السلطان يوسف علي ومنطقة مجريتنيا…الحلم الذي كاد أن يتحقق (4-10)

سلطنة هوبيو

ترك يوسف على كينديد علولا في أبريل  ١٨٨٤ على متن ثماني سفن برفقة عدد من أفراد أسرته وأفراد من قبائل سواقرون وعوليهان ومهري، وعدد من اليمنيين(عساكر وبنائين)،  نحو هبيو التي كانت عبارة عن بئر ماء، محاط بكتل من الكثبان الرملية في مكان خال عن أي مظاهر للحياة ولا وجود عن أي مقومات للحياة البشرية غير الماء، وعند وصوله المنطقة جاء أهلها مندهشين  بهذا العدد من السفن غير المعتادة ومن على متنها، وعندما سألوا  عن حالهم ومن هم فرد عليهم يوسف أنهم تجار جاءوا يشترون ويبيعون وطلب منهم أن يأتون بما لديهم من بضائع وسوف يغادرون فور استكمال مهمتهم التجارية،  ولكنهم فوجئوا باليوم التالي وقد بدأ يوسف ببناء القلعة والبيوت، حينها تيقنو أن هؤلاء ليسوا تجارا بل غزاة،  يجب عليهم مقاومتهم و بدأوا يتجمعون لمقاتلته وطرده من منطقتهم وشنوا هجوما عليه لكن فارق القوة كان عاملا حاسما لصالح يوسف لامتلاكه أسلحة نارية بينما أصحاب الأرض يقاتلون بأسلحة بدائية. هكذا تغلب عليهم واخضعهم بقوة السلاح.

اختيار هبيو كان سياسي بالدرجة الأولى  كونها تقع خارج نفوذ ملك مجيرتينا ولا تسبب اى مشكله مع السلطان عثمان دون إغفال الأسباب الجغرافية والاقتصادية، وكذلك بموقعها الاستراتيجي حيث تقع في المربع نغالمدغجلجدودأوغادينيا وسيكون مينائها بديلا كلا من بربرة و بوساسو للبضائع الآتية من المناطق السالفة الذكر والسيطرة على الطرق التجارية التي تربط الداخل بالساحل، ونقاط التجمع والتوزيع القوافل التجارية، وكذلك قريبة من مجيرتينا ومحاطة من جهة الشمال والغرب عشيرة عمر محمود المنتمية لقبيلته. ومن ناحية أخر  يوسف على كان في سباق مع الزمن الزمن لأن هناك تحركات من بعض الشخصيات التي تسعي لضم هذه المنطقة(مدغجلجدود) لمناطق نفوذ سلطنة زنجبار وتحت سيادتها ومن العلوم أن سلطان زنجبار يساوم الأوروبيين بعدد المناطق التي تحت سيادته أو نفوذه لبيعها أو إيجارها وهناك قول مشهور ينسب لسلطان زنجباركثير وكبيريعني أن أراضيه كثيرة وكبيرة. ومن هذه الشخصيات مؤمن أويس صاحب قرية عيل هور (٢٦ ميلا جنوب هبيو) تاجر ميسور  من قبيلة ابقال له علاقة وصداقة بسلطان زنجبار وكان طموحا ولكن كانت تنقصه الشجاعة والمغامرة،  وحاول فعل ما فعله يوسف في وقت لاحق في هبيو، إقامة إمارة في عيل هور،  وذهب إلى زنجبار لطلب المساعدة السياسية والعسكرية، ونظرا للظروف الصعبة التي كانت سلطنة زنجبار غارقة في هذه الفترة، لم تستطع اسعافه او تلبية طلبه،  فلما جاء يوسف إلى هبيو رأي في مؤمن منافسا محتملا ولم يرتاح وجوده بجواره. ومن الطبيعي أن يغيب أحدهما عن المنطقة لعدم اتساع المنطقة بسلطتين متنافستين،  يوسف الاقوي والاشجع بادر بالهجوم عليه. أرسل قائده حاج فارح الي عيل هور لاستيلائها وطرده منها. واستولى حاج فارح على المدينة بسهولة واستطاع أسر مؤمن، وأجبره أن يرحل عن القرية بعد تعهده أن لا يعود إليها. فر مؤمن أويس إلى زنجبار ومن ثم الى مقديشو حيث تمكن جمع قوة كبيرة من القبائل هوية تسانده قوة من العساكر الزنجبارية في بنادر، (وذلك قبل تخلى سلطان زنجبار مواني بنادر لصالح إيطاليا)، وتمكن مؤمن استعادتها من حاج فارح بدون مقاومة تذكر. وبعد فترة قصيرة كر حاج فارح على مؤمن أويس بقوة كبيرة مؤلفة من عدة أطراف من قبيلة دارود وكانت عمر محمود عمودها الفقري واستطاع هزيمة مؤمن وقواته بشكل ساحق لم يستطع مؤمن بعدها القيام بأي محاولة أخرى لاسترجاع القرية. قرية عيل هور لها رمزية سياسية كونها المنطقة الوحيدة بين مقديشو ومجيرتينيا المأهولة بالسكان ولها مباني حجرية خارج مناطق نفوذ القوى الإقليمية. ولذلك سعى يوسف للاستيلاء عليه والقضاء على مؤمن أويس ولقطع الطريق أمام أي محاولة من منافسين محتملين آخرين.

