خلاصة عن فكر ما (4)

الكتاب الذي نحاول في هذ الأسبوع الاستخلاص عن فكر ما، هو الكتاب المعروف: في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي لـ جان جاك روسو، العالم السويسري المشهور، وأصدرته المنظمة العربية للترجمة بتوزيع من مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت وبترجمة السيد عبد العزيز لبيب، وذلك بطبعته الأولى المنتجة عام 2011م، وبالطبع يوجد للكتاب طبعات أخرى صدرت من مختلف الأماكن ودور النشر في فترات متفاوتة لا تخلو منها ظهور مفارقات طفيفة، كما أن له ترجمات عربية صادرة من القاهرة وتونس، وبيروت في أوقات مختلفة، واعتمدنا إلى هذه النسخة إلى أخرى مترجمة بالعربية صدرت من مؤسسة هندواي للتعليم والثقافة في القاهرة عام 2012م بترجمة عادل زعيتر، هذا إلى جانب كتاب كتبه هيكل عن روسو، حياته وكتبه،  وهو كتاب ثمين جدا ولذلك سنكتب عنه مقالا إضافيا إلى جانب هذا المقال لأهميته.

وغالبا ما نختار الكتاب بدقة وعناية وتأخذ عملية الاختيار مني وقتا طويلا، وأهم العامل الحاسم لاختياره هو قيمة الحصيلة التي يتضمنه ومصداقية مؤلفه وكيف أن هذا يخدم على إثراء الفكر السياسي الضحل وينمي الأفق الوطني، ويدعم ثقافة المشاركة في القضايا العامة المشتركة بايجابية وفعالية على المدى المنظور، ومن الطبيعي أن يظهر     في الكتاب على أن صاحبه هو أ بن عصره وجزء أصيلا في منطقته، وتعبير صادق عن ثقافة مجتمعه، وكتب بلغة تحمل الكثير من المعاني والإطناب ويتحدث عن قضايا تبدو هو بالنسبة لعصره إشكاليات حقيقية مثل العبودية، والملكية و شكل الحكومة المثالية وغيرها والتي ربما تبدو لنا نحن في عصرنا الحاضر بديهية، كما يمكن انه ربما تبدو لغيرنا اللاحقين بعدنا أمرا غير ذي معنى

ولد روسو في مدينة جنيف عام 1712م وهو فرنسي الأصل، وعاش في آماكن مختلفة في أوربا، وتحديدا في فرنسا، وايطاليا وانجلترا بغرض العمل والتعليم، وعاصر مع العديد من عظماء عصره مثل فولتير ( 1694-1788) م ومونتسكو ( 1689-1755)م، واستقى بعض من أفكاره عظماء آخرين عاش البعض منهم في زمنه، والبعض الآخر منهم عاش في فترة ليست بعيدة عن زمنه مثل لوك (1632-1704) م وهو بز (1588-1679) م وبيكون ( 1561- 1626) م وديكارت ( 1596-1650)م مع اختلاف كبيرقي الاتجاه معهم وكثير في الأفكار تصل إلى حد النقض      في بعض الأحيان، وكتب هذ الكتاب عام 1762م، وهو عبارة عن كتاب واحد يحتوى عدة كتب متداخلة فيما بينها، كما أنه جزء من كتاب مطول تعرض بعضه للحرق واقتصره على شكل خلاصة في هذ الكتاب واستغرق منه إخراج الكتاب جهدا بحثيا متراكما يصل إلى عشرين عاما من حياته المليئة بالتقلبات والمغامرات والتحديات، وهو ما كا ن له الأثر البالغ في بروز عبقريته النادرة وسعة ثقافته المعرفية وعمق تجربته العلمية، وجرأته في طرح الأفكار النقدية، وذلك نتيجة تنقلاته المتتالية من وإلى، وتعايشه الحقيقي مع المشكلات الحقيقية القائمة، وتعرضه للقهر والبؤس في حياته التعسة، وذلك غالبا ما تجده متمسكا بالحرية والحق والحقوق على مفاهيمها الواسعة   

