الفيدرالية الصومالية: ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب !

استبشرت الأوساط النخبوية في الصومال عندما طرح مشروع الفيدرالية كنظام للحكم في البلاد، وتم تصوير المشروع على أنه بوابة إلى الديمقراطية والحكم الرشيد في البلاد التي عانت سنوات طويلة من حكم الحزب الواحد ذي الخلفية العسكرية والقبضة الحديدية للحكومة المركزية. ويرجع أصل مشروع الفيدرالية إلى مخاوف قبلية غريزية من عودة الحكم التسلطي، الذي انهار في بداية التسعينيات ولم يكن مشروعا مبنيا على حاجة مدروسة إلى هذا النظام من الحكم يعبر عن ظروف موضوعية.

وبعد مرور أكثر من خمسة عشر عاما على طرح مشروع الفيدرالية، فإنه لا يزال الشغل الشاغل للأوساط السياسية،على الرغم من عدم الاهتداء بعد الى نموذج فيدرالي يمكن تطبيقه على الصومال كنظام للحكم، ويتوزع دعاة الفيدرالية الصوماليون بين النماذج السويسرية والأمريكية والإثيوبية والإماراتية والبرازيلية والنيجيرية والماليزية وكل ما يخطر بالبال من الدول والأمم، في مشهد أقرب الى المخيال الجامح أكثر منه الى الطرح العقلاني أو التصور السياسي الممكن.

وعلي الرغم من الرنة الجميلة لمشروع الفيدرالية، الا أن محور هذا المشروع انتهي الى ” الفيدرالية القبائلية” أي الى كيانات قبلية صريحة لا تختلف عما كانت عليه الأوضاع قبل الاستقلال، بحيث أن كل قبيلة تدعي ملكية مساحة من الأراضي ترعي فيها مواشيها ويحكمها شيخ عشيرة واحد أو أكثر، يستمد نفوذه العسكري والأدبي من أبناء قبيلته، على أن يكون لها حق الانتشار والتحرك في أراضي القبائل الأخرى بشكل ودي.

ونسي دعاة الفيدرالية أو يتناسون بأن هذا الوضع كان مناسبا لأجدادنا (الذين كانوا بطبيعة الحال أكثر حكمة ورجولة من سياسينا اليوم .. وهذا له قصة أخري) ولم يعد يناسب دولة عصرية مهما يكون حجمها أو عدد سكانها، وسواء كانت في العالم المتقدم جدا أو المتخلف جدا.

ليس لي موقف ضد أو مع النظام الفيدرالي، ولكنني أنظر الي الأمور من زاوية رئيسية ومهمة، وهي:هل تحقق الفيدرالية الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية أو السياسية في الصومال، هل تساهم في تعزيز الوحدة والديمقراطية والحكم الرشيد في البلاد؟ بالطبع لا .. فالفيدرالية في نسختها الصومالية تساهم في تعميق المشكلة الصومالية وستفرخ مشكلات ونزاعات أخري بين الصوماليين في المستقبل.

وهناك أسئلة مشروعة لم يحاول أي من دعاة الفيدرالية الإجابة عنها وهي: هل الفيدرالية بصيغتها القبائلية الحالية إجبارية أم اختيار شعبي؟ من يحدد عدد الأقاليم الفيدرالية؟ من سيرسم الحدود بين الأقاليم؟ من يحدد تداخل العلاقات السياسية والأمنية والإدارية بين الأقاليم الفيدرالية والحكومة المركزية؟ من يدير العلاقات مع دول الخارج وتحديدا دول الجوار؟ الحكومة المركزية أم الأقاليم؟ من يكون مسؤولا عن حماية الحدود، وكذلك إدارة المعابر التي هي بمثابة الحدود، مثل الموانئ والمطارات؟ من يكون مسؤولا عن الطرق والمواقع السيادية؟ من سيكون مسؤولا عن سياسات التعليم؟ … الخ

.. هذه الأسئلة وغيرها هي من الأشياء المسكوت عنها حاليا، وهي بمثابة ألغام ستنفجر على الجميع واحدة تلو الأخرى، ومع ذلك فهي غائبة حاليا عن التداول في المؤتمرات والاجتماعات التي تعقد في الداخل والخارج حول مشروع الفيدرالية الصومالية.

