سلسة مقالات حول أوضاع اللغة العربية في الصومال ( 1)

قراءة تاريخية لعوامل الازدهار والانحسار(1)

هذه سلسلة مقالات عن أوضاع اللغة العربية في الصومال، والمراحل التي مرت بها ابتداء من  مرحلة الإرهاصات الأولى  المتمثلة  بوصول العرب إلى سواحل القرن الأفريقي منذ ما قبل الإسلام، ومرورا بمرحلة الازدهار والانتعاش التي شهدتها العربية في القرن الإفريقي  بعد ظهور الإسلام واعتناق  أغلب السكان الدين الإسلامي  منذ المائة الآولى للهجرة، ثم حالة التراجع والتخلف التي شهدتها في فترة الاستعمار، ثم أوضاعها في ظل الحكومات الصومالية المتعاقبة ابتداء من ميلاد الجمهورية في غرة يوليو 1960م، ووصولا  إلى الطفرة التي شهدتها اللغة العربية في الصومال في فترة الحروب الأهلية، والتراجع الذي تشهده في الأعوام الأخيرة.

وتركّز الورقة على التعرُّف على عوامل الازدهار والانحسار، والوقوف على السياسات المؤثرة في كل حقبة،  واستعراض الصراع الثقافي حول اللغة العربية الذي دارت حلقاته في ربوع الصومال منذ وصول الاستعمار إليه وحتى يومنا هذا.,

إن ما يدعو حقيقة إلى  استعراض تلك الحقب التاريخية الطويلة ليست الرغبة في تغطية الأدوار التاريخية التي مرت بها اللغة العربية في الصومال فحسب، على الرغم من الأهمية البحثية لهذا الموضوع؛ بل هي محاولة للكشف عن مفردات مؤامرة ثقافية لغوية مُنِيَ بها هذا الثغر منذ أن امتدت إليه أيادي الاحتلال الأوروبي، والتي لا يزال يتعرض لها حتى اليوم،  بهدف عزله  عن تراثه الثقافي وانتمائه إلى الأمة العربية، فضلا عن أداء دوره في حماية مكتسبات الثقافة العربية الإسلامية في منطقة القرن الإفريقي التي يرتكز العبء الأكبر من إحيائها الثقافي والديني عليه.

وقد أولينا قدرا كبيرا من العناية لتوثيق المعلومات وعزو الآراء إلى أصحابها والعودة إلى المراجع الأصيلة من كتب ومجلات وبحوث  ودراسات ومقابلات،  وآمل أن  تفيد هذه المقالات طلاب العلم والمثقفين ومؤسسات نشر اللغة العربية في الصومال، في ظل الحرب المُمنهج الذي تشنه الهيئات الغربية على الثقافة العربية الإسلامية في الصومال والذي يستدعي مزيدا من التنسيق والوعي والتفكير بالبدائل الملائمة لفترة التحديات التي نقدم عليها.

أولا:  مرحلةالإرهاصات الأولى

تفيد مصادر التاريخ  بأن  العرب وصلوا إلى سواحل القرن الإفريقي  منذ ما قبل الإسلام([1]) بفعل الجوار وسهولة الاتصال بين الجانبين، إذ لا تزيد المسافة الفاصلة بينهما من 300 ([2])، هذا فضلا عن النظرية الجغرافية  القائلة بأن شبه الجزيرة العربية كانت امتدادا متصلا بقارة إفريقيا في العصور القديمة، وأنهما انفصلتا في عصور سحيقة بفعل العوامل الطبيعية كالهزات الأرضية والزلازل.([3])

ومن أقدم من أشار إلى قدم  علاقة القرن الإفريقي بالجزيرة العربية الرحالة الإغريقي بيربلوس  مؤلف كتاب (الكشاف البحري) الذي زار سواحل  القرن الإفريقي في القرن  الأول الميلادي، وقد أشار إلى كثرة السفن العربية على الساحل الشرقي لأفريقيا وقدرة العرب على التعايش مع السكان، حيث يتزاوجون وتختلط الأنساب ولا يجد الخصام بينهم وبين الأفارقة سبيلا، تأتي سفنهم من الجزيرة العربية ومن كل صوب في المحيط الهندي بالخناجر والرماح والزجاج، وتقلع من الساحل الشرقي تحمل العاج وقرون الخرتيت وجلود السلحفاة([4])

ومنذ ذلك الحين قامت علاقات تجارية بين الجانبين، خصوصا بعد وصول مهاجرين يمنيين إلى المنطقة بعد خراب سد مأرب الذي كان يشكل شريان الحياة في المنطقة الجنوبية للجزيرة العربية([5]) ،  ثم تطوَّرت تلك  العلاقات إلى علاقات سياسية بعد أن بسطت بعض المماليك اليمنية سيطرتها على سواحل الصومال، ومن أهم الدول اليمنية التي يعتقد المؤرخون أن حكمها وصل إلى سواحل الصومال مملكتي أوسان وحمير. أما الأولى فقد  بسطت سيطرتها على سواحل شرق إفريقيا بما فيها سواحل الصومال وكينيا وتنزانيا، ولهذا عرفت تلك السواحل لدى بعض المؤرخين بسواحل أوسان أو أزانيا ([6])، وأما الثانيةفقد ورد في بعض مصادر التاريخ بـأنها حكمت سواحل الصومال في عهد السلطان أسعد الحميري، وأن  اسم مدينة مقديشو “حَمَر” بفتح الحاء والميم المهملتين أخذ من اسم دولة حمير، حيث سكنها الحميريون في أول الوهلة، ثم سألهم المسافرون من أنتم؟ فقالوا: نحن قوم  من “حمير” فأطلق عليها حمير ثم حرفت إلى حَمر ([7]).

وتشير كل تلك الدلائل إلى قدم علاقة العرب مع القرن الإفريقي، ومن ثم أقدمية اللغة العربية في المنطقة،  أما دور اللغة العربية في الصومال في تلك المرحلة، فلا نتصور أنها تجاوزت  نطاق المعاملات التجارية مع العرب، كما أن التأثير العربي اقتصر على السواحل دون التوغل في الداخل، ولهذا يمكننا أن نعد هذه المرحلة فترة إرهاصات لدخول اللغة العربية إلى الصومال وانتشارها.

ثانيا: مرحلة الازدهار والانتعاش( من دخول الإسلام وحتى وصول الاحتلال الأوروبي(

بعد ظهور الإسلام دخلت  اللغة العربية في الصومال والقرن الإفريقي مرحلة جديدة من الانتشار والازدهار، حيث حمل الإسلام اللغة العربية معه حيثما حل وحيثما ارتحل. ثم توثّقت العلاقة بين العربية وسكان المنطقة بشكل كبير بعد  وصول المهاجرين العرب إلى الساحل الصومالي؛ ونجاحهم في التفاعل مع السكان ونشر الثقافة العربية الإسلامية بين أبنائه وصبغ الثقافة الصومالية بثقافة عربية ([8])،، كما ساهموا في تأسيس سلطنات ودول إسلامية على طول سواحل القرن الإفريقي، وقد كانت العربية في صدارة  المعالم الإسلامية التي انتعشت تحت راية تلك السلطنات.

ومن العوامل التي ساعدت على انتشار اللغة العربية وازدهارها في تلك المرحلة ما يأتي:

1-الهجرات العربية  التي وصلت إلى المنطقة منذ القرن الأول الهجري، لأغراض تجارية وسياسية ودعوية، وساعد ذلك أهمية موقع الصومال الإستراتيجي، وما تنعم به من الثروات الزراعية والبحرية، فضلا عن بعدها عن مناطق  الصراع السياسي في الجزيرة العربية، ومن هنا، أصبحت السواحل الصومالية ملجأ للفارين من سوء الأحوال الاقتصادية، ومن بطش الحكام إبان الاضطرابات السياسية التي شهدتها الدول الإسلامية منذ مطلع العصر الأموي([9]),

2-  العامل التجاري: وقد كان له دور محوري في نشر الإسلام  والثقافة العربية في المنطقة، حيث استطاع التجار العرب وعلى رأسهم اليمنيون، التأثير على المنطقة حضاريا وثقافيا، إلى جانب  نشاطهم التجاري الذي فتح للاتصال والاحتكاك بين سواحل الصومال والجزيرة العربية آفاقا واسعة، ولم يأت القرن الرابع الهجري إلا وقد استكملت مدن الساحل الصومالي مقوماتها وسماتها العربية، بل أصبحت بعض تلك الحواضر عربية صرفة في ثقافتها وعمارتها([10]).

3- نشأة الدول والسلطنات الإسلامية منذ القرن الرابع الهجري وذلك بتضافرعناصرالمجتمع الإسلامي في المنطقة من العرب المهاجرين والسكان الأصليين، ومن أهمها:سلطنة شوا 350-648هـ، وسلطنة إيقات 648-805هـ، وسطلنة عدل 871-925هـ، والسلطنات المتعاقبة على حكم مدن ساحل بنادر وهي مقديشو ومركا وبراوة، قد كانت العربية اللغة الرسمية لتلك السلطنات وبها كتبت الرسائل الرسمية والعقود كالبيع والشراء والنكاح ونحوها([11]) . وقد كان حكام تلك المماليك في المرحلة المبكرة من المهاجرين العرب، ومن الأسر العربية التي تعاقبت على حكم مدن الساحل الصومالي:  الإخوة السبعة من قبيلة بني الحارث، والحلوانيين، والسلطان فخر الدين ، وبني المظفر من قبيلة النبهان العربية([12]

4- البعثات العسكرية التي بعثتها الدول الإسلامية إلى المنطقة لتعزيز ولاء المنطقة لمركز الخلافة، منها: بعثة  عبد الملك بن مروان بقيادة موسى بن جعثم في عام 77هـ ([13]) ،  وبعثة  الدولة العباسية إلى مقديشو بقيادة يحيى بن عمر العنزي في  عام 149هـ ([14]) . وتلك البعثات على الرغم من كون أهدافها سياسية بالدرجة الأولى؛ فإنها لم تخل من أهداف دعوية تعليمية، وقد ذكرت بعض مصادر التاريخ  أنهم أسسوا مراكز تعلمية لنشر تعاليم الإسلام ([15])

5-العلاقة الثقافية الدائمة بين الصومال والجزيرة العربية حيث كان العلماء وطلاب العلم الصوماليين يسافرون لطلب العلم الشرعي وعلوم العربية في الحواضر العربية في اليمن والحجاز ومصر، ثم يعودن لنشر اللغة العربية والعلوم الدينية([16])، وتجدر الإشارة هنا إلى دور زيارة الأماكن المقدسة وقد كان لتلك الرحلات أثرها الطيب في دعم  اللغة العربية .

6- جهود العلماء والدعاة في نشر اللغة العربية والثقافة الإسلامية في المنطقة،  وقد كان العلماء والفقهاء يسرعون إلى كل مكان ينتشر فيه الإسلام، ليقيموا فيه مراكز تحفيظ القرآن الكريم وتعليم اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي. ومن جهود العلماء المبكرة في  هذا الميدان  ما قامت به بعثة العلماء الحضارمة الذين وصلوا إلى مينياء بربرة في شمال الصومال وانتشروا في البوادي والأرياف لنشر الإسلام واللغة العربية[17]) . ومنها أيضا جهود الشيخ يوسف الكونين المعروف بـ(أوبرخدلي) الذي ينسب إليه بعض المؤرخين ابتكار طريقة لتهجئة الحروف العربية للأبناء الصوماليين، وهي الطريقة المتبعة  حتى اليوم في كتاتيب القرآن الكريم في الصومال([18]) .

وسنتناول في الحلقة القادمة بإذن الله  المجالات التي استخدمت فيها العربية في المنطقة الصومالية، مع مناقشة عوامل عدم اكتمال تعرّب المنطقة الصومالية تعرّبا شاملا كما حدث في مناطق الفتح الإسلامي كالسودان ومصر وشمال أفريقيا.

المراجع

[1]-اسم رسالته” الطواف حول البحر الإرتري أو الطواف حول البحر الأحمر” وهي مطبوعة ومترجمة إلى العربية.انظر كذلك: تاريخ ولغة الشعب الصومالي:عبد الله عمر منصور66 طبعة يوسف عبد الله حسن (د.ت). ويغية الآمال للشريف عيدروس:37 مقديشو 1952م

[2]زمان عبيد وناس وهاشم الكعبي: تاريخ علاقات العرب مع أفريقيا

[3]زمان عبيد وناس وهاشم الكعبي: تاريخ علاقات  العرب مع أفريقيا 15، دار صفاء للنشر والتزيع عمان الأردن 2012م.

[4]– محمد عبد الغني سعودي: قضيايا إفريقية   53  سلسلة عالم المعرفة 34

[5]– حسن مكي محمد: السياسات الثقافية في الصومال الكبير 23، ومحمـد حسين معلم: الثقافة العربية وروّادها في الصومال 36

[6]–    راجع: عبد الله عمر منصور: لغة وتاريخ الشعب الصومال 67

[7] – راجع بغية الآمال في تاريخ الصومال: الشريف عيدروس36، مقديشو 1952 انظر كذلك ديرية ورسمة أبكر تاريخ اللغة  العربية في الصومال، وثائق الندوة 85   ومن المؤرخين من يرفض هذا التعليل ويرى أن اسم حمر صومالي الأصل وأنه مأخوذ من الكلمة الصومالية “حمر” ومعناها أحمر، وتطلق على الناقة الحمراء، أو التراب الأحمر كما هو حال تراب مدينة مقديشو

[8]– رجب عبد الحليم: العلاقات السياسية بين مسلمي زيلع ونصارى الحبشة ص 86  دار النهضة العربية القاهرة 1985.

[9]–  حفظت لنا مصادر التاريخ أسماء بعض الأسر والمجموعات التي هاجرت إلى سواحل القرن الإفريقي  منها على سبيل المثال  هجرة العقيليين، وهجرة المخزوميين، وهجرة الزيديين، وهجرة بني الحارث، وهجرة بني جليد، وهجرة الإخوة السبعة من قبيلة بني الحارث…. إلخ راجع: بغية الآمال في تاريخ الصومال للشريف عيدروس 42 وما بعدها، والثقافة العربية وروادها في الصومال: محمد حسين معلم  36 وما بعدها، وحسن مكي محمد : السياسات الثقافية في الصومال الكبير 24

[10] – محمد حسين معلم: ملامح من تاريخ الصومال السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي  قبل الاستعمار، كتاب الشاهد  العدد الثاني ديسمبر 2010م، و غيثان بن علي بن جريس: الهجرات العربية إلى ساحل شرق أفريقيا في العصور الوسطى وآثارها الاجتماعية والثقافية والتجارية حتى القرن الرابع الهجري، منشورات جامعة الملك سعود 1995م 24 وما بعدها

[11]– محمد علي عبد الكريم وآخرون:  تاريخ التعليم  في الصومال ص4 مقديشو 1978، وانظر كذلك  الحرف في كتابة اللغة الصومال بشير مهدي علي: 63  وثائق ندوة كتابة اللغات الإفريقية بالحرف العربي الخرطوم 2002. وعلي  الشيخ أحمد أبو بكر:  الصومال وجذور المأساة الراهنة 44، دار ابن حزم  بيروت 1992

[12]نظر تفاصيل حكم الأسر العربية لبعض مدن الساحل الصومالي الثقافة العربية وروادها في الصومال محمد حسين معلم  68-78، وديرية ورسمة أبكر : اللغة العربية في الصومال  وثائق ندوة اللغة العربية في الصومال المنعقدة في مقديشو 1986م، ص  87، 88

[13]– محمد حسين: الثقافة العربية وروادها في الصومال  42 نقلا عن محمود الحويري: ساحل إفريقيا الشرقي منذ قجر الإسلام حتى الغزو البربغالي 217-218

[14] –  الشريف عيدروس: بغية الآمال في تاريخ الصومال 37، و42،  ومحمد حسين معلم: الثقافة العربية وروادها في الصومال 44، وغيان بن علي جريش : الهجرات العربية  إلى ساحل شرقي إفريقيا 21.

[15]–   الشريف عيدروس : بغية الآمال في تاريخ الصومال، ومحـمد حسين معلم : الثقافة العربية وروداها في الصومال: محمد حسين معلم:  42

[16]– راجع  أخبار رحلات علماء الصومال العلمية إلى حواضر الجزيرة العربية: محمد حسين: الثقافة العربية ورواداها في الصومال 297 وما بعدها.

[17] – ريراش: كشف السدول عن تاريخ الصومال ومماليكهم السبعة  مقديشو 1971، ص 174، وحسن مكي: السياسات الثقافية في الصومال الكبير 23

[18] – انظر :الحرف العربي في كتابة اللغة الصومالية  يشير مهدي: 72 ، والسياسات الثقافية  في الصومال الكبير39

أ. عمر محمد ورسمة

مسؤول قسم اللغة العربية للناطقين بغيرها مركز لغتي لتعليم اللغة العربية - الدوحة قطر
زر الذهاب إلى الأعلى