وفي جنيف يوجد المخطوطة الأصلية المكتوبة باللغة الفرنسية، وهو من أكثر الكتب رجوعا في مسائل فلسفة الحكم وإشكاليات الفكر السياسي الحديث لدرجة يسميه البعض عمدة الكتب السياسية وانجيل الثورة الفرنسية، علما بأنها وقعت بعد عقد واحد من وفاته عام 1788م، وتمّ ترجمة الكتاب إلى أكثر اللغات الحية في العالم لأهميته، وللمؤلف كتابات أخرى عديدة مثل كتاب الخطاب في أصل التفاوت بين الناس، والاعترافات وإميل، والأخيرين هما نوع من كتابة مذكرات حياته الشخصية يعترف ويصرح بميوله وخطيئته وقصوره وذنبه الذي ارتكب في حياته، وفي حق أولاده الخمسة ورؤيته في الدين ومواقف الحياة وقيمها،  كما أن له أعمال وهوايات برزت في الشعر والأدب والفن والموسيقى والاقتصاد والرياضيات والعلوم وبالذات علم النباتات ولكن كلها لم تحظى ما حظي هذ الكتاب من الشهرة والسمعة والاعتماد على المستوى العام

ويتحدث الكتاب عن السيادة، والقانون والحق والعدل والدولة والمواطن والدستور والحرية بطريقة يراها أنها مترابطة فيما بينها ترابطا وثيقا ينتفي بغياب الواحد منهم وجود الآخر، و أثر في الحياة السياسية بشكل ملموس، وساهم على خلق صحوة فكرية اتسمت بالحيوية والخلود وقادت إلى العديد من التغيرات الاجتماعية والثورات والتحولات السياسية في العالم سواء حدث ذلك في عصره آو ما بعده من العصور كمصدر إلهام، وأصبحت آليات الحكم والتحاكم مختلفة عن سابقتها بعد صدوره، ومازال الكتاب رغم قديميته يحتفظ القيمة العلمية كمرجع معتمد في مجال تناوله،  والمسألة الأساسية التي يحاول روسو إيجاد معالجات فكرية عن اشكالياتها الحقيقية هي إجابة عن سؤال واحد، ما هي   المبادئ والسلوك التي بمقتضاها تكون الحكومة شرعية ؟ آو بمعنى آخر ما الخصائص التي تكون الحكومة باكتسابها شرعية و بالأحرى ما طبيعة العلاقة بين شرعية الحكم وسلوك الحكومة

ويمكن القول بان الأصول التي يدور الكتاب حولها، ويريدها روسو أن تكون راسخة الوجود في قضايا الحكم السياسي المستقر والرشيد هي ما يلي

أن يكون الحكم مدنيا قائما على التشاور والتعاقد المتجدد باعتبار هما أساس الشرعية المتبادلة بين طرفي الحكم أو بين المواطن والسلطة، ولا يختلف صيغة الحكم التعاقدي هنا عن الشراكة التي تتم بين أي طرفين تتوافر فيهما دائما عناصر الحرية والرضاء والرغبة في الاستمرار، والانسحاب منها حين الإختلال بالأسس المتفقة

الميثاق أو العهد السياسي هو اللحظة التي يقرر شعب ما الوقوف مع نفسه، وهو عهد إرادي يكون توافق الإرادة الخاصة مع العامة مؤصلا في الحكم، ومن ثم يكون العهد والميثاق أصل السلطة المدنية القائمة    على الحق السياسي المتفاهم على مستوى العام

يوجد فرق كبير بين التزام الإنسان نحو نفسه والتزامه نحو مجتمع يعدّ جزءا منه، ويعنى بذلك أن الالتزام تجاه المجموع يجب أن يكون أشد وأقوى من التزام الذات، لأن الأول يؤثر الآخر والجميع،  بينما الأخير يؤثر الفرد بنفسه فقط

يوجد علاقة ارتباطية بين الحق الطبيعي والمصلحة الفردية، كما يوجد صلة دائمة بين المنفعة والعدل، ولذلك ينبغي تقديم صيانة الحق وحفظ العدل على المنفعة والمصلحة الفردية

أن القوة لا تخلق الحق و لا توجب به، وان الحق لا يصدر عن الطبيعة مطلقا، ولا يكون الأقوى قويا بما فيه الكفاية مالم يحول قوته إلى حق، وطاعته إلى واجب عمل

ينفي إمكانية وجود العبودية التلقائية آو الطوعية وان تنازل الإنسان عن حريته وحقوقه لا يقل وقعا عن تنازل الإنسان بصفته الأصلية، وان يرتضي ببيع نفسه طواعية، ويعتبر وجود ذلك نوعا من التهافت

من الضروري خضوع الأقلية العددية طواعية بالاختيار الأكثرية في مواقف الاختيار خضوعا لآياتي من القوة والقهر يقدر ما هو الإدراك بان العدد هو الحاسم في مثل هذه المواقف في كل الأحوال

ينبغي أن يتحول الفرد في ظل التعاقد الاجتماعي وسيادة المساواة من الرعية والمحكوم والسيد إلى المواطن الشريك في أداء المسؤولية الوطنية، ويكون التحاكم في حالات حدوث الخلاف والاختلال هو القانون والعهد والميثاق، وأن القانون والوطن هما متلازمان عند روسو

أن كثرة العقوبات الحا صلة في ظل الدولة لا تعبر بأي حال من الأحوال عن قوة الدولة ولا القدرة في الحسم بقدر ما هو دليل عن ضعف وعجز الدولة عن الوفاء بالتزاماتها، وما يدل قوة الدولة ويثبت حسن إداراتها هو قلة المجرمين ووفرة الوسائل المانعة لوقوع الجريمة وليس العكس

ويما يز روسو في حديثه المسهب بين المساواة التي لا سلطان على الإنسان فيها مهما كانت مكانته تحكّمها مثل المساواة في الذكاء والقوة والكسب، وبين المساواة في الحقوق والعهود والتي ينبغي أن تظهر فيها سلطان الدولة عليها بطريقة دائمة ومحكمة ، كما يفرق بين الحرية المطلقة التي تجعل الإنسان سيد نفسه ولا تجعله يعير أي اهتمام آخر سوى ما تملي له إرادته وهواه الخاصة به وبين الحرية المقيدة التي لاتحد الفرد من تحقيق هواياته ورغباته الشرعية و يعير صاحبها اهتمام الآخرين وحرياتهم الفردية، ويشيد الملكية الفردية بدلا وبالذات ملكية الأرض و يجعلها مربوطة أو مشروطة بالإحياء وأخذ المقدار الضروري منها للحياة والاعمار إعمارا يعود نفعه على العامة ماديا ومعنويا    

ويشير روسو إلى عدم تعذر توافق الإرادة الخاصة بالعامة في نقطة التقاء جامعة بينهما، ولكنه غالبا ما يتعرض هذ التوافق بالاهتزاز ولايدوم طويلا بطبيعة الحال، والسبب في ذلك يكمن في ميل الإرادة الخاصة إلى التفصيلات والايثارات وذلك عن طريق التفكير الذي يقول: ” أريد فعلا ما يريده الرجل الفلاني…” بينما العامة تميل إلى المساواة، ومن هنا يجب أن تكون الدولة هي الضامنة في الحفاظ على نقطة الالتقاء تلك، والعمل على إدامة التوافق بين الإراديين، وتكون الدولة القادرة على ذلك فقط هي ليست كل الدول بل هي المنتخبة التي تحترم العهد وتقدر الموقف وتراعي مصالح الجميع قبل فوات الأوان

