أوضاع اللغة العربية في الصومال (2)

قراءة تاريخية لعوامل الازدهار والانحسار(2)

تناولنا في الحلقة السابقة نبذة عن تاريخ اللغة العربية في المنطقة الصومالية ما قبل الإسلام  ثم  عوامل ازدهارها في المنطقة بعد اعتناق سكان المنطقة الدين الإسلامي منذ المائة الأولى للهجرة.  وما  أدت تلك العوامل  إلى ازدهار اللغة العربية في المنطقة، حيث أصبحت لغة العلم والمعرفةوالمراسلات السياسية([1]). وممن شهد على ازدهار اللغة العربية في الصومال  في تلك المرحلة الرَّحالة العربي  أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي المعروف بابن بطوطة([2]الذي زار الصومال في القرن الثامن الهجري، يقول عن سلطان مقديشو ”  وسلطان مقديشو يقولون له الشيخ، واسمه أبو بكر بن الشيخ عمر، وكلامه بالمقدشي ويعرف اللسان العربي” ثم يقول “… سلمت عليه مع القاضي فرحب بي وتكلم بلسانهم مع القاضي ثم قال باللسان العربي: قدمت خير مقدم وشرفت بلادنا وآنستنا”ثم تحدث عن طلاب العلم ودار الضيافة، ودور خاصة بطلبة العلم يقوم برعايتها الشيخ وهو حاكم المدينة([3]).

وتكملة لجوانب ازدهار العربية في تلك المرحلة، نستعرض في هذه الحلقة المجالات التي استخدمت فيها العربية في المنطقة الصومالية، في تلك الفترة الممتدة من انتشار الإسلام وقيام السلطنات الإسلامية إلى وصول الاحتلال الأوروبي للمنطقة في نهاية القرن التاسع عشر، وأهمها ما يأتي:

1- مجال التعليم:  حيث كانت العربية لغة التعليم الوحيدة في المنطقة الصومالية،  وكانت الكتاتيب أولى مراحل هذا التعليم حيث يبدأ الطالب رحلته التعليمية من تعلم التهجي والكتابة والقرآءة وحفظ القرآن الكريم، ثم ينتقل إلى دراسة العلوم الشرعية والعربية، فيبدأ أولا بالمختصرات ثم الكتب المتوسطة فالألفيات والمطولات في كل فن،  وظلّ التعليم العربي منتعشا على امتداد تلك الفترة منذ انتشار الإسلام وحتى العقد السابع من القرن التاسع عشر،  ليس في الحواضر فحسب، بل في عمق البوادي والأرياف البعيدة عن الساحل،  حيث أنشئت فيها مراكز علمية ثابتة يدرّس فيها  فنون الشريعة وعلوم العربية وفنونها المختلفة كالنحو والصرف والعروض والبلاغة والأدب تحت ظلال الأشجار. وقد أصبحت تلك المراكز مع مرور الزمن قبلة لطلاب العلم من الداخل والخارج، ونبغ علماء الصومال في علوم العربية وفنون التراث الإسلامي فساهموا في التأليف حول فنون العربية وفروع التراث الإسلامي، كما وضعوا شروحا مفيدة في بعض مؤلفات اللغة العربية والشريعة الإسلامية. ومن أشهر المراكز العلمية التي نشأت وازدهرت في ظل الحضارة العربية الإسلامية في الصومال، وكان لها دور بارز في الحركة العلمية: هرر([4]) ومقديشو([5]) ومركا([6]) وبراوة([7]) وزيلع([8]) وورشيخ([9])،

2- مجال القضاء: إذ كانت الشريعة الإسلامية أساس التشريع في المنطقة الصومالية، وكانت كل الوثائق  كعقود البيع والشراء  والملكية والنكاح وقضايا الأسرة ونحوها تحرر باللغة العربية([10]) ، ويتوقع أن استخدام العربية في مجال القضاء قد بدأ منذ القرن الرابع الهجري حين قامت طلائع السلطنات الإسلامية في المنطقة، وقد ظلت كذلك حتى تدوين اللغة الصومالية بالحرف اللاتيني واعتماد اللغة الصومالية لغة رسمية للصومال عام 1972م.([11])

3- التأليف: وقد كانت اللغة العربية  اللغة الوحيدة للتأليف في المنطقة الصومالية، وقد ساهم علماء الصومال في التأليف حول فنون التراث الإسلامي المختلفة كالفقه والتفسير والحديث والنحو والصرف والبلاغة، كما وضعوا شروحا مفيدة لبعض مصادر العربية([12])

4– توثيق المعاملات التجارية: وقد كانت العربية اللغة الوحيدة لتوثيق المبيعات والسلع التجارية والصادرات  والواردات، و كذا الديون والعقود، وكافة المعاملات التجارية([13])

5-المراسلات غير الرسمية:  نقصد بالمراسلات غير الرسمية الرسائل التي يتبادلها الأصدقاء وأفراد الأسر والأقارب في المناسبات المختلفة، وقد كانت العربية اللغة الوحيدة في هذا الميدان قبل تدوين اللغة الصومالية في عام 1972م، لاسيما  في الحواضر والمدن الكبيرة، وكان يقوم بكتابة الرسائل غالبا شخص متخصص من أبناء الأسرة، فإن لم يوجد فمن الجيران أو البلدة أو الحيّ،  ومهمته قراءة الرسالة الواردة وترجمتها للمستلم إذا لم يكن من الطبقة المتعلمة التي تفهم اللغة العربية،ثم كتابة الردّ عليها، وقد تطور ذلك الإجراء في بعض المناطق إلى مهنة يرتزق منها طلاب العلم وتلامذة المدارس الدينية[14]) )

6-  المراسلات السياسية: وهو من أوسع المجالات التي  استخدمت فيها العربية لغة رسمية في المنطقة الصومالية، ففي حقبة السلطنات الإسلامية(من القرن الرابع إلى العاشر الهجري) كانت العربية لغة الإدارة والمراسلات السياسية واللغة الثقافية المشتركة لمختلف طوائف المجتمع الإسلامي في المنطقة،  وقد ظلت العربية لغة رسمية للمراسلات السياسية في المنطقة الصومالية حتى تدوين الصومالية بالحرف اللاتيني في مطلع العقد السابع الميلادي، وقد حفظت لنا مصادر التاريخ وثائق من مراسلات بعض السلاطين ورؤساء العشائر الصوماليين مع أقرانهم في الجزيرة  العربية منها على سبيل المثال رسالة مشائخ الصومال إلى الشيخ القاسمي حاكم الشارقة([15])

وبعد هذا العرض الموجز لمظاهر عمق الثقافة العربية في الصومال، ومدى انتشارها في مختلف المجالات الرسمية، يُطرح سؤال مهم ووجيه وهو: لماذا لم تتعرّب المنطقة الصومالية تعرّبًا شاملا كالذي حدث في بعض مناطق الفتح الإسلامي كمصر والسودان وشمال أفريقيا، حيث أصبحت العربية في تلك المناطق لغة التفاهم المشتركة بين أطياف المجتمع وقبائله وأعراقه المختلفة؟ وهذا ما سنناقشه في الحلقة القادمة بمشيئة الله.

 المراجع

[1]–  محمد علي عبد الكريم وآخرون :  تاريخ التعليم في الصومال 4، وحسن مكي محمد: السياسات الثقافية  في الصومال الكبير6

[2]– تحفة النظار في غرائب الأمصار المعروفة بـ(رحلة  ابن بطوطة)247  دار التراث بيروت 1968. راجع كذلك: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق : الشريف الإدريسي 1/48  عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع 1989، و مروج الذهب ومعادن الجوهر: المسعودي 1/107  مكتبة الرياض البطجاء، ومعجم البلدان : ياقوت الحموي171  الطبعة المصرية 1906.

[3]ابن بطوطة: رحلة ابن بطوطة 247.

[4] – تقع مدينة هرر في المنطقة الصومالية الواقعة في  إيثوبيا حاليا، وهي مدينة عريقة تعتبر من أهم المراكز العلمية في العالم الإسلامي.

[5] –  مدينة مقديشو عاصمة جمهورية الصومال، تقع على ساحل المحيط الهندي في جنوب الصومال، عرفت في التاريخ بأهميتها التجارية والعلمية، زارها الرحالة العربي ابن بطوطة في القرن الثامن الهجري وتحدث عن تطورها العمراني وعمق الثقافة العربية الإسلامية فيها.

[6] – تقع مدينة مركا على ساحل الميحط الهندي غربي مقديشو وتبعد عن العاصمة 90 كم، عرفت مدينة مركا بأهميتها الثقافية والتجارية، ويسكنها غالبية من المهاجرين العرب والشيرازيين، وتتميز بعمارتها العربية الإسلامية.

[7] – تطلق بعض مصادر التاريخ على تلك المدن الثلاثة بالمقاديش جمع مقديشو، أو بالبنادر، واختلف المؤرخون في أصل لفظة مقديشو، فمنهم من قال أن أصلها ” مقعد شاه” أي مقعد الحاكم العجمي “شاه” ثم خففت بحذف العين والدال من “مقعد” والهاء من شاه، فصارت مقديشو، ومنهم من يقال أن أصل اللفظة ” مقعد الشياه” أي المكان الذي تجمع فيه الأغنام للبيع.  أما لفظة “بنادر” فهي جمع “بندر” وتعني: مرسى السفن، مثل  بندر قاسم وهي مدينة بوصاصو في شرق الصومال، ومدينة بندر عباس في إيران . انظر تاريخ مدن ساحل بنادر: بغية الآمال للشريف عيدروس 32،33، و56 وما بعدها.

[8]–  تقع مدينة زيلع في شمال الصومال في المنطقة المعروفة اليوم بأرض الصومال، وهي مدينة تاريخية قديمة يعتقد أنها تأسست قبل الإسلام ، زارها الرحالة العربي ابن بطوطة  وذكر ذكر أنها مدينة كبيرة وبها قوم من الشافية.

[9]مدينة علمية تقع بالقرب من العاصمة الصومالية مقديشو انظر بغية الآمال في تاريخ الصومال 93 وما بعدها.

[10]– محمد علي عبد الكريم وآخرون:  تاريخ التعليم  في الصومال ص4 مقديشو 1978، وانظر كذلك  الحرف العربي في كتابة اللغة الصومال بشير مهدي علي: 63  وثائق ندوة كتابة اللغات الإفريقية بالحرف العربي الخرطوم 2002. وعلي  الشيخ أحمد أبو بكر:  الصومال وجذور المأساة الراهنة 44، دار ابن حزم  بيروت 1992

[11]-وزارة التربية والتعليم : السياسة العام للتعريب في الصومال وثائق الندوة 25

[12]– محمـد حسين معلم: الثقافة العربية وروادها في الصومال 143

[13]-مقابلة مع الشيخين :محمد الدوحة قطر 6 أغسطس 2015،والشيخم صطفى حاج هارون 15 يوليو 2015م الدوحة

[14] -مقابلة مع الأستاذ أحمد سعيد (فارح)، وقد كان أحد هؤلاء الكتبة الذين كانوا يقومون بكتابة الرسائل وقراءتها للمستلمين في بعض المناطق الشمالية، بوصاصو 2012م، وكذا الشيخ محمد إدريس حكاني أنه يبتذكر أن والدته كانت تذهب إلى رجل يقال له شريف وكان يقوم بقراءة الرسائل وكتابة الرسائل الصادرة. الدوحة 6 أغسطس 2015م.

[15]–  هي رسائل بعثها بعض شيوخ الصومال إلى الشيخ القاسمي حاكم الشارقة في القرن الثامن عشر  الميلادي، عثر عليها في سجلات حاكم الشارقة الشيخ القاسمي، و أخرجها حاكم الشارقة الحالي الدكتور القاسمي على شكل كتاب مطبوع صدر من دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة..

أ. عمر محمد ورسمة

مسؤول قسم اللغة العربية للناطقين بغيرها مركز لغتي لتعليم اللغة العربية - الدوحة قطر
زر الذهاب إلى الأعلى