ملفتة في تاريخ البلاد:

يواجه تاريخ منطقة القرن الإفريقي ومحيطها، والتاريخ الصومالي ليس بمعزل عنها في طرحه وسرده معضلات أساسية، تتمثل في مساعي التعتيم والمكافحة لمخرجات البحث المستقل والمحايد، والساعي لاكتشاف “قصة الإرض والإنسان”، نتيجة لسلوك طبيعي تمارسه كيانات سياسية أو توجهات سياسية مستندة على فكر تاريخي إقصائي، تستفيد من حالة عدم الاستقرار الصومالي وضعف الإمكانيات، بهدف الاستمرار هبر احتواء الآخر وإذابته، إلّا أن طبيعة الأرض الصومالية وإنسانها قد ساهما إلى حد كبير في تجاوز محاولات الاستتباع الثقافي والفكري والديني مادام التوحيد مركز العبادة الأصيل في البلاد.

ومع فقدان بلاد كثيرة لمظاهر أساسية من مظاهر ثقافتها الأصلية لصالح ثقافة الحكام الجدد، ومساعي الاستئصال التي أصحت تطبع سلوك طبقاتها العليا، فالعاملون في الشأن التاريخي الصومالي يواجهون حالات التشنّج والتسفيه، ارتكازًا على التخوّف من اكتشاف حقائق تنقل مراكز الاستقطاب من جهة إلى أخرى، مفرغة الزخم من الأحوال السياسية الطارئة، ومتسببة في خلق “تسويات” جديدة أكثر ثباتًا، بما أنّها مبنية على حفظ الحقوق وفقًا لحقائق علمية ونظريات ثابتة قد لا تقبل الضحد، إذ ما بين الفصل المتعمّد المخالف للقرابة الجينية بين أسرتي اللغات “النيلية-الصحراوية” و”الأفرو-آسيوية” التي تنتمي إليها اللغات “الكوشيتية ومنها الصومالية ، والتعتيم على العلاقة العرقية بين “مصرايم-كوش” و”الفراعنة-البونت”، و”الكوشيين-العرب” وهجرتي “اليمنيين” والـ”بانتو” إلى مرتفعات شمال شرق إفريقيا من الشمال ومن الجنوب خلال خمسة وعشرين قرنًا، وخلق التناقض بين الهوية الثقافية الحالية وتعدد أصول بعض القبائل والعائلات، يبقى الكشف عن تاريخ الإنسان على أرضنا، جهدًا يحتاج لبذل الكثير من العمل والتفاني والصبر، ويستلزم الحذر من الوقوع فيما ارتكبه سوانا، لتكون الاستنتاجات والمحصلات قادرة على الصمود أمام تمحيص الممحصين، وتعلو على ما قد يثيره المغرضون من غبار.

خلاصات مهمة في تاريخ الإنسان على أرضنا:  

تبعًا للخلاصات التي توصل إليها الباحث في التاريخ البروفيسور/ أحمد إبراهيم عواله، ومن خلال كتابه “نسل رعاة البقر”، يشير في بحوثه إلى أن العنصر الصومالي الحالي، إنّما هو امتداد في وجوده وجيناته ولغته للعنصر الكوشي الأقدم، وبالنظر إلى طبيعة القبائل الكوشية القديمة، فقد كان “رعي البقر” المركز الرئيسي لنشاطهم الاقتصادي، مستشهدًا بما تم توثيقه من أساليب حياة الكوشيين في مملكة “كوش” التي امتدت من شمال السودان إلى مصر وفلسطين في أوسع مداها، كما استعان بالبحوث التي تحدثت عن وجود آثار بكهوف في “تنزانيا” تحتوي على بقايا لبشر تحمل عظامهم ذات البنية العظمية لكوشيي اليوم “الصوماليين والبجا والعفر والأورومو”، خاصة من حيث شكل الجمجمة، مترافقة البقايا البشرية مع بقايا عظمية لسلالات بقر إفريقية قديمة، سابقة للسلالة “السندية” المسيطرة في الوقت الحالي.