ويؤمن ر وسو إيمانا مطلقا بان الله وحده هو العادل، ويجب أن يكون العدل متبادلا ليكون مقبولا بين الجميع وان فقدان أثر العدالة على الناس يعتبر شهادة عملية على اخلال طرف من الأطراف على الاهتداء به، ويؤمن روسو كذلك مبدأ السيادة الكاملة وأنها للشعب وغير مقسمة إلى سيادة تشريعية وحكومية وغيرها من التقسيمات الشائعة الاستخدام على المستوى السياسي العام، ولا يمكن التنازل عنها بطريقة جزئية أو كلية أو بشكل مؤقت ودائمة، ويمكن تفويضها وتمثيلها بطريقة ليست دائمة ويمثلها بالجسم الحي للإنسان الذي بانقسام أجزائه الكلية الواحدة إلى أجزاء متفرقة يفقد الإنسان حياته وقيمته الذاتية، وينبغي أن تتجسد السيادة معانيها الظاهرة في الحروب وفي اتفاقيات السلم وعند جميع أخذ القرارات المصيرية، ويدعو إلى الهيئة السياسية (الحكومة) حسب تعبيره الخاص له أن يكون لها جيش وقوة قاهرة منظمة تفوق عن سائرها في امتداد سيادتها، و أن على الجميع الاستعداد لمحاربة العدو في سبيل الوطن عند الضرورة وفقد ان السلامة النفسية

ويقر روسو بان الشعب يريد الخير دائما، ويسعى إلى الاستقرار والسلم ولكنه لا يرى الخير من تلقاء نفسه،  وفي الأغلب لا يمكن الجمهور الأعمى أو الجاهل أن يعرف ماذا يريد، ومن النادر أن يعرف ما هو صالح له، وربما يكون المعيار في ذلك هو النظر إلى مدى كونه هو ولي تغيير قوانينه واختيار ممثليه على المستويات المختلفة، و تكون الإرادة العامة مستقيمة، ولكنها تغويها الإرادات الخاصة أو الاهتمام الشخصي في بعض المرات، ويقوم أدلاء السوء إلى تقريب المسافة والزمن إلى عيون أولئك اللذين يلزم جعل عزائمهم الوظيفية ملائمة لعقولهم الشخصية، ومن هنا يجب وجود القانون ضروريا في كل الأحوال والخطوات، كما يجب أن تكون الجهة الواضعة على تلك القوانين غيرها التي يراد منها الحرص على تنفيذها والتقيد بمفرداته، وان أمورا رئيسية مثل سلامة النظام آو وجود النظام السليم، وحيوية عناصره البشرية، والتمتع بالأمان واليسر، وحكمة القوانين وحنكة القيادة تعطي للدول عمرا مديدا، بينما العكس يعجل عمر الدول ويفني مكوناتها فناء كاملا مخزيا

ويوضح روسو المهام التي على الحكومة العمل على تحقيقها، وذلك باعتبارها هيئة متوسطة بين المواطن والدولة، ومفوضة بتنفيذ الدستور وصيانة الحرية المدنية، ويحصر نوع الحكومات على أنها ديموقراطية (الجمعية)، وأرستقراطية (أقلية)، وملكية (فردية)،  وربما يلائم كل نوع من تلك الأنواع دولة معينة من الدول آو الشعوب، وذلك نتيجة اختلاف التراكيب من دولة إلى أخرى، وتبقى أفضل النظم هي التي تنفصل فيها سلطات الحكم وفق رأيه من غير أن تنقطع تلك السلطات بعضها البعض، والحكومة الديمقراطية يوجد فيها استمرارية دائمة للتغيير والإصلاح والتجديد، ويكون المواطن قادرا على أن يستمع بنفسه، ويدير مصيره بيداه..

سيد عمر معلم عبد الله

متابع في الشؤون الفكرية المعاصرة

مقديشو – الصومال

سيد عمر معلم عبد الله

متابع في الشؤون الفكرية المعاصرة
زر الذهاب إلى الأعلى