 وقد وصف     Robechi Brichetti هبيو بقولههبيو ليست مدينة ولا نصف مدينة ولا حتى قرية هبيو هي عبارة عن خريطة جغرافية وسياسية قُررت وعُززت من قبل الجرئ والعاقل يوسف علي الذي استطاع اقامة مؤسسة سياسية في منطقة صحراوية نائية. انتهي.

 أنشأ يوسف هناك سلطة مستقلة لها قوة عسكرية منظمة وقوية مزودة بأسلحة نارية، ووضع نظام سياسي مركزي قوي معتمدا على شخصيته وما يتمتع من قوة وقدرة وكفاءة ذاتية في مراحله الأولى، وفي مرحلة لاحقة عندما أثبت أركان سلطنته ودانت له معظم القبائل  بدأ يعتمد على هياكل مؤسساتية. و لتيسير شؤون السلطنة كان يعتمد علي جهاز إداري مركزي بسيط يقوم عليه مجموعة محدودة من المستشارين والمساعدين والقواد، وطور هيكلا إداريا من مؤسسات عسكرية وقضائية ذا كفاءة مقبولة يمزج التقاليد المحلية بالتقنيات الحديثة، واستقطب نخبة ذات انتماء قبلي وخلفيات فكرية دينية وثقافية مختلفة، وأنشأ قاعدة اقتصادية متينة. ولأحكام السيطرة والمحافظة على ملكه وتوسيع نطاقها وتعزيز هيبته وقوته في الساحة الداخلية سلك سياسة توسعية وإخضاع البدو وفرض الأمن في الطرق، وبدأ يسيطر رويدا رويدا على المناطق الجنوبية والغربية التي تقطنها قبائل هوية ومريحان. ومن أجل تقوية سلطنته  وإعطائها شرعية دينية اعتمد على تبني وتكييف القضاء الإسلامي دون أن يهمل بتكييف ممارسات مستلهمة من النماذج القبلية.

حاول يوسف جعل هبيو سُرَّة دولة مترامية الأطراف تستمد شرعيتها أساسا من القوة العسكرية، وكانت البيئة السياسية تقوم على السيطرة التحالفية وعلي التوزيع الأفقي وضمان ولاء الجميع اتبع سياسة التوازنات وهي أحكام القبض على الفئات الضعيفة بالقوة الردعية واستمالة التي تتطلب السيطرة عليها تكلفة عالية والتحالف مع الفئات القوية. وكان عليه مواجهة مشاكل وتعقيدات كبيرة على كافة الأصعدة فقد كان جزء كبيرا من المنطقة يعج بالفوضى والتناحر والانقسام وغياب الأمن في الطرق التجارية، وغياب وجود أي نوع من الحكومة وكانت أغلب المناطق تحت نظر الزعماء القبليين المحليين وعرضة لابتزاز القبائل. لقد استغل يوسف هذا الوضع الفوضوي وحسم لصالحه بتفوقه العسكري واحتل جميع النقاط الاستراتيجية كآبار المياه وطرق قوافل التجارية، ومن أجل إمضاء مشروعه واعطائه شرعية دولية وضع نفسه تحت حماية إيطاليا، اختياره إيطاليا لم يكن من قبيل الصدفة لكن بعلم وحسن اختيار ناجم عن قراءة جيدا للوضع الدولي والإقليمي واستيعاب جيد القواعد المعقدة للعبة السياسية الدولية والاقليمية وعرف أن إيطاليا أضعف حلقة في القوى الاستعمارية التي تتنافس في المنطقة، ولا تتدخل في شؤونه الداخلية وتوفر له السلاح والمال وغطاء دولي وتحمي عن التدخلات الخارجية وتأمين سفنه التجارية في البحر. ويقول Robechi Brichetti: لقد فهم يوسف أنه وحده بدون دعم لا يستطيع الاستيلاء على المناطق الداخلية والاستمرار بالتفوق وفرض سيادته عليها، من الواضح انه ادرك رغم انه لا يقرأ الجرائد ولا يعرف القراءة احتياجات الأوروبيين في استيلاء على أفريقيا ووظفها لصالحه. ووضع نفسه تحت تصرف إيطاليا طواعية التي بدورها رحبته تحت حمايتها، لكن إيطاليا بعيدة ويوسف ازداد هيبة وسلطة تحت حماية إيطاليا، ولذلك يهدم ويبني حسب هواه، وله بذلك موهبة. انتهى.