والملفت حقيقة في شأن تاريخ العنصر الكوشي، ما تم استخلاصه من المدونات الآشورية والعبرانية، التي لا تني تمزج بين العنصر الكوشي الأقدم والعنصر العربي الأحدث، من حيث الأرض فيما سمّي لاحقًا بشبه الجزيرة العربية، ومن حيث الصفات الجسمانية كذلك، ومن قائمة القبائل الكوشية المذكورة في “سفر التكوين” والتي سكنت في شبه الجزيرة العربية ممتدة من اليمن حتى بادية الشام وبلاد الرافدين ، بدءًا بنسبة الملك “نمرود” لكوش بن حام، وقد يتأكّد صحّة ذلك الخلط الذي يدلُّ على عدم التمايز، اعتبار نبي الله شعيب ـ عليه الصلاة والسلام ـ وابنته التي تزوجها نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ “كوشيين” في التراث الإسرائيلي ـ حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ـ، في حين يعتبر التراث الإسلامي نبي الله شعيب ذاته عربيًا، والملفت من سهولة تفاهم “هاجر المصرية أم اسماعيل و قوم “جرهم” الصيادين القادمين من الجنوب والمُخْتَلَفِ على أصولهم، وبالعودة لتعريف مصدر “عرب” نجد أن الأمر يدل على البيئة الصحراوية المستجدة، المخالفة للمراعي التي أتى منها أسلاف نبي الله شعيب، أو التحول في البيئة الذي تلاه بفناء البيئة الخضراء “الأيكة”.

 مناطق أثرية مهمة:

تنقسم المناطق الأثرية الأغنى في البلاد إلى ثلاث مناطق رئيسية:

1-      السواحل:

وتنقسم السواحل إلى قسمين:

  • الساحل الشمالي:

يشمل الساحال الشمالي سلسلة من المدن الموانئ وامتداده من مدينة “زيلع” حتى “بوصاصو”، ويمكن اعتبار ذلك الساحل ممرًا رئيسيًا لسلع القادمة من الهند وجنوب شرق آسيا، وتاريخه من القدم بحيث يسبق توثيق الحركة التجارية والسياسية بين مملكة الـ”بونت” و مصر “الفرعونية”، وقد جرت محاولات لاستتباعه مرارًا من قبل قوى كبرى كـ”الفرس” ووثق لزيارته رحالة “إغريق”.

  • الساحل الشرقي:

تميّز الساحل الشرقي بكونه محطة لنقل السلع القادمة من شرق وجنوب أفريقيا، في بيئة أكثر استقرارًا وبعدًا عن الصراعات التجارية الدولية بين القوى الشرقية والغربية إلى الشمال، وامتداده من “حافون” حتى “كيسمايو”، وقد كانت السلع القادمة منه مدار شغف التجار وقد وثّق الرحالة من “الإغريق” حتى العصر الإسلامي لأنواع التجارة والمنتجات والسلع التي كانت توافرها تلك السواحل، وقد شهد ذلك الساحل قيام أهم امبراطورية تجارية في التاريخ الصومالي بعد مملكة البونت، وهي سلطنة أجوران التي أضعفت الوجود البرتغالي في المحيط الهندي حتى تم استئصالهم من قبل اليعاربة العمانيين.

2-      المرتفعات والهضاب الشمالية:

شكّلت المرتفعات والهضاب الشمالية والشمال الشرقية مراكز حضارية مهمة لوفرة المياه فيها، رغم نضوب النهرين الجاريين فيها ونهر”النيل الأصغر” و نهر”الفيل”، ومع تناقص الهطل المطري انكمشت المدن إلى بلدات شكّلت نقاط مرور أساسية لقوافل التجارة المتجهة إلى هضبة الحبشة وبوابتها الرئيسية “هرر”، ومن أهم المناطق الأثرية فيها:

  • طريق القوافل الممتد من “بربرة/بلحار” إلى “هرر”، ويمر في عدد من البلدات والمناطق الأثرية والتلول والمناطق الكهفية ومنها “لاسا دعوو” و”غعن لباح” و”لاسغيل” و”أوبرخدله” مناطق الوديان الخصبة ممتدة حتى “عمود”.
  • المناطق الجبلية الشرقية “سلسلة غوليس”:

o       مغارات ومستوطنات جبل شيخ.

o       مستوطنات وأخاديد وأنفاق جبل “سُرد”.

o       مستوطنات وكهوف “علامدو”.

3-      المنطقة النهرية:

  • ولازالت تلك المنطقة على ما توحي به من إمكانيات آثارية نظرًا لقدم النشاط الزراعي فيها والتنوع الإثني، لازالت تحتاج للكثير من أعمال التنقيب والبحث.

 

زر الذهاب إلى الأعلى