عباقرة لهم أصول في منقطة القرن الإفريقي (52) إبراهيم حاشي محمود (5)

إبراهيم حاشي محمود (5)

كفاح مستمر لم يتوقف رغم كل المضايقات والمطبات والظروف السيئة التي كان يتعرض لها الشيخ إبراهيم حاشي محمود منذ قدومه  إلى أرض الوطن في أواخر الخمسينات وحتى وفاته في منتصف السبعينات، ولمن يقرأ كتابه ” كفاح الحياة”  والذي ترجم فيه عن نفسه ومحيطه السياسي والثقافي والاجتماعي والصحي يحسّ بأن الرجل كان أمة في قالب فرد واحد لا يهدأ ولا يستكين حتى يتحقق حلمه على أرض الواقع، ودائماً كان يحلم بأن يرى أجزاء الصومال الكبير تحت سقف واحد، يرفرف فيها علم واحد ذو خمسة نجوم، ويكون أهله بلحمة واحدة بعد أن قسمهم الاستعمار إلى كنتونات ظلماً وحقداً، ولمن يتعمق في خطاباته الحماسية وكتاباته المتنوعة لاسيما تلك المقالات ذات الصبغة الثورية يستشف بأن صاحبنا – رحمه الله– م=كان يرى ضرورة وحدة القارة الإفريقية فضلاً عن وحدة بلاد الصومال، رغم أن أغلب الدول الإفريقية لم تنل حريتها واستقلالها من الاستعمار الأوربي، مثله مثل الأديب المبدع الصومالي السيد محمد إبراهيم ورسمة المشهور بهدراوي الذي كان يرى بوحدة القارة الإفريقية على غرار ما كانيحلم بهالزعيم الغاني الرئيس الدكتور كوامي نكروما، من مؤسسي منظمة الوحدة ، بل كان ينادي كثيراً بالوحدة الإفريقية منذ بداية الستينات، ومن هنا فلا يستغرب أن يساند أدبنا الصومالي وبعض دروبه إلى الحرية والاستقلال للقارة الإفريقية ووحدة أراضيها، بل ومن العجيب أن أهل الصومال كانوا ينادون بالحرية لافريقيا قبل أن تنال الصومال الحرية، وقد اشترك الشيخ إبراهيم محمود في المهرجان الكبير الذي أقيم في ساحة التضامن الإفريقي بمقديشو يوم 18 أبريل عام 1959م بمناسبة ذكرى يوم الحرية لافريقيا الذي أعلن في اكرا عام 1958م، وتحدث في هذه المناسبة الكبيرة بعض الشباب،  وبعض المسؤولين الصوماليين. ولم يكن الشيخ إبراهيم مجرد شخص مشارك عادي يرفع لافتات وشعارات تافهة وأعلام يلوح يمناً ويساراً، بل كان مراقباً لهذا المهرجان الكبير، ومن هنا أحسّ أن بعض المرتزقة من أهلنا أرادوا تحويل هدف المهرجان، وبدلاً من تنديد الاستعمار الأوربي قاموا يهاجمون العرب، ويصفونهم بأنهم كانوا يتاجرون بالرقيق الافريقي، ويبيعونهم في السوق السوداء في أروبا، وآسيا، بل الأمر وصل بأنقال بعضهم: “إن هناك أناساً ينتسبون إلى العرب، وليسوا من العرب..”، ولم يستحس الشيخ إبراهيم أن يكون متفرجاً بما يجري في الساحة، بل وعلق على هذه الأحاديث، وقد كان موجودا في المهرجان – كما ذكرنا –ويسمع هذه الخطب فعلق عليها بقوله: ” كان من المفروض أن يتحدث المتحدثون عن مشاكل افريقيا وآلامها وأمالها وعن الوسائل التي تكفل تحريرها نهائياً من الاستعمار، وأن يستعرضوا الشعوب الافريقية التي تحررت والتضحيات البطولية التي بذلها لنيل حريتها لتكون عبرة لمن لم يتحرر بعد، ومن هذه الدول مصر، والسودان، وليبيا، وتونس، ومراكش، وغانا، فهل فعل الخطباء شيئاً من ذلك؟..” واستمر الشيخ إبراهيمفي التعبير عن استياءه وانتقاذه لما جرى، بل ولم يخف بأنّه يحزن على هؤلاء، وقال: ” إن من المؤسف أنه كان من بين المتحدثين في المهرجان شخصيات سياسية من الذين يتولون رسم السياسة الصومالية، وأضاف أنك تدهش إذا عرفت أن ضيف الشرف في الحفل كان القنصل الحبشي بمقديشو الذي حضر الحفل من بدايته لنهايه بدعوة شخصية وجهت إليه، ولم توجه إلى البعثات الافريقية الأخرى لانه قنصل دولة افريقية سوداء تجاورنا، ومن العجب أنه حدث ذلك في وقت لم يمض على مذبحة قبر دهري التي راح ضحيتها مجموعة من أهلنا، وقد تساءل الشيخ إبراهيم فهل صحيح أننا قوم لا نعرف ما نريد؟، رحم الله االشيخ إبراهيم حاشي ( فما أشبه الليل بالباحة) ، وكأنه يوصف وضع بلاد الصومال في عصرنا الحاضر.ولكن الشيخ إبراهيم كان أحسن وأكثر حماساً من كثير من المثثقين وحملة الشهادات العليا، بحيث لم يقف إلى هذا الحد، بل كتب مقالاً معروفاً في أوساط الساحة السياسية في تلك الفترة بعنوان” يوم حرية أم يوم استعمار” وقد أثار هذا المقال ضجة كبيرة في أوساط الشباب الصومالي الذين تولوا تنظيم المهرجان،  وقالوا: إن العنوان يتسم بطابع السخرية اللاذعة، وعدم الرضاء للتحرر الافريقي، فتصدى لرد هذا المقال أكثر من واحد، ولكنها كانت ردود لم تستوف عناصر الرد الصحيح.. فمثلاً كتب السيد حسين نور علمي الذي تولى رئاسة لجنة النتظيم في المهرجان في جريدة بريد الصومال مقالاً بالايطالية ترجم إلى العربية هاجم فيها الشيخ إبراهيم بألفاظ،  وعبارات نابية أبعد ما تكون من أسلوب الرجل المتحشم… مثل كلمات: جاهل، كاذب ، موهوم وغيرها… .  كما رد عليه السيد عبد الرحمن عبد الله در( طوبي) بمثل هذه الردود تقريبا في جريدة اللواء بعددها 13، في يوليو عام 1959م.. وبعد تتابع هذه الردود على مقال الشيخ إبراهيم حاشي كتب الشيخ مقالاً آخر في جريدة اللواء يرد فيه بالجملة على ما كتبوا ومما استخدموا من ألفاظ غير لائقة، فقال انهم بردهم عليّ يفتحون عليهم أبواباً تدخل  عليهم منها ريح تعصفهم عصفاً…. ثم قال: ” إن فكرة إفريقيا للإفريقيين فكرة طيبة في حد ذاتها، و لكنها للاسف استخدمت في الفترة الأخيرة لاغراض استعمارية قد لا تبدو للسذج من أول وهلة ، كما ينبغي أن نلفت الأنظار إلى أن إفريقيا ليست لجنس دون جنس من سكانها، ومضى فقال: إن إفريقيا ليست للسود فقط، أو للزنوج فقط، أو للمسلمين أو لغيرهم، وإنما هي وطن لشعوب متعددة بثقافات مختلفة تجمعها فقط وحدة الوطن.. إننا نريد بناء القومية الصومالية أولاً ، ثم بالتالي نبنى القومية الإفريقية، نريد بناء من الأساس لا من القمة…” . والشيخ إبراهيم بمقالته هذه ذكر بأن الصومالي  الوطني يجب عليه أن ينادي أولاً بتحرير الأقسام الصومالية كلها وتوحيدها تحت علم واحد، ثم ينادي ثانياً بتحرير الشعوب الإفريقية كلها من الاستعمار، وتوحيدها. وقد شدد بالتوضيح  والتبيين بأنّه لا يمكن أن يرفع شعار إفريقيا الواحدة وفي الوقت نفسه هناك دولة إفريقية تقوم باستعمار أجزاء كبيرة من أراضي إفريقية أخرى ، ويقصد بذلك دولة الحبشة التي تستعمر_ وما زالت تسيطر – علىأجزاء من الأراضي الصومالية العزيزة.

