أوضاع اللغة العربية في الصومال قراءة تاريخية لعوامل الازدهار والانحسار (5)

وضع اللغة العربية في فترة الوصاية 1950– 1960م.

أجازت الأمم المتحد في 11 نوفمبر 1949م دخول الصومال في فترة وصاية محددة بعشر سنوات، تحت إدارة إيطاليا() وإشراف كل من مصر والفلبين وكولومبيا، على أن تأخذ  تلك الأراضي استقلالها بعد عشر سنوات من موافقة الأمم المتحدة على نظام الوصاية. ولهذا تطلق على تلك الفترة الممتدة ما بين  1950-1960مفترة الوصاية ().

   أما وضع اللغة العربية في هذه الفترة فقد كان أصعب من سابقتها، بل تعتبر هذه المرحلة من أشد مراحل الصراع بين الثقافة العربية والثقافات الوافدة.  ويرجع هذا إلى تركُّز سياسات لاحتلال في هذه الفترة على الجانب الثقافي والتعليمي على خلاف  الحقبة  السابقة التي انشغل فيها بقهر الشعب وإخضاعi لسلطة الاحتلال. 

     ونحاول في هذه الحلقة والحلقة التي تليها أن نسرد مقتطفات من قصة الصراع حول مسألة اللغة في فترة الوصاية بما يخدم أهداف البحث.

     ضرب اللغة الصومالية بالعربية

   شكلت سياسة ضرب اللغة الصومالية بالعربية وسيلة إستراتجية من الطراز الأول باتفاق قوى الاحتلال على الرغم مما بينها من العداء والصراع، وقد قوي هذا التوجه منذ الأعوام الأولى لفترة الوصاية، واكتسب صبغة صومالية مع مرور الأعوام وظهور شريحة من الكتاب الصوماليين الذين تحمسوا لفكرة  القومية الصومالية.

     وفي  عام 1954م بعثت الأمم المتحدة بعثة من رجالها لدراسة أوضاع الأراضي التي وضعت تحت الوصاية، فكانت مسألة اللغة  الرسمية في الصومال من أهم المسائل التي شغلت أعضاء اللجنة، والتي كانت تتألف من: رئيس نيوزلاندي، وعضوين أحدهما من الهند والثاني من الولايات المتحدة الأمريكية، وقد  وقف رئيس الوفد النيوزلاندي والعضو الأمريكي ضد اعتماد اللغة العربية في تمسك مخادع باللغة الصومالية.

     أما مندوب الهند فقد وقف مندهشا من تمسك الشعب باللغة العربية والتي كان يعبر عنها بالمظاهرات والاحتقان، واستنكاره ضرب الصومالية بالعربية من جهة،وتشبث أعضاء اللجنة باعتماد الصومالية من جهة أخرى، وقد قال معبرا عن هذا  الدهشة ” إن أعضاء البعثة لا يفهمون لماذا يصرّ الأهالي على التنكر للغتهم الأصلية(يعني الصومالية)، أما بالنسبة لتمسك أعضاء البعثة بإبعاد اللغة العربية فلا يخرج عن مجرد تعصب ضد لغة شرقية، والخوف مما يؤدي إليه انتشار اللغة العربية في إفريقيا”))

       أما عوامل تمسك العضوين الأمريكي والنيوزلاندي باستبعاد العربية فقد صرّخ به  مندوب نيوزلاندا في البعثة، وهو في نفس الوقت رئيس البعثة،  حيث قال-في حديثه لمندوب مصر في مجلس الوصاية- معبرا عن موقف دول الاحتلال عن اللغة العربية في الصومال ” أعتقد أن إدخال اللغة العربية إلى الصومال كلغة قومية ستوضع في سبيله كل العقبات والصعوبات التي تخطر ببال إنسان، وذلك من جانب الدول الأوروبية ذات المصالح الاستعمارية في القارة الإفريقية ، دفاعًا عن كيانها وحرصا على بقائها في  المستعمرات التي تسيطر عليها “))

    وأما مندوب مصر في اللحنة الاستشارية السفير كمال الدين صلاح، فقد كان هو الآخر مندهشا من تدخل أعضاء اللجنة في مسألة مصيرية كهذه، وقد قال معبرا عن استغرابه في تمسك اللحنة بفرض اللغة الصومالية ووقوفهم ضد اللغة العربية التي يريدها الشعب”  أستطيع أن أؤكد من خبرتي واتصالي بالأهالي في جميع  أنحاء الصومال أن اللغة العربية معروفة ومستعملة حتى أقصى المناطق، وأن الصوماليين يشعرون أن هناك ضغطا من جانب المجلس لفرض اللغة الصومالية عليهم وهي لغة غير مكتوبة ولا يفهم الصوماليون سر هذه الحماسة للغةٍ  هم أنفسهم لايريدونها”().

