أوضاع اللغة العربية في الصومال قراءة تاريخية لعوامل الازدهار والانحسار  (6)

تكلمة لأوضاع اللغة العربية في الصومال في فترة الوصاية

تناولنا في الحلقة السابقة أوضاع اللغة العربية في الصومال في فترة الوصاية، وقد كانت أبرز ملامحها-كما ر|أينا- اهتمام قوى الاحتلال بضرب اللغة الصومالية بالعربية وتشكيل وسط ثقافي صومالي مناوئ للغة العربية، حيث أخذت الإدارة الإيطالية الوصية على عاتقها مسؤولية بعث القومية الصومالية! وإشعال حماس التعصب لها لدى الأحزاب وشرائح المثقفين، والدعوة إلى  تدوين اللغة الصومالية بالحروف اللاتينية! واعتماد اللغة الصومالية لغة رسمية للبلاد عوضا عن الدعوة إلى  اللغة العربية؛

ولتوطين تلك الفكرة قامت الإدارة الإيطالية بتأسيس “جمعية لاتينية” يُضم إليها الشباب الصومالي المثقف، ومدرسة لتعليم اللغة الصومالية  بالحروف اللاتينية، وقامت بنفس الإجراء الإدارة الإنجليزية في الشمال(1)  وأعتقد أننا لسنا بحاجة إلى تفسير دوافع نزوع المحتلين لاستثمار الصومالية في ضرب اللغة العربية وتنحيتها؛ لأن اللغة في أبسط نتائجها تحدد نوع العلاقة التي تربط شعبا ما بغيره من الأمم والحضارات، فلو اتخذ الصوماليون العربية لغة رسمية لهم في المجالات الإدارية والتعليمية، فهذا معناه أن أجيالهم الصاعدة ستفكر بواسطة اللغة العربية وسيكون تاريخهم وحضارتهم عربيين، وأنهم سوف يتفاعلون مع المجتمعات العربية في الجزيرة والشام والعراق  والسودان وشمال أفريقيا!

 فسطاطان

ونتيجة  لتلك الجهود المبذولة في ضرب اللغة الصومالية بالعربية، وإعادة تشكيلة المعادلة الثقافية في الصومال ظهر في الساحة الثقافية الصومالية منذ مطلع الخمسينات فسطاطان متوازيان: أحدهما متحمس للقومية الصومالية ويشكل نسبة ضئيلة من السياسيين والنخب المتعلمة تعليما غربيا، مقابل فسطاط ذي قاعدة عريضة يتمثل بجماهير الشعب ورؤساء العشائر والعلماء بالإضافة إلى شريحة واسعة من النخب والأحزاب السياسية.  وقد  صاحب هذا الانقسام لون من التلازم بين  موقف الشخص من اللغة العربية  وبين موقفه الفكري،  إذ  أصبح الحديث الإيجابي عن إحياء اللغة الصومالية والحماس لها، ومحاولة حشر اللغة العربية في قائمة اللغات الاجنبية مبسمًا على الاغتراب  الفكري، في حين بات التمسك بالعربية والدعوة إليها دلالة  على التزام ديني ووعي ثقافي، وقد اشتهر في تلك الأثناء-شعبيا- إطلاق  مصطلح “لا دين” على تيار المناوئة ودعاة تلتين  كتابة اللغة الصومالية!

وإزاء تكريس قوى الاحتلال جهودها في تعميق هذا الانقسام ودفعه إلى الأمام رفع زعماء الصومال وشيوخ عشائره إلى الإدارة الإيطالية الوصية والمجلس الاستشاري عريضة عبروا فيها عن رأي الشعب الصومالي في شأن اللغة الرسمية ، وذلك في عام 1950م وجاء  في العريصة”(نحن علماء بلاد الصومال ورؤساء قبائلها وشيوخها وأعيانها ورؤساء الأحزاب السياسية بها نرفع إلى السلطة القائمة بإدارة هذه البلاد وهي إيطاليا ما أجمعنا على إقراره نهائيا ، بخصوص اللغة الشعبية الرَّسمية في هذه البلاد .. إننا نختار اللغة العربية لغة شعبية رسمية لهذه البلاد للأسباب التالية:

1.  أن اللغة العربية لغة المحاكم الشرعية في جميع نواحي القطر ومازالت حتى اليوم .