وهذا النهج الثوري الذي خطى به الشيخ إبراهيم حاشي محمود قد جلبت له مشاكل متعددة في حياته ومستقبله المعيشي، وقد تلقى أكثر من مرة التهديد والقتل أو السجن، أو إساءة سمعته، ومن المؤسف أن كل هذه التصرفات البعيدة عن الأخلاق والإنسانية لم تكن فقط من قبل الدول الأجنبية وعلى رأسها الحبشة عبر قنصلتها في مقديشوفحسب، وإنما أشار الشيخ أنها كانتتأتيمن قبل من كان يستخدمه الاستعمار الأروبي من أبناء الصومال والتي سماها الشيبخ بالمنظمات القبلية السرية التي كانت تعمل لحساب القناصل الأجنبية، وهنا نذكر محاولة واحدة  من تلك المحاولات التي استهدفت هذا الجندي العالم الصومالي الذي كان يكافح وينافح لأجل الاستقلال من الاستعمار وأفكاره وثقافته عبر وسائل سلمية من الكتابة والخطابة، ولكن من الأسف الشديد أدت هذه المحاولات والضغوط إلى طرد الشيخ من عمله الذي كان يعتمد عليه بعد الله سبحانه وتعالى على حياته ومعيشته، بسبب نشاطاته الثقافية وتنديده لأفكار المستعمر ليس إلا.. وذكر الشيخ: ” بأن المنظمات السرية اتصلت إلى أحد العمال في محل عملي، وأمرته بأن يراقب حركاتي،  وأعمالي، وأن يلفق على معلومات مدسوسة بغية ابعادي من عملي، وأن يبلغ ذلك كله أولاً بأول إليها، وإلى البوليس، فكان المذكور يبلغ إلى هذه الجهات أخباراً ومعلومات مزيفة لا أساس لها من الصحة، وكان المذكور يقوم باستمرار بأعمال أخرى تضر بمصلحة المؤتمر ( أي المؤتمر الإسلامي الذي كان يعمل الشيخ )،  والقصد منها معارضتي،  وإخراجي من عملي في المؤتمر بأي وسيلة، فلما كلمته فيها قال: إنك تريد طردي من العمل لأسباب قبلية ، ويقول نفس الشيئ للمنظمات المذكورة.. ” ، وفي الأخير دبروا للشيخ مؤامرة سياسية نظمت لتوجيه تهمة محاولة قلب نظام الحكم في البلاد عن طريق الاتصال ببلاد أجنبية، فقد كتب شخص على لسان الشيخ خطاباً مدسوساً عليه إلى السيد السكرتير العام المساعد للمؤتمر الإسلامي بالقاهرة، وهذه الرسالة كتب ما يلي: ” إن الاستعمار وأذنابه لفى فزع وأنهم قلقون لمصيرهم المظلم بعد أن قام حزب وحدة صوماليا الكبرى برياسة الزعيم الوطني الكبير الحاج محمد حسين، وأن حزب وحدة الشباب الصومالي قد انتهى دوره السياسي إلى الأبد، وسوف لا يبقى الحكومة الحاضرة في الحكم وقتاً طويلاً ، وسأوافيكم تفاصيل الأخبار في أقرب وقت ممكن .” كتبوا هذه الورقة  ووقعوا باسم الشيخ، ثم أخذوا إلى المباحث العامة التي أرسلتها بدورها إلى الجهات العليا في الحكومة دون التحقيق بأمرها ثم إلى السيد رئيس الجمعية التشريعية، فإلى اللجنة المركزية لحزب وحدة الشباب الصومالي… وقد أفضى الأمر إلى استدعائه ولكنه سرعان ما ظهر كذب ما ألصق بالشيخ وبراءته وأنها لمؤامرة دنئينة افتضحت، وانتهت إلى لا شئ بفضل الله ورحمته.

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى