أوضاع اللغة العربية في الصومال: قراءة تاريخية لعوامل الازدهار والانحسار (3)

عوامل عدم تعرب المنطقة الصومالية تعربا شاملا

على الرغم من انتشار اللغة العربية في المنطقة الصومالية بوصفها لغة للتعليم والثقافة والقضاء والمجالات الرسمية التي تناولناها في الحلقة السابقة؛ يلاحظ أنالعربية لم تتمكن من بسط نفوذها في الصومال بوصفها لغة تخاطب شفوي، كما حدث في بعض مناطق الفتح الإسلامي التي أصبحت العربية فيها لغة التفاهم في الشارع والسوق كالسودان ومصر ودول المغرب العربي وأجزاء كبيرة من الشام، ويعود ذلك  لعدة عدة عوامل سنناقش في هذه الحلقة  بعضا منها وهي كالآتي:

1-  لم تكن الهجرات العربية إلى الصومال منتظمة، ولم يكن عدد المهاجرين العرب إلى المنطقة كافيا لإحداث تعريب شامل للمنطقة كما حدث في مصر والسودان والمغرب العربي، بل كانت الجماعات العربية التي هاجرت إلى السواحل الصومالية تأتي حسب الظروف المعيشية والسياسية في الجزيرة العربية، بينما تحفظ لنا مصادر التاريخ هجرة قبائل عربية بأكملها إلى مصر والسودان والمغرب العربي كهجرة قبائل قضاعة ولخم وقيس عيلان  إلى مصر، وهجرة الهلاليين وبني سليم إلى شمال أفريقيا  بل نقلت مصادر التاريخ وصول مئات من بطون قبائل عربية مختلفة إلى تلك المناطق تباعا ([1])،وهذا كله ساهم في إحداث تغير  جيوسياسيً كامل للمنطقة، وأصبحت العربية لغة التفاهم بين المجتمع  الإسلامي الجديد.

أما في القرن الإفريقي فقد حدثت نتائج  عكسية تمامًا، حيث اكتسب المهاجرون  العرب – سواء  من الهجرات القديمة التي تنحدر من أصولها بعض القبائل الصومالية، أو الهجرات المتأخرة التي وصلت إلى المنطقة في ظل الإسلام – لغات السكان الأصليين،  أو أنشأوا لغات مولدة منها: اللغة السواحلية وبعض محكيات الحواضر الجنوبية للصومال كمقديشو ومركا وبراوة. ومما ساعد على انصهارهم مع السكان الأصليين أنّ كثيرًا منهم وصلوا إلى المنطقة للتجارة أو فرارًا من البطش السياسي، ولم يصطحبوا معهم زوجاتهم، ومن هنا تصاهروا مع السكان واندمجوا معهم، مع الاحتفاظ بالعربية كلغة ثقافية وعلمية ([2])

2- لم يصل الفاتحون المسلمون إلى المنطقة الصومالية، وإنما وصلت الدعوة الإسلامية إلى الصومال والقرن الإفريقي عن طريق التجارة والهجرات([3]).. ومن المعلوم أن العامل السياسي له دور بارز في غلبة اللغات وانتشارها بشكل عام، وهو ما ساعد انتشار اللغة العربية في مناطق الفتح الإسلامي، حيث تم اعتماد اللغة العربية لغة الدواوين والمكاتبات الرسمية بدل الفهلوية في المشرق واليونانية في مصر والمغرب([4]) بالإضافة إلى استقدام  المجاهدين أسرهم، وتشجيع القبائل العربية  على الهجرة إلى تلك البلدان حتى تكاثرت نسبة العرب في  تلك المناطق منذ المائة الثالثة والرابعة للهجرة، وهذا كله كان يدعم  تأثر السكان الأصليين بالعرب الفاتحين واحتكاكهم بهم، في المسجد والمجالس والمعارك والسوق، ومن ثم  ازدياد اهتمام السكان باللغة العربية ومسارعتهم إلى تعلّمها  لفهم الدين الإسلامي من جهة،  والالتحاق بالأعمال والوظائف الحكومية في الدولة الإسلامية من جهة ثانية [5]) )

ففي مصر مثلا انقلبت الموازين لصالح العربية في وقت موجز في حدود المئة الثانية والثالثة للهجرة، إذ  أقبل الأقباط على تعلم اللغة العربية لتفتح لهم فرص العمل أو للاحتفاظ بما في أيديهم من الوظائف، فقد  باتت مكانة الشخص في المجتمع  الإسلامي الجديد وفرصه مرهونتين بمدى إجادته للغة العربية، وأدى ذلك إلى انحصار القبطية في المستوى الرسمي  ومن ثم في المستوى الشعبي، ولم يدخل القرن السادس الهجري إلا وقد انحصرت القبطية في مستويات المثقفين ورجال الدين الأقباط دون العامة([6])، وقد كان الانتقال سلسًا من اللغة اليونانية المغلوبة إلى لغة القوة المنتصرة وهي اللغة العربية، ولم يؤد ذلك إلى تذمر  أو احتجاج لدى الأقباط.

وكذلك الحال بالنسبة لشمال أفريقيا حيث استقبلت  موجات من الفاتحين الإسلاميين منذ حملات عقبة بن نافع رضي الله عنه ومن بعده موسى بن نصير، وقد انخرط المسلمون الجدد من أبناء المنطقة في الجيش الإسلامي في وقت قصير وأبلوا بلاء حسنا في تبليغ الإسلام إلى المناطق المجاورة، ثم  عُربت الدواوين والمصالح الحكومية في نهاية العقد الثامن من القرن الأول الهجري، فأقبل أهل المغرب على تعلم العربية لرفع مكانتهم الاجتماعية والمشاركة في العمل السياسي والإداري وتعميق فهمهم لرسالة الإسلام،  فضلا عما حدث من التزاوج بين العرب المهاجرين وسكان المنطقة الذي عمق بدوره أواصر العلاقة بين الجانين ودعم انتشار العربية اجتماعيا([7]) .  وهذا كله مما  لم يتوافر للمنطقة الصومالية

3- يتحدث الشعب الصومالي بلغة واحدة هي الصومالية، ويعتبر هذا أمرًا إيجابيا في تماسك الشعب؛ إلا أنه أثّر سلبًا على اكتمال عملية التعريب، إذا لم يعد الشعب الواحد الذي يقطن في تلك المساحة  الواسعة والذي يتحدث بلغة أم واحدة- بحاجة إلى البحث عن لغة تفاهم مشتركة، كما هو حال أغلب مناطق الفتح الإسلامي التي عرفت تعدد اللغات، ففي السودان مثلا تشكل العربية لغة التفاهم المشتركة بين الناطقين بعشرات اللغات المحلية، وفي تونس والجزائر والمغرب تتكلم بعض المناطق والقبائل الأمازيغية بمختلف لهجاتها ، بينما تتحدث اخرى العربية لغة أم، ويتواصل الشعب باللغة العربية الدارجة، أما في موريتانيا فهناك عدد من اللغات إلى جانب العربية منها الأمازيغية والفولانية والبولارية، وتشكل العربية لغة النفاهم المشترك بين كل تلك الأطياف.

وذلك بخلاف الصومال فالبدوي الصومالي ينطلق إلى أقرب سوق إلى سكنه، ولا يواجه أي تحدٍ يجبره على استخدام لغة مشتركة، ولو كان ذلك حاصلا لكانت العربية اللغة المشتركة الأولى بين الشعب، ولدعمت عملية التعريب

هذه العوامل وغيرها  قللت-فيما يبدو-  من فرص تحقُّق تعريب شامل للمنطقة،  وإحلال العربية محل اللغة المحلية.غير أن  ذلك لا يعني في أي حال من الأحوال التقليل من شأن حضور اللغة العربية في الصومال، ولا من شأن الدرس اللغوي العربي فيها، بل على العكس من ذلك،  أصبحت الصومال منذ القرون الأولى للهجرة ثغرا مهما من ثغور الحضارة العربية الإسلامية،  وقبلة يقصدها طلاب العلم من داخل القرن الإفريقي وخارجه، وتفاعل العلماء الصوماليون مع أقرانهم في الحواضر العلمية في الحجاز واليمن ومصر والعراق  والشام، كما ساهموا في  إثراء علوم العربية من خلال المؤلفات  والشروح والمختصرات في مختلف الفنون كما تم توضيحه في الحلقة السابقة()[8]

وقد ظلت العربية منتعشة زاهرة في المنطقة الصومالية في الحضر والبادية على سواء منذ العصر الإسلامي، إلا أنها شهدت تراجعًا كبيرًا بعد وصول الاحتلال الأوروبي إلى المنطقة وهو ما ستناقشه الحلقة القادمة بمشيئة الله.

المراجع

[1]  – راجع أخبار  هجرات القبائل العربية إلى مصر وشمال أفريقيا وغيرها من مناطق الفتح الإسلمي في  موسوعة القبائل العربية محمد سليمان الطيب  دار الفكر العربي  القاهرة   1997هـ ،  انظر أيضا  تاريخ انتشار اللغة العربية في المغرب العربي : التعريب والقومية العربية في المغرب  العربي،  نازلي معوض أحمد مركز دراسات الوحدة العربية 1986م)، 19 و20، 22  ، وانظر أيضا: تاريخ اللغة العربية في مصر : أحمد مختار عمر 13، و39  وما بعدها ،الهيئة المصرية العامة للنشر والتأليف 1970م.

[2]– محمد حسين معلم: الثقافة العربية وروادها في الصومال 130

[3]– نفس المصدر 131

[4]-أصدروالي مصرعبد الله بن عبد الملك بن مروان أمرا بإحلال اللغة العربية محل اللغة القبطية وقيل اليونانية  في الدواوين والمصالح الحكومية في عام 87هـ ، وفي التو   تم عزل رئيس الديوان وكان قبطيا اسمه أثناسيوس ل واستبدل بابن يربوع الفزاري الحمصي حمد مختار عمر 3 نقلا عن المغريزي الخطط 1/98 . وهناك بعض الوثائق التي تعود إلى العقد الثالث من القرن القرن الأول الهجري كتبت باللغتين اليونانية والعربية. انظر أيضا  التعريب والقومية العربية في المغرب العربي : نازلي معوض أحمد ، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 1986م.

[5]-انظر مزيدا من التفصيل عن عوامل غلبة اللغة العربية على اللغة القبطية: تاريخ اللغة العربية في مصر : أحمد مختار عمر ، 20 وما بعدها.

[6] -احمد مختار: تاريخ اللغة العربية في مصر 54

[7]نازلي معوض أحمد : التعريب والقومية العربية في المغرب العربي 21

[8]– اقرأ  الأدوار الثقافية للعلماء الصوماليين في العالم الخارجي في الثقافة العربية وروادها في الصومال محمد حسين معلم 113 ،   والصومال قديما وحديثا : حمدي السيد سالم: 1/359

 

أ. عمر محمد ورسمة

مسؤول قسم اللغة العربية للناطقين بغيرها مركز لغتي لتعليم اللغة العربية - الدوحة قطر
زر الذهاب إلى الأعلى