كما أشرنا أعلاه أن القوة العسكرية والتحالفات والمصاهرات السياسية كانت من الركائز الأساسية التي يقوم عليها النظام الجديد في هبيو حيث تلعب الزيجات السياسية دورا حيويا في إثراء الحياة الاجتماعية وإرساء دعائم السلام كما أنها تقوم بدور الوسيط بين القبيلة والنظام وليس لها دور مباشر في اتخاذ القرار ولكن يمكن لها أن تؤثر على النظام في قراراته. لجأ يوسف في بداية سلطنته وفي حالات الضعف إلى القبيلة وتقاليدها. وفي عام ١٨٩٩ عقد يوسف اتفاق الصلح والتحاف مع عشيرةعمر محمود القاطنة في منطقة مدغوبني قلعة في ميناء غرعد ومنطقة غالكعيو، لخلق التوازن بين النظام والقبيلة واعتماده عليها لحماية سلطنته من الشمال والشرق وجَعْلهم حزام الأمان بينه وبين الدراويش، وتُوِّج هذا الحلف بزواج بنت زعيمعمر محموداسلان آدم من يوسف على، وفي عام ١٩٠٠ وقع اتفاق مماثل مع قبيلة مريحان المنتمية الي قبيلة دارود التي تقطن مع قبيلة عير(هبرغذرالهوية) في منطقة غلغدود نتج عنها سيطرة يوسف مدينة طوسمريب، وفي عام ١٩٠١ سيطر عيل بور التابعة لقبيلة مرسدي الهوية وهي حلقة الوصل بين مرسدي وعير، وكذلك إستطاع يوسف جذب قبيلة اوغادينية الي صفوفه مستفيدا من تذمرهم من السيد محمد عبدالله حسن وتصرفاته القاسية تجاههم في واقعة غندغوي(Gondagooye)

أما المناطق الساحلية في الجنوب  استخدام العنف والقوة الردعية في البداية ومن ثم سياسة الاحتواء والاغراء بإشراك وضم عدد من وجهاء قبيلة هوية خاصة سعد (فخذ من قبيلة هبرغذر) صاحبة الأرض في النظام وتولوا مناصب عليا في السلطنة، كما وفي كل مرة يرى صعوبة المواجهة العسكرية وتكلفتها لم تغب عن سياسة يوسف اللجوء إلى الزيجات السياسية والتحالفات الأفقية والغرض منها توسيع مناطق السيطرة وفرض سيادته على جميع الأقاليم خاصة حول عاصمة السلطنة والحد من نشوء معارضة مسلحة مكلفة، فقد تزوج حاج احمد ليبان من وجهاءقبيلةسعدهبرغذر من اخت السلطان يوسف وأصبح نائب السلطان في عيل هور اولا ثم حرطيري لاحقا، وكذلك تزوج علي شرماركي اخو الحاج عثمان شرماركي امرأة من  (reer nimcaale (sacad-havargidir. في كسبه ولاء قبيلة سعد هبرغذر فقد كسب ولاء أكثر المكونات الهوية ثراء وقوة في السلطنة وامَّن  الساحل الجنوبي ومنافذها البحرية وأصبحت قبيلةسعدهبرغذر الخيط الذي يربط السلطان بقبائل الهوية وخط الدفاع عن الحد الجنوبي في السلطنة. وفي ١٩٠٢ حاول سيطرة أراضي قبيلة وعيسلي(ابغالهوية) لكن إيطاليا منعته كونها داخلة ضمن أراضي تحت سيادة إيطاليا التابعة لحكومة بنادر.

خالد إبراهيم

باحث في تاريخ الصومال
زر الذهاب إلى الأعلى