انتقال المعركة إلى نيويورك

      في عام 1955م انتقلت معركة اللغة الرسمية في الصومال إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وذلك في جلسة مجلس الوصاية المنعقدة في نيويورك لمناقشة نطور الأمور في شتى البلاد التي وضعت تحت الوصاية، وعندما جاء دور الصومال  استحوذت  مسألة اللغة الرسمية على النقاش، وقد شارك فيه مندوب إيطاليا الوزير “استيللي” ومندوب بريطانيا الوزير “كوستيللو” ومندوب مصر في مجلس الوصاية السفير كمال الدين صلاح، وممثلان لأكبر حزبين سياسيين في الصومال هما : عبد الرزاق حاج حسين من حزب وحدة الشباب الصومالي، والسيد عبد القادر آدم(سُوبي) من حزب ديغل ومرفلي. وأكد الممثلان الصوماليان  أن الشعب الصومالي يتمسك باللغة العربية لغة رسمية للدولة الصومالية،  لأنها لغة دينهم واللغة التي تتكلمها وتكتب بها أغلبية الشعب الصومالي، ضاربين عرض الحائط بأطماع الدول الأجنبية التي تحاول ضرب اللغة الصومالية باللغة العربية، وابتكار طريقة لكتابتها باللاتينية، ثم اعتمادها لغة رسمية للدولة الصومالية.

      ومما   قاله عبد القادر آدم سوبي في الجلسة- حسب مذكرات السفير كمال الدين صلاح مندوب مصر في المجلس الاستشاري- ” إن الدول الاستعمارية تتمسك بضرورة تطوير اللغات المحلية الإفريقية وإيجاد طريقة لكتابتها ، ولكننا مع ذلك نقول لهما:لا، فنحن نفضل اللغة العربية، وهم أحرار بما يفعلون بالنسبة للغات البلاد غير المستقلة التي يحكمونها، أما نحن في الصومال فإننا لا نشاركهم وجهة نظرهم” ().

      وأكد عبد الرزاق حاج حسين على ما قاله زميله بقوله” إنني أعتقد أن عدم العناية بتعليم اللغة العربية بمدارس الصومال يرجع إلى أسباب سياسية، وقد اخترنا اللغة العربية لأنها لغة ديننا واللغة التي نتكلمها وتكتبها أغلبية الشعب الصومال))

    وإزاء هذا  التمسك الحاد باللغة العربية الذي صرَّح به الممثلان الصوماليان انقسم أعضاء المجلس إلى فريق أيد إرادة الشعب الصومالي، وهي الدول المحايدة التي ليس لها أطماع استعمارية في الصومال: سلفادور والهند وسوريا ومصر، وفريق يتمسك باعتماد اللغة الصومالية وإبعاد اللغة العربية وهي  الدول ذات الأطماع الاستعمارية:  استراليا وأمريكا وبلجيكا ونيوزلاندا وإنجلترا وفرنسا وروسيا.

    وقال مندوب الهند في المجلس السيد جايبال معبرا عن رأيه في الموضوع ” إن اللغة الصومالية لا زالت لهجات متعددة، وهي بذلك في حالة تأخر لا تصلح معها لتكون وسيلة للتعليم في المدارس  أو لئن تؤدي الغرض المطلوب منها في إدارة شؤون دولة مستقلة ، وهذه هي الأسباب التي دفعت الصوماليين إلى عدم التمسك بها ، فمن نكون نحن حتى ننازعهم في ذلك؟ من نحن لنفرض عليهم وجهات نظر أكاديمية صرفة، إن الحقائق الجغرافية والتاريخية والدينية تشير كلها إلى اللغة العربية على أنها أفضل لغة للتعليم، وأهم من هذا أن الأهالي قد اختاروها، ويجب أن نحترم هذه الرغبة”))

  

     أما مندوب مصر السيد كمال الدين صلاح فقد حاول الامتناع عن التعرض لهذا الموضوع خشية اتهامه بالتحير للغته القومية، ولكنه تدخل بعدما رأى أن مسألة اللغة العربية تثير اهتمام الوفود إلى حد كبير  وقال في ذلك”  يخيل إلي أن الاعتقاد السائد في المجلس هو أن اللغة العربية لا يعرفها إلا سكان المدن الكبيرة، ولكني أستطيع أن أؤكد من خبرتي واتصالي بالأهالي في جميع أنحاء الصومال أن اللغة العربية معروفة ومستعملة حتى في أقصى المناطق ….”).)

       ومن الملفت للنظر أن دول الاحتلال على اختلاف مصالحها وما بينها  من العداء والصراع  اتفقت على  محاربة اللغة العربية في الصومال، لأن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، وإنما هي منظومة فكرية وثقافية متكاملة، فإذا أصبحت العربية اللغة الرسمية للصوماليين في المجالات التعليمية والإدارية وغيرها من المجالات الرسمية، فهذا يعني أن الصوماليين سيرتبطون بالشعوب العربية وستقوى علاقتهم بالثقافة العربية الإسلامية، ولهذا ينبغي الأخذ بكل الأسباب التي تعزز إبعاد هذا الشعب عن هذه اللغة، ليظل على الأقل شعبا أفريقيا محايدا، ولا بأس بأن يرتبط بإحدى اللغات الأوروبية، لأنه في هذه الحالة سيكون أقرب إلى الأوروبيين، وسيكون كذلك غريبا عن الثقافة العربية الإسلامية!

      وبالطبع لم يصل مجلس الوصاية  إلى قرار حاسم في الأمر، بل ترك الأمر معلقا لحين توافر إجراءات وظروف أخرى. وفي الحلقة القادمة سنناقش ردة فعل الشعب تجاه هذا الضغط الدولي الهادف لضرب اللغة الصومالية بالعربية، وصور أخرى شائقة من قصة الصراع حول مسألة اللغة في فترة الوصاية.

أ. عمر محمد ورسمة

مسؤول قسم اللغة العربية للناطقين بغيرها مركز لغتي لتعليم اللغة العربية - الدوحة قطر
زر الذهاب إلى الأعلى