إن مشروع الفيدرالية الذي لا يزال في مراحله الأولي حاليا هو الذي يسمم العلاقة بين قادة الحكومة المركزية وبعض حكام الأقاليم، بحيث وصلت الأمور الي أوضاع سياسية في غاية السوء، وتراشق بالتصريحات خارج عن الأدب واللياقة ما استدعي أحيانا أن تكون هناك وساطات خارجية بين الطرفين، لم تخل من لي للأذرع وإملاءات من هنا وهناك.

ويظهر من بعض مواقف قادة إقليمي بونت لاند وجوبا انهم في حالة تمرد علنية ضد الحكومة المركزية في مقديشو، وهذا الأمر يرجع إلى أسباب عدة لكن النعرة القبلية المغلفة بالمطالب السياسية المشروعة وغير المشروعة هي الغالبة على هذه المواقف. وهذه المواقف المتمردة لن تكون قاصرة على هذين الإقليمين، وإنما في نظري سيكون هناك تبادل للمواقع بين حكام الأقاليم في الموقف تجاه الحكومة المركزية.

على سبيل المثال الرئيس الحالي ينتمي الي قبيلة الـ”هويا”، وكل من السيد عبد الولي جاس، رئيس إقليم بونت لاند، والسيد أحمد مدوبي رئيس إقليم جوبا لاند ينتميان الي قبيلة الـ”دارود”، وبناء عليه فإن المزايدات السياسية من الإقليمين علي الحكومة المركزية سيكون علي أشده في حال وجود رئيس من الهويافي رئاسة الدولة.

ولكن إذا حدث العكس، وجاء رئيس من قبيلة الدارود إلى الحكم، فإن العلاقة مع بونت لاند وجوبا لاند ستكون بردا وسلاما، وسيرفع إقليماجلمدغ وهيران/شبيلي (وهما من قبيلة الهويا) لواء التمرد من جديد، وربما إقليم جنوب غرب بدرجة أقل تبعا لظروف التحالفات في حينه علما بأن قادة إقليم جنوب غرب يعتبرون بطريقة أو بأخرى حلفاء لقبيلة الهويا مع تحفظي الشديد على هذا التعميم.

وقد تكون القصة مختلفة في حالة مجيء رئيس من قبلية الدجل والمرفلي ، أو من الدر ، أو من القبيلة الخامسة، وهو سيكون سابقة سياسية في الصومال، إذ أن منصبي رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء كانا حكرا علي قبليتي الداوردوالهويا منذ الاستقلال وحتي الآن، ويبدو ان هذا العرف الرديء سيستمر الي أن تكون هناك معطيات جديدة في البلاد سواء على الصعيد السياسي أو العسكري ، أو الديمقراطي.

إن مشروع الفيدرالية الصومالية بنسخته الحالية لا يصب في صالح الدولة الصومالية، وإنما يصب في مصالح دول الجوار التي تريد أن يعود الصوماليون الي وضعية رعاة الإبل قديما، وإلهائهم بقضايا تافهة حتى لا يكون لهم تأثير في مجريات الأمور السياسية والاقتصادية والأمنية في المنطقة، وأعتقد أن دعاتها لن يجنوا من اللهاث وراءها الا قبض الريح، أما نحن غالبية الشعب الصومالي فيكون نصيبنا مزيدا من الألغام الفيدرالية المتفجرة التي ستكون الانفجارات المحسوسة حاليا في البلاد مجرد لعب عيال… والأيام بيننا.

على حلنى

صحفي صومالي يعمل ويقيم في مقديشو، ورئيس نقابة الصحفيين الصوماليين، عضو المكتب الدائم لاتحاد الصحفيين العرب، يعمل حاليا مراسلا لتلفزيون وراديو ال بي بي سي عربي.
زر الذهاب إلى الأعلى