رحل عميد الدبلوماسية الصومالية

رغم إيماننا بقضاء الله وقدره، وعلمنا بأن لكل أجل كتاب فإن خبر وفاة سفير الجمهورية لدى جمهورية مصر العربية ومندوبها الدائم لدى الجامعة الدول العربية لمدة 25 عاما يوم الأحد الماضي الموافق 22/11/2015 كان له صدمة أليمة ووقعة خاصة في قلوب الذين عرفوا الرجل وخاصة الذين درسوا أو عاشوا في مصر خلال تلك الفترة التي قضاها الرجل سفيرا  فيها.

فالرجل يعد وبحق من القلائل الذين بقوا من نخبة الدبلوماسية الصومالية يوم أن كان للصومال مكانة وهيبة وتأثير في صنع القرار الدولي. وهب حياته كلها لخدمة شعبه وبلده، خدم الصومال قرابة نصف قرن وتركز عمله خلالها في مجالي التعليم والدبلوماسية. وقد قال لي عن نفسه لولم يقبض الله للحكومة الثورية نحن  (أبناء الثقافة العربية) لما استطاعت أن تحرك ساكنا.

في النقاط التالية نورد سردا وجيزا لسيرته الذاتية الحافلة بــالدروس والعبر:

السفير/ عبد الله حسن محمود، من مواليد عام 1943 بإيمي iimey- الصومال الغربي (أوغادينيا) رغم أن جوازه مكتوب أنه ولد في مقديشو. ينتمي إلى عشيرة برتري Bartire  والتي كان من بين أبنائها أيضا الزعيم الصومالي الشهير ويل وال Wiilwaal، وهي بطن من بطون قبيلة أبسمي Absame الكبيرة التي تضم عشائر:- أوغادين، ويتينWayteen، بالعد Baalcad ، أبسغول Abasguul وجلميس Galimays.

تقطن عشيرة برتري منطقة جكجكا في الصومال الغربي (أوغادينيا)، ومديرية حغر Xagar في جوبا السفلى. ولعلكم سمعتم المقولة الشهيرة التي قالها المستعمر الإيطالي عندما قابل أحد شيوخ عشيرة برتري في جوبا ولأول مرة يسمع هذا الاسم: إن برتري ليس موجودا في السجلات التي عندي (Bartire buuga kuma jiro)

أخذ تعليمه الأساسي في الصومال ثم حصل على الثانوية الأزهرية عام 1964م.فبكلاريوس من كلية دار العلوم – جامعة القاهرة- 1969م. عمل مدرس أول في المدارس الثانوية الصومالية لمدة عامين، ثم عين أستاذا في كلية المعلمين بالجامعة الوطنية 1972م، ثم مديرا لمدرسة جمال عبد الناصر (الله) الثانوية بعد تأميمها عام 1973م، ثم مديرا لمركز تدريب الشباب الصومالي، ثم مديرا لمنطقة مدق التعليمية عام 1974م، وعن هذا العام يقول:- في ذالك العام الذي كنت مديرا لشئون التعليم فيها حصل أبناء مدق ولأول مرة في تاريخهم العشرة الأوائل في الشهادة الثانوية العامة. ثم مديرا لمنطقة بنادر التعليمية عام 1975م، ثم أمينا عاما للجبهة الوطنية لتحرير الصومال الغربي WSLF في الفترة 1976-1980م، ثم مستشارا لرئيس الجمهورية لشئون الجبهات 1981-1983م، ثم مديرا لدائرة الشئون العربية بوزارة الخارجية الصومالية 1984-1986م، ثم سفيرا للصومال في الجزائر 1987 – 1990م.

ثم في يناير عام  1990م عين كسفير فوق العادة ومندوب الصومال الدائم لدى جامعة الدول العربية وهو المنصب الذي شغلة لخمس وعشرين عاما إلى أن وافته المنية يوم الأحد الموافق 22/11/2015م.

تزوج المرحوم زوجتان الأولى منهما هي ابنة فقيه مقديشو ومفتيها في حينه السيدة/ زينب الشيخ عبدالله الشيخ محمود، من فخذ أماظن جيرار من بطون رير عبدلي الأوغادينية وأنجب منها أولاده الثمانية، ست بنين وبنتان، ويعيشون كلهم في المهجر، أما الثانية فهي أيضا ابنة فقيه إنفدي بلامنازع وشيخ جاريسا ومفتيها السيدة/ سعيدة الشيخ يوسف الشيخ عبدالقادر من عشيرة أبسغول ولم يرزق منها شيأ.

مواقف الرجل: كان الرجل قوميا عروبيا بامتياز بذل جهده كله في سبيل رفع العلم الصومالي، وجعله يرفرف عاليا خفاقا في الأروقة الدولية وهو بلادولة قرابة 3 عقود، واستمات في تأكيد عروبة الصومال والدفاع عن مصالحها في المحافل الدولية، وكانت له مواقف مشرفة في الدفاع عن القضايا العربية والاسلامية على وجه العموم. ولا أظن أنه بقي على قيد الحياة في الوقت الحاضر أحد يعرف حقيقة الأشخاص الذين حكموا الصومال، أو الدائرة الضيقة التي كانت تتخذ القرار السياسي في الصومال مثله إلا الجنرال محمد علي سمتر الساعد الأيمن لزياد بري .

أولا: في مجال التعليم: كان أبا لكل الصوماليين ومن خلال خبرته الطويلة في مصر كان يعرف أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينجزه الطالب الصومالي خلال وجوده في مصر هو التعليم فلذا كان يحث الجميع بلا ملل ولا كلل أن يتعلموا وأن يحصلوا على مؤهل أيا كانت درجته من أرض الكنانة ليعودوا به إلى البلد لينفعوا بنفسهم أولا ثم بالوطن ثانيا.

ويتمثل ذلك حضوره المستمر وتشجيعه الفعال في حفلات تخرج الطلاب ومناقشة الرسائل العلمية التي كانت يقدمها الطلاب الصوماليون إلى الجامعات والمعاهد المصرية، ويؤكد كلامي هذا الصور التذكارية الكثيرة التي أغرقها الشباب بصفحاتهم في وسائل التواصل الاجتماعي إثر سماعهم نبأ وفاة سعادته. فكان طلبة الدراسات العليا يستبشرون بحضوره في مناقشة رسائلهم خيرا، ويمنون به أنفسهم بأن الامتياز مضمون مادام هو حاضر إن لم تصر النتيجة مرتبة الشرف الأولى تقديرا لحضوره واحتراما لسنه.

وعندما وفد إلى مصر أول دفعة من مناطق شمال الصومال (صومال لاند) إلى القاهرة بعد انقطاع دام أكثر من 15 سنة والذين كانوا يعتبرن أنفسهم بأنهم من قارة أخرى فضلا أن يكونوا حتى من دولة تجاور الصومال على الأقل رحب بهم في السفارة وأكرمهم بإعطائهم جميعا منحا دراسية في الجامعات المصرية من بينها 10 منح دراسية لدراسة الطب.

ثانيا: الشئون الاجتماعية: فالرجل كان اجتماعيا حتى النخاع، بشوش الوجه، مبتسما دائما كلما تدخل أو تسلم عليه، يقبل حضور الولائم والحفلات ويبارك في حفلات العرس والزواج، ويجلس أحيانا في المقاهي ويخالط الناس في نواديهم ومقاهيهم ليشارك ويجاذب معهم حديث الكلام، حديثه لا يشبع منه أبدا مهما طال، وكلامه حكمة وجواهر لا يمل منه وإن قل.

ثالثا: نظافة اليد:عاش الرجل متواضعا في حياته ولم يعرف الترف ولا البذخ طريقا إلى حياته بالرغم من أنه عاش على مناطق حساسة تزل منها الأقدام إلا الأقوياء من أمثاله فلم يعرف أنه زار الحانات ولا مقاهي المسكرات، فعبد الله حسن للذين لا يعرفونه رجل دين من الطراز الأول، حفظ مهمات المتون في علوم الشريعة وهو صغير في مراكز التعليم في عموم الصومال الكبير وأوروميا.

فبعد سقوط نظام زياد بري هرول وتسابق كثير من رجال البعثات الدبلوماسية في بيع تلك المقار بالمزاد العلني وبثمن بخس ظانين أن هذه الأموال ملك لهم يتصرون فيها كما يحلوا لهم.  أما عبد الله حسن الأمين الناصح والأب البار صار مكتبه مأوى للضعفاء واللاجئين ومنع أن يحرم أبناء جلدته حقهم في الاستئناس إلى هذا المقر من شتاء القاهرة القارس وأن هذا المقر كان ملكا لدولة كانت دولتهم يوما ما.

تعرض لحادث سيارة في عام ألفين وأجرى أحد الصحفيين مقابلة معه وكتب بعدها في جريدة الشرق الأوسط بأن السفير الصومالي يتدرب على ركوب الدراجة للذهاب إلى عمله بعد أن تهشمت سيارته نتجة لحادث السيارة، وهب ضمير الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة من هذا الخبر فرد سريعا بسيارة مارسيدس هدية خاصة له، كما تكفلت السفارة الليبية بالقاهرة بإصلاح سيارته الأولى. كل هذا جميعا يدل على نظافة يدالرجل وأمانته، وأنه إن كانت لديه مدخرات مالية أو يوجد رصيد في حسابه البنكي لما بخل على نفسه من ذلك شيأ. لكن عبدالله حسن إختار منحى آخر، إختار أن يعيش فقيرا، وأن يموت فقيرا، ونسأل الله أن يحشر مع زمرة المساكين بدون سابقة حساب ولا عذاب. بينما جعل أمثاله موضوع إصدارا الجوزات مثلا مصدار للتربح والتجارة، أما هو فكان يعفو حتى عن الرسوم المقررة عندما يسمع أن هذا الشخص طالب علم.

رابعا:آية في كل الفتون: فالمرحوم كان آية في التفسير وفي اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة. ومما قال لي شخصيا إنه في عام التخرج كان مقررا عليه مادة الأدب العربي فطُلب منه أن يحفظ قصيدة شعرية للامتحان النهائي، فنسي وتذكر الأمر وهو على أبواب لجنة الامتحانات فلما دخلت والكلام له قال استفحت بقصيدة لشاعر صومالي كنا ننشد بها في المدائح النبوية فأعجب بها الممتحن فقال لي: لمن هذه الأبيات يا عبدالله قال فقلت لشاعر صومالي قال ثم منحي الدرجة النهائية.

خامسا: موسوعة في تاريخ القرن الافريقي: فالمرحوم كان موسوعة علمية، حافظ وراوي لتاريخ المنطقة وأحداثها وقصصها وأشعارها. قليلا ما كان لا يحفظ بيتا قاله شاعر صومالي أيا كان موطن إنشاده وسرده. وساعده على ذلك عدة عوامل منها: أنه كان ذا موهبة وذاكرة خارقة، علاوة على إتقانه للغات الصومالية والعربية والأورومية. وكان رحمة الله عندما يروي القصة تظن وكأن الحدث ماثلا أمامه، أو أنه يقرؤها من صحيفة أمامه وقد قال عن نفسه في هذا الصدد:لم أنس شيأ سمعته أورأيته قط.

مع الأسف الشديد ورغم تشجيعنا الكثير له بأن يكتب هذا الكنز الثمين لتاريخ الصومال الذي يحفظه إلا أنه لم يوفق على حد علمي أن أصدر شيأ. طلبنا ذلك منه مرارا وبالذات تلك الأحداث التاريخة التي عاشها الرجل لأنه كان في مركز إتخاذ القرار وصاحب سر زياد بري، وكان الأخير يثق به أكثر من ثقته بجنرالات الأوغادينيين خاصة والداروديين عامة. ولأنه كان يدير أخطر ملف تعاملت معه الدولة الصومالية، وهو ملف الأمني الأول والأخير في الصومال قديما وحديثا.

يقول البروفيسور/ السيد أحمد فليفل، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة القاهرة والخبير في الشأن الصومالي في أحد اللقات التي جمعتنا معه في القاهرة: إذا مات أحد زعماء الأقارقة أو شيخ قبيلة معينة فإن مكتبة علمية وموسوعة تاريخية من تاريخ المنطقة وتقاليدها وثقافتها تموت معه دون أن تجد طريقها إلى واقع القراء أو دون أن يكتب عنها أحد.

قالو عنه:

أ/ محمد عمر (أشهد أنه كان يحب العلم لكل الطلبة الصوماليين بدون تمييز معروفا بنزاهة النفس وقلة الطمع المادي )

أ/ علي حوشو ( السفير عبدالله خدم لشعبه ولبلده بالتفاني والوطنية، وخدم أيضا القضايا العربية والإفريقية فأصبح محبوبا لدينا ولدى الجميع).

د/ أويس سيد ( لقد التقيت المرحوم في مكتبه بأوقات كثيرة ولمست من طريقة تعامله الشفقة والرحمة، وكان أغلب أوقاته مبتسما)

أ/ علي حلني: (خدم الفقيه بلاده فترة طويلة جنديا في مجال الدبلوماسية، وكان متفانيا في الخدمة على الرغم مما تعرض له من مشاكل هنا وهناك وحكى لي _ والكلام لعلي حلني_ برحابة صدر عما عاناه من أطراف صومالية كثيرة لكن قلبه كان كبيرا. كان أديبا وخطيبا مفوها، وراوية للتاريخ الصومالي الحديث وصاحب ذاكرة خارقة، ربطتني به صداقة شخصية عمرها نحو 20 عاما واستفدت من اللقاءات التي كانت تجمعنا على مدى هذه السنوات، وكان مكتبه العامر في السفارة بمثابة مضافة رائعة بكل المقاييس، وكان يُنحي البروتوكولات الدبلوماسية جانبا عندما نلتقي، وكانت لنا أيام. برحيله فقدنا أحد أركان الدبلوماسية الصومالية .

محمود بوبي ( فقدنا برحيله قائمة تاريخية عظيمة ومدرسة دبلوماسية كبيرة)

محمد الجبرتي ( كان طيبا خيارا)

حسن يوسف (ماشاء الله توافقت أخبار العارفين به أنه كان خيرا ذا معروف حسن السيرة).

د/ محمد حسين معلم ( رحم الله السفير عبدالله حسن: لقد استقبلني في مقر السفارة قبل سنة عند اشتراكي في احتفالية الصحفيين العرب مع الزميل الصحفي/ علي حلني، ورغم أن السفير -رحمه الله- كان لديه وعكة صحية في ليلة التكريم وتوزيع الجوائز إلا أن سعادته رفض إلا أن يشارك معي هذه الفرحة والتكريم.

السفير/ عبد القادر أمين شيخ: ( عرفت المرحوم وقد كان ذا مبدأ في الحياة، حب الوطن والدفاع عنه في جميع الميادين مهما كانت الظروف، وتوطدت العلاقة بيننا ايمانا بهذا المنطلق. وفي فترة الأزمة الصومالية حيث كانت البلاد تمر بأحلك ايامها واحرج فتراتها وما نتج عن ذلك من صعوبة في اداء مهام عملنا الدبلوماسي كنا نستأنس بأرائه في كثير من الامور. كان المرحوم صامدا في مواقفه صادقا في اداء رسالته حفاظا على العلاقات الاخوية التاريخية بين الصومال ومصر، كما انه كان متميزا في مساهماته ومداخلاته في اعمال الجامعة العربية دفاعا عن قضايا الامة العربية والاسلامية ومصالح الشعب الصومالي.  فقدنا انسانا راقيا بتعامله وبأخلاقه متميزا بخبرته الواسعة في مجالات عدة لم يكن معلما او دبلوماسيا فحسب بل كان شاعرا بارعا باللغتين العربية والصومالية. رحل عنا عبدالله  حسن محمود وذكراه باقية في قلوبنا).

اللهم ارحم عبدك عبدك حسن محمود، وارفع مقامه في العليين، اللهم إن كان محسنا فزد من حسناته، وإن كان مسيأ فتجاوز عن سيآته،  وألهم أهله وأحبابه الصبر والسلوان……. إنا لله وإنا إليه راجعون .

 

 

عبد الرحمن ديقو جهاد

محاضر في المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية- فرع لندن، ومدير شؤون التعليم بمؤسسة الفرقان التعليمية، لندن
زر الذهاب إلى الأعلى