أوضاع اللغة العربية في الصومال قراءة تاريخية لعوامل الازدهار والانحسار (7)

تكملة لأوضاع اللغة العربية في فترة الوصاية

منعت السلطات الإيطالية دخول البعثة المصرية إلى الأراضي الصومالية على الرغم من أنها سمحت بدخول البعثات المسيحية بشتى مذاهبها، وهنا سجل السفير كمال الدين صلاح(مندوب مصر في مجلس الوصاية) في مذكراته حوارا ساخنا دار بينه وبين الحاكم الإيطالي في مقديشو بهذاالشأن سنورده هنا لأهميته:

قال فرنكا بعد أن قال له كمال الدين: إن منع البعثة المصرية أمر غير سليم !

-إنه لا بد من وقت طويل لبحث المشكلة !

–  أي مشكلة! وهل دخول هذه البعثة يشكل مشكلة كبيرة، إنّ كل أعضائها أشخاص محترمون والحكومة المصرية مسؤولة عنهم”

  • إن المسألة ليست مسألة أشخاص ولكنها مسألة مبدأ!
  • إنني ألفت نظركم إلى أن اتفاقية الوصاية تنص بصراحة على السماح لبعثات التبشير من جميع الأديان بحرية دخول البلاد على قدم المساواة وحرية إقامة أماكن العبادة والمستشفيات والمدارس، وأنا أعلم أنه قد دخل إلى الصومال منذ أسابيع مبشرون جدد لتعزيز بعثات التبشير الأمريكية، فلماذا يمنع علماء الأزهر والمدرسون المصريون، وإلى أي مبدأ تستند إليه الإدارة في هذا؟
  • أؤكد لك بأننا لا نقوم بأي تفرقة بين البعثات الأجنبية!

انصرف كمال الدين بدون أي جدوى، ولكن التحركات لم تتوقف وخاصة من الأطراف الصومالية،  فهذا رئيس حزب وحدة الشباب الصومالي آدم عبد الله عثمان يبادر الحاكم الإيطالي بكلام شديد اللهجة بعد أن تمادى في مماطلتهم أسبوعا تلو آخر” إذا علم الشعب بأنكم تعرقلون قدوم بعثات التعليم المصرية فسيكون لذلك رد فعل سيئ ، فالشعب يريد أن يتعلم اللغة العربية، واتجاه الإدارة إلى اللغة الصومالية ومحاولة كتابتها بأحرف لاتينية لا تفيد الشعب إطلاقا، وليس في استطاعة  الإدارة ولا الدول أصحاب المستعمرات في إفريقيا… ولا الأمم المتحدة نفسها أن تفرض ذلك على الشعب…. إنني لا أحب أن  أقول  كلاما يؤوَّل على أنه تلويح بالتهديد ولكننا لن نسكت على تجاهل رغبات الشعب في هذا الموضوع الحيوي[1]) .)

وكانت المحصلة النهائية لتلك الجهود أن سمحت الإدارة الإيطالية بدخول البعثة المصرية، وخاصة بعد أن تأكدت من أن الأمور قد تتصاعد إلى الأسوأ، وتتابعت بعد ذلك البعثات المصرية والأزهرية وفتحت المدارس والمعاهد المصرية في الصومال، بالإضافة إلى فتح الجامعات والمعاهد المصرية أبوابها للطلاب الصوماليين، والسماح بدخولهم إلى الأراضي المصرية بدون وثائق سفر، وهذا ما شجَّع كثيرا من الشباب الصوماليين وطلبة العلم على  القيام بهجرات جماعية لطلب العلم إلى الأراضي المصرية([2]) .

الاحتلال  يلاحق الطلبة الصوماليين في القاهرة

أثار توجه الطلبة الصوماليين إلى القاهرة لاستكمال تعليمهم حفيظة الإدارة الإيطالية تحسبا للدور الثقافي الذي سيلعبه أولئك الطلاب بعد تخرجهم من الجامعات المصرية، لا سيما وأنها علمت أن عددا آخر منهم سافر إلى سوريا للدراسة في معاهدها وجامعاتها،  فبدأت القنصلية الإيطالية في كل من القاهرة ودمشق إثارة البلبلة في صفوف الطلاب الصوماليين، وإغرائهم بالمنح والتسهيلات إذا وافقوا  على السفر إلى روما وفرنسا والدول الأوروبية ، ومغادرة البلاد العربية، بغية قطع النخبة المثقفة في الصومال عن جذورها العربية، وقد قبل عدد من الطلاب بهذا العرض وسافروا دون علم أسرهم إلى روما وفرنسا.

ولما علم الأهالي بسفر أبنائهم إلى روما وفرنسا غضبوا من هذا التصرف، وتوجهوا بطلب إلى مندوب مصر في الصومال السيد كمال الدين صلاح، بغرض استعادة أبنائهم من أوروبا، وعدم شطب أسمائهم من الجامعات المصرية حتى يتسنى إعادتهم إلى جامعاتهم.

ومن الرسائل التي بعثها أولياء الأمور إلى المرحوم كمال الدين هذه الرسالة التي نقلها السيد أحمد بهاء الدين في كتابه”مؤامرة في إفريقيا ص 91، 92 (( السيد المحترم مندوب مصر في المجلس الاستشاري في الصومال… أنا والد الطالب عبد الحميد محمد حسن.. سمعت أن ابني الذي كان يدرس في مصر – كلية الحقوق بجامعة القاهرة، قد سافر إلى إيطاليا، وإنني أرى أنه أصبح فريسة لإغراءات بعض النفوس الشريرة  الذين لا يريدون له خيرا، وإنني ألتمس من سيادتكم  أن تسعى لدى المسؤولين في الحكومة المصرية، بأن لا تسمح له بسحب أوراقه قطعا، وأن يبقى اسمه في كشوف الطلبة ، ويكون طالبا نظاميا حتى يتمكن من أداء الامتحان، وأن يكون اعتذاري مقبولا وذلك لرغبتي الشديدة في أن يكمل تعليمه في مصر، وحتى لا تضيع كل مجهوداتي في تلك السنوات الطويلة الخمسة التي قضاها في مصر، كما أنني كأب أحرص على مستقبله، ولن أسمح له أن يتعلم في بلد لا يعرف ثقافته، ولا يجد الإخلاص والمحبة التي يجدها عند الأساتذة والشعب المصري، وإنني أتعهد بأن أرجعه إلى مصر كما أتعهد بأنه لن يعمل مثل هذا التصرف الصبياني بعدئذ، ولكم جزيل شكري واحترامي. والد الطالب  محمد حسن مرسي)25/12/1956م).[3]))

وفي دمشق طاردت القنصلية الإيطالية الستة عشر طالبا الذين وصلوا إلى هناك لاستكمال تعليمهم، وحرضتهم حتى عادوا إلى الصومال، ويروي كمال الدين في مذكراته أن أحد هؤلاء الطلبة ويدعى “شريف عثمان” سافر إلى فرنسا للدراسة في جامعة السوربون، إلا أنه اتصل بعد وصوله إلى السوربون بالطلبة العرب واشترك في نشاطاتهم ضد الاستعمار، فتم طرده من الجامعة وترحيله إلى الصومال([4])

تشكيل أول وزارة صومالية برآسة عبد الله عيسى

وفي عام 1956م تم تشكيل أول وزارة صومالية برئاسة عبد الله عيسى محمود، وكانت المفاجأة المثيرة خلو البيان الوزاري الأول من أي إشارة إلى مسألة اللغة الرسمية، إذ ضغطت الإدارة الإيطالية على المجلس الوزاري أن لا يتعرض في بيانه لهذه المسألة، على الرغم من أن دستور حزب وحدة الشباب الصومالي الذي شكل الحكومة وبرنامجه الانتخابي كانا ينصان على أن  العربية هي اللغة الرسمية للصومال وأنها لغة التعليم في المدارس، فأثار هذا الإهمال المتعمد لموضوع اللغة غضب الشعب وبعض السياسيين من داخل حزب وحدة الشباب الصومالي وخارجه، ومن أعضاء الجمعية التشريعية، فأخذت الحكومة تسترضي الثائرين وتهدئهم.  وكان من أبرز من علق عليها من أعضاء الجمعية النائب عبد الله مرسل  الذي أكد على  عدم وجود أي تعارض بين كون هذا الشعب صوماليا وبين أن تكون لغته الرسمية اللغة العربية، وأمثلة ذلك كثيرة كالسودانيين والمصرييين والمراكشيين والجزائريين ، ونفس الأمر بالنسبة لشعوب أمريكا اللاتينية التي اتخذت اللغة الإسبانية لغة رسمية، رغم أنها تتحدث بلهجات أخرى[5]))

وفيظل هذا الجو المشحون بالمؤامرات والصراعغير متكافئ الأطراف واصلت المدارس الوطنية المدعومة من الشعب صمودها، وانضمت إليها مدارس جديدة أسسها كل من حزب الجمعية الوطنية، وحزب الدستور المستقل، وحزب الاتحاد القومي، وحزب الرابطة الإسلامية. ثم تأسست  اللجنة الوطنية للثقافة والتعليم عام 1954م على يد بعض المثقفين والتجار للحفاظ على الثقافة العربية الإسلامية، وقامت بدورها بفتح مدارس عربية في المدن الكبرى ([6]),

ولعل التطور الأهم في حركة اللغة العربية وصمودها في هذه الحقبة يتمثل في صدور طلائع الصحف الصومالية باللغة العربية سواء في جنوب الصومال أو شماله وأهمها: جريدة حزب وحدة الشباب الصومالي، تأسست في 1958م،  وكانت توزع 3000 نسخة أسبوعيا، وجريدة الصومال الناطقة باللغة العربية لصاحبها محمد جامع أوردوح في الشمال، وكانت توزع 2500 نسخة أسبوعيا، وجريدة القرن الإفريقي الأسبوعية التي كان يصدرها حزب الرابطة الوطنية التقدمي، وكانت توزع 3600 نسخة أسبوعيا ، وجريدة الصراحة، وكانت توزع 2500 نسخة، وصحيفة اللواء([7])  .

وفي صدور تلك الصحف بالعربية دلالة واضحة على أن قطاعا عريضا من الشعب الصومالي في تلك الحقبة كان يفهم اللغة العربية، إذ ليس من الممكن أن تُصدِر أحزاب سياسية-تريد التأثير على الرأي العام- صُحفها بلغة لا يفهمها الشعب. ومما يؤكد على ذلك أن صحف الاحتلال ذاتها لم تخل من صفحات باللغة العربية، لتوصيل- أفكاره للشعب، واضطر كذلك إلى بث بعض برامج إذاعة هرجيسا في الشمال باللغة العربية  للترويج لأفكاره وتوصيلها إلى الشعب([8])ومن  بين الصحف التي أسسها الاحتلال والتي كانت تحتوي على بعض الصفحاب باللغة العربية جريدة بريد الصومال اليومية التي أسسها الاحتلال الإيطالي في 1927م، وجريدة Somalia courier  التي أسسها الاحتلال البريطاني في الشمال وكانت تصدر باللغات العربية والإيطالية والإنجليزية.  وجريدة حامل الأخبار التي أصدرها الاحتلال البريطاني 1953م وكانت تصدر باللغتين العربية والإنجليزية([9])

وخلاصة القول إن فترة الوصاية شكلت من أصعب المراحل التي مرت على تاريخ اللغة العربية في الصومال، فقد وجهت قوى الاحتلال جميع جهودها  إلى الجانب الثقافي لحسم مسألة اللغة الرسمية في الصومال فيما بعد الاستقلال، ، وكان أصعب عامل واجه اللغة العربية في هذه الحقبة نجاح الاحتلال في تشكيل نخبة سياسية صومالية مناوئة للعربية؛ بينما كان الصراع في الفترة السابقة بين ثقافة الاحتلال ولغاته من جهة،  والشعب الصومالي المدافع عن هويته العربية الإسلامية من جهة أخرى.

اغتيال السفير كمال الدين صلاح

شكلت عملية اغتيال السفير كمال الدين صلاح مندوب مصر في مجلس الوصاية أسوأ ضربة وجهت إلى الثقافة العربية الإسلامية في الصومال في فترة الوصاية، وقد سبق أن أشرنا إلى أن الإدارة الإيطالية والقوى الأجنبية بشكل عام كانوا متضايقين من مواقف السفير كمال الدين صلاح والعلاقة الحميمة التي تربطه بقادة الشعب الصومالي وزعماء أحزابه، حيث كانوا يترددون عليه كثيرا ويستشيرونه فيما يستجد عليهم، وقد رأينا فيما سيق دوره البارز في دعم الشعب الصومالي في الحفاظ على اللغة العربية والثقافة الإسلامية، وإيفاد البعثة المصرية، والحوارات الساخنة التي دارت بينه وبين أعضاء مجلس الوصاية والحاكم الإيطالي في هذا الشأن.

إنه يشكل عقبة كؤود أمام إيطاليا في مساعيها لاستثمار فترة الوصاية، فلا بد من التخلص منه بكل وسيلة ممكنة. وقد بدأت الخطوة الأولى بمحاولة إلغاء المجلس الاستشاري المؤلف من(مصر والفلبين وكولومبيا)، بدعوى أن للصومالجمعية تشريعية  ومجلسًا وزاريًا، وأن إيطاليا أصبحت عضوًا في الأمم المتحدة ويمكن محاسبتها فيما تصنعه في الصومال، فلا داعي إذن لوجود اللجنة الاستشارية في مقديشو، إلا أن تلك المحاولة باءت بالفشل، لأن الواقع كان على العكس مما زعموه، إذ لم تكن الجمعية التشريعية سوى هيكل صوري، فللحاكم الإيطالي القول النهائي في كل شيء، وله حق الاعتراض على أي قرار، ولا يمكن التقدم بمشروع قرار من أي عضو حتى يحصل على موافقة الحاحكم الإيطالي.

وبعد أن فشلت هذه الخطة حاولت الإدارة الإيطالية أن تؤلب يعض أنصارها الصوماليين ضد كمال الدين،فكتب أحد قادة الأحزاب الوهمية التي أسستها إيطاليا في الصومال لتنفيذ خططها- عريضة ضد كمال الدين صلاح تتهمه بأنه يتدخل في الشؤون الداخلية الصومالية وأنه يريد ضم الصومال إلى مصر، وقد أُرسلت العريضة إلى الأمم المتحدة وتم نشرها فورا في صحيفة نيويورك تايمس الأمريكية، ونشرت كذلك في الصحف البريطانية، إلا أنها فشلت بعد أن أصدرت الجبهة الوطنية للأحزاب الصومالية التي تنضوي تحتها  أغلب الأحزاب الصومالية الكبيرةعريضة ترد فيها على تلك المزاعم([10])

وبعد تلك المحاولات البائسة قررت الإدارة الإيطالية بتصفية كمال الدين جسديا، فهو لا يزال مستمرا حتى هذا الوقت في  اتصالاته بالأهالي، يزور المناطق والمدارس المتواضعة التي بناها الشعب هنا وهناك، ليستجلي احتياجاتها، ([11]).

وفي 17 مارس 1957م اغتيل السيد كمال الدين صلاح بخنجر مسموم في يد شاب صومالي، وفاضت روحه بعد وقت يسير من الحادث، وهنا انتهت قصة كفاح هذا الرجل من أجل تحرير الصومال، وحفاظه على هويته العربية الإسلامية، بعد صفحات من الصراع والكفاح المستمر في كافة الأصعدة، فرحم الله الشهيد كمال الدين صلاح ووسع له قبره.

 

المراجع 

[1] -أحمد بهاء الدين: مؤامرة في إفريقيا 100

[2] – نفس المصدر 86

[3] – مؤامرة في إفريقيا: نفس المصدر 103، 104

[4] نفس المصد ر 105

[5]– نفس المصدر 107

[6] –  محمد علي عبد الكريم وآخرون تاريخ التعليم في الصومال 77

[7]– -حسن مكي محمد السياسات الثقافية في الصومال الكبير، 110، و 151-152، وطاهر علي جامع : تحليل وتقويم كتب اللغة العربية وطاهر 22، واللغة العربية في الصومال 91  وثائق الندوة العلمية حول تقوية اللغة العربية في الصومال المنعقدة بمقديشو في 1986م. من الملفت للنظر أن الصحافة الصومالية بدأت في بداية أمرها باللغة العربية ثم انتكست يقول حسن مكي معبرا عن استغرابه” ومن المؤكد أن الناظر إلى حركة الصحافة الصومالية اليوم لا يكاد يصدق  أنها امتداد لصحافة الصومال في الخمسينات  حيث كان صحافة الخمسينات أشد عروبة وأكثر توزبعا وأفضل إخراجا 152

[8]  – ديرية ورسمة أبكر، تاريخ اللغة العربية في الصومال91، وثائق الندوة العلمية حول تقوية اللغة العربية في الصومال المنعدة في مقديشو 1986، وطاهر علي جامع: تحليل وتقويم كتب اللغة العربية 22

[9]– انظر السياسات الثقافية في الصومال الكبير: حسن مكي محمد 150- 152

[10]-أحمد بهاء الدين: مؤامرة في أفريقيا 148 وما بعدها

[11]– نقل السيد أحمد بهاء الدين في كتابه مؤامرة في إفريقيا بعض المذكرات والرسائل التي كتبها كمال الدين في تلك الفترة ، والتي كان يظهر فيها تفاؤله بأن الشعب الصومالي لا يزال مستمرا في كفاحه، ويتحدث عن أوضاع المدارس الوطنية ، انظر مؤامرة في إفريقيا 157 وما بعدها

أ. عمر محمد ورسمة

مسؤول قسم اللغة العربية للناطقين بغيرها مركز لغتي لتعليم اللغة العربية - الدوحة قطر
زر الذهاب إلى الأعلى