2.  أن اللغة العربية لغة الدين ولغة القرآن الكريم

3.   أن اللغة العربية لغة التجارة ، والمكاتبات منذ انتشار الإسلام في هذه البلاد حتى اليوم .

4. أن اللغة العربية لغة يتكلَّم بها أغلبية السكان .

5.   أن اللغة العربية قد اختارها الشعب بالإجماع لتكون لغة البلاد الرسمية ، وهي مجرى طبيعي لا نجد مناصا منه ومن حاد عن هذا أجمعنا على أنه يعمل ضد النظام الإسلامي في البلاد الصومالية(2)

وعلى المستوى السياسي قدم أعضاء المجلس الإقليمي( كان بمثابة جمعية تشريعية صومالية تحت إدارة إيطاليا)(3)مقترحا  في شأن اللغة العربية كلغة رسمية للدولة الصومالية المرتقبة في جلسة 7 فبراير سنة 1951م، غير أن الحاكم الإيطالي رفض التصويت على المقترح، وتولَّى بنفسه الإجابة على المقترح، مؤكدًا على أن الإدارة ستأخذ باللغة العربية واللغة الإيطالية في المدراس والمكاتب واستعمال اللهجة الصومالية في المعاملات،   ونظرا لغموض إجابة الحاكم الإيطالي رفض المجلس هذا الطرح وطالبوا التصريح بأن اللغة العربية اللغة الوحيدة الرسيمة للدولة الصومالية(4)، غير أن رئيس المجلس (الإيطالي) أعلن أنَّه سيفحص تدريجيا بإخراج لغة من اللهجات المختلفة يمكن أن تكون اللغة الرسمية للدولة(5)

     توطين اللغة الإيطالية

وكان يوازي تلك الجهود المبذولة في إحياء فكرة القومية الصومالية وضربها بالعربية،  عمل حثيث على توطين اللغة الإيطالية  في الصومال على غرار ما حققته الفرنسية في المغرب العربي وجيبوتي، وذلك  من خلال ابتعاث مئات من الطلبة الصوماليين إلى إيطاليا(6) وفتح مدارس نظامية (بلغت عدد المدارس الابتدائية باللغة الإيطالية عام 1954 إلى 105 مدرسة تحتوي على 354 فصلا دراسيا،  وتضم 10169 طالبا وطالبة) بالإضافة إلى مراكز لتعليم اللغة الإيطالية، ومدرسة لتدريب المعلمين، ومدرسة للعلوم الصناعية، ومدرسة للعلوم الزراعية، ومدرسة الإعداد السياسي والإداري(7)، ومدرسة العلوم العسكرية، ولغة التعليم في جميعها الإيطالية(8). . وذلك مقابل التضييق على التعليم العربي، وتشويه مادتي اللغة العربية والتربية الإسلامية بعد إدراجهما شكليا إلى مدارسه، وذلك باختيار أقل الناس كفاءة لتدريسهما، ووضع حصصهما في نهاية الدوام المدرسي، وإعطاء القائمين على تدريسهما أقل الرواتب، فضلا عن التلاعب باختيار المحتوى الدراسي، والتركيز على محاور الاختلاف والصراعات من تاريخ المسلمين (9).

وكانت محصلة هذه الجهود خلال سنوات الوصاية(10 سنوات) أن أصبحت الإيطالية لغة عشرات الآلاف من المثقفين الصوماليين، وهذا ما ساهم في توسيع قاعدة  التيار المناوئ للغة العربية، مع ملاحظة أن التعليم الإيطالي كان يفتقر إلى الجودة  كونه يتركز أساسا على إعداد مترجمين ومساعدين يجيدون التواصل باللغة الإيطالية! 

  البحث عن بديل عربي لترجيح المعادلة

وإزاء هذه الانتشار الواسع للتعليم الإيطالي كانت شرائح المجتمع  والأحزاب السياسية وأعيان المجتمع تشعر بقلق بالغ، خاصة بعد خيبة الأمل التي رجع بها الممثلان الصوماليان من مؤتمر نيويورك الذي عكس مدى تنفذ قوى الاحتلال على قرارات هيئة الأمم المتحدة، فلا بد  من القيام بمجهود مضاد للحفاظ على ثقافة الشعب ولتحقيق إجماعه باختيار اللغة العربية لغة رسمية لهم، فوصلوا إلى ضرورة تعزيز التعليم العربي والاستعانة بجمهورية مصر العربية في توفير المناهج والمدرسين وإيفاد بعثات صومالية إلى مصر لدراسة العلوم المختلفة باللغة العربية.

فكتب زعماء الصومال وقادة حزب وحدة الشباب الصومالي إلى السفير كمال الدين صلاح طلبا بهذا الشأن، فوجدوه خير معين لهم  في  هذا المهمة الشاقة(10)، حيث كتب على الفور إلى وزارة التربية والتعليم في مصر، وإلى المؤتمر الإسلامي، وإلى الأزهر، مطالبا بإرسال بعثة تعليمية مصرية لتقوم بالتدريس باللغة العربية في المدارس الصومالية، وبعثة أزهرية تقوم بتدريس الدين وتعليم الأهالي، وطالب كذلك بإنشاء مدارس مصرية في الصومال، ومركزا ثقافيا مصريا في االعاصمة وفقا لطلب الأجزاب السياسية وعلى رأسها حزب وحدة الشباب الصومالي الحاكم(11)

واستجابة لذلك الطلب قررت الحكومة المصرية بإيفاد سبعة من علماء الأزهر وتسعة عشر مدرِّسا ومدرسة إلى الصومال لدراسة الوضع وتهيئة الأجواء، إلا أن الإدارة الإيطالية رفضت قدوم البعثة المصرية إلى الصومال على الرغم من أنها فتحت الأبواب للإرساليات االتبشيرية على اختلاف جنسياتها ومذاهبها، وسنناقش في الحلقة القادمة-بمشيئة الله- كيف كانت ردة فعل الشعب تجاه منع السلطات الإيطالية دخول البعثة المصرية، وماذا حدث من التجاذب في شأنها، وصفحات أخرى من تاريخ الصراع حول اللغة العربية في فترة الوصاية.

المصادر والمراجع

1- أحمد بهاء الدين: مؤامرة في إفريقيا 94-95 دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة 1957

2-عبد الرحمن النجار : الإسلام في الصومال 99 طبعة القاهرة، وحسن مكي 168، وعلي أبو بكر 53

3- أسست الإدارة الإيطالية المجلس الإقليمي وفقا لما جأء في وثيقة الوصاية التي نصت على أن تعمل الدولة الوصية في إعداد الشعب لتداول الحكم، وكان هذا المجلس أول هيئة استشارية في الصومال، ضمت 35 عضوا بينهم 28 صوماليون، وأربعة ممثلين للجالية الإيطالية، واثنان للجالية اليمنية، وواحد من الجالية الهندية والباكستانية انظر محمد نور جعل 56

4- تذكر بعض المصادر أسماء المستشارين الذي قدموا الطلب  وهم: معلم حسن ودعاله فهمي ، والشيخ عبد الله شيخ محمد ، وحاجي حسن أحمد ، وحاجي عبد الله ، وأمين محمود أحمد ،  وجاني عمر ، وعبد الرحمن علي عيسى ، وإمام عمر أو على ، وحاجي موسى بقر محمد عمر أحمد: الحركة العلمية في الصومال

5- محمد نور جعل 57 وحسن مكي محمد 168

6-  حينما حاولت بعض الدول العربية مثل سوريا ومصر تقديم منح للطلاب الصوماليين استشاط الاحتلال الإيطالي غضبا، وضغط على هؤلاء الطلاب وأسرهم وأجبرهم على الانتقال إلى إيطاليا والدول الغربية.

7- تركت هذه المدرسة بصماتها لدى الفكر السياسي في الصومال حيث تخرج فيها فوج كبير من السياسين والإداريين الصوماليين. كان منهم عبد الرشيد علي شرماركي ومحمد سياد بري

8– تاريخ التعليم 69  وما بعدها ،  وانظر كذلك السياسات الثقافية في الصومال الكبير 147 -148

9- علي أبو بكر: الصومال وجذور المأساة الراهنة 47 ،  انظر كذلك تاريخ التعليم  في الصومال 83

10 –  حسن مكي محمد: السياسات الثقافية 143

11-  مؤامرة في إفريقيا  95-96

أ. عمر محمد ورسمة

مسؤول قسم اللغة العربية للناطقين بغيرها مركز لغتي لتعليم اللغة العربية - الدوحة قطر
زر الذهاب إلى الأعلى