أيّـامٌ قَـضَـيـتُـها فَـي مُقْـدِيـشَـو..!

حمداً وشكراً لله، وتوفيقاً من الله العلي القدير، أن الوضع في مقديشو العاصمة قد تحسّن أمنياً واقتصادياً وعمرانياً بل ومَظهرا في الآونة الأخيرة، وبشكل ملحوظ، فمقديشو ليست المدينة التي رأيتها قبل ثلاثة أعوام، من حيث الأمن والاستقرار رغم الظروف، وأنها قد استعادت وتستعيد بعضاً من عافيتها وحيويتها في جوانب عدة وعديدة.

قضيت فيها أياماً سعيدة، رحبّت بي بجوّها الحار، وبجيوب أصحابها الخاوية…لكن هذه ظروف طبيعية أيضاً تمرّ بها البلاد والعباد أحياناً، ولا دوام لها. فعلاً أنها كانت أياماً قلائل من حيث الكم، ولكنها كثيرة من حيث الكيف والمضمون، مليئة ومشحونة بالأعمال الدئوبة والشاقة المصحوبة بإنجازات نوعية عظيمة وملموسة.

هذا ولم تخل تلك الأيام من جلسات مع أصحاب الشأن في البلاد من ساسة وأكاديميين وإعلاميين، وعلماء، وعسكريين، بل وأصحاب سابقين جمعتنا المجامع أيام الصبا والدراسة، ولكن…ذَهب الصَّبا وتولّت الأيامُ *** فعلى الصَّبا وعلى الزمان سلامُ

مستحيل عزيزي القارئ سرد جميع ما لفت إليه نظري، ولمسه سمعي أثناء وجودنا في مقديشو، ولكن دعنا نحاول أن نتطرق لأهم ما جذب إليه انتباهي من قضايا ومشاهدات، وبصورة مبسطة وموجزة.

لا شك أن تنوع اهتمامات شرائح المجتمع المختلفة يؤدي إلى تباين وتنوع القضايا، وقد يطغى بعض القضايا على غيرها، وبغض النظر عن أهميتها وأولويتها من حيث المضامين. هذا ومن أهم القضايا:

  • مآل البلاد بعد انقضاء المدة الدستورية والقانونية لرئاسة الدولة، والحكومة الحالية، ومدة مجلس الشعب الحالي،أصبحت طبيعة الفترة الانتقالية في سبتمبر القادم عام 2016م حديث الساعة في مقديشو، وشغل الشاغل للساسة والمهتمين بالسياسة، ووسائل الإعلام المحلية، وترى التجمعات في الفنادق، والأندية العامة تناقش فيها قضية الساعة، وطبيعة الانتخابات في العام القادم، وماذا قال ويقول المجتمع الدولي حول هذه الفترة المعقدة، وما السبيل المناسب لاختيار البرلمانيين الجدد، تحليلات وتنويرات من هنا وهناك لو جمعت في مجلدات لكفت.

والجدير بالذكر أن وسائل الإعلام المحلية المتنوعة لعبت وتلعب دورا إيجابياً وسلبياً في بلورة هذه القضية بإجراء حوارات مع مسئولين ومثقفين وصناع السياسة الصومالية يناقشون القضية ويبدون آرائهم تجاه مستقبل البلاد ما بعد الحكومة الحالية، وعندها يتفاءل البعض الوضع المضطرب المجهول، ويتشائم البعض الآخر مستقبل البلاد.

هذا وقد تصاعدت وتيرة التحليلات والتنبئات منذ إعلان البرلمان ومجلس الوزراء في الصومال أنه لا يمكن إجراء انتخابات عامة حرة بمناطق البلاد المختلفة لأسباب جمة يصعب ذكرها في هذه المقالة، رغم أن هذا القرار في نظر الكثيرين لم يأت بجديد في الساحة، لأن كل من يتابع ويقرأ واقع الصومال الحقيقي يستغرب خطابات رجال الدولة التي فحواها إمكانية إجراء انتحابات عامة في الصومال عام 2016م، وأصبحت ديدنة كل مسئول يخاطب الشعب، ستكون الانتخابات القادمة (ONE MAN ONE VOTE) إلا أنها كانت أحلاماً تراود نفوس رجالات الدولة، بعيدة عن الواقع.وما زالت المؤتمرات والاجتماعات التشاورية حول هذا الحدث الجلل جارية في أروقة الدولة داخل وخارج البلاد ومع رؤساء الحكومات الإقليمية، وممثلي المجتمع المدني، والبرلمانيين، والمجتمع الدولي الذي له أيادي مؤثرة في صناعة القرار الصومالي، وكذلك الدول المانحة والصديقة، ولكن نتمنى للصومال وأهله خيراً إن شاء الله.

  • أما القضية الثانية التي لفت نظري إليها وجذبت انتباهي فهي كثرة الجامعات الأهلية في مقديشو، التي تعتبر من أكثر العواصم الإفريقية انتشاراً بالجامعات الأهلية الخاصة، عزيزي القارئ طبيعة الجامعات في مقديشو على أشكال.. بعضها تابعة لهيئات عالمية ومحلية، وبعضها تابعة لحركات إسلامية، وبعضها لمجموعات فكرية، وبعضها لمجموعات مهنية، بل بعضها لأشخاص ولأسر، وتتبع واحدة منها للدولة الصومالية وهي الجامعة الوطنية، ولكن لا أحد ينكر الدور الإيجابي للمؤسسات التعليمية والمدارس الأهلية في الصومال ما بعد انهيار الحكومة المركزية في البلاد عام 1991م، ولا يسعنا إلا أن نتقدم أطيب شكرنا وتقديرنا الفائقين لأولئك المثقفين الذين انبروا وتجرّأوا على تأسيس مدارس أهلية في الصومال، وفعلاً كانت فكرة سديدة منبثقة عن صميم المسئولية الوطنية، والشعور القويم بالدور الفعلي المرحلي لدى المثقف الصومال تجاه الوطن والمواطن، لهم منا كل الشكر والتقدير، ومن الله الجزاء والثواب إن شاء الله.

نعم التعليم بمراحله المختلفة خدمة جليلة، بل من أهم الخدمات المجتمعية التي تقدمها الحكومات لمواطنيها، له سياساته وبرامجه وخططه وميزانياته الخاصة، إلا أن التعليم النظامي الحكومي كان منعدماً قرابة ربع قرن من الزمن، ولا تمتلك الحكومة الصومالية الآن سوى جامعة واحدة وبكليات محدودة، تمّ تدشينها قبل عامين، بينما يوجد في مقديشو حوالي 50 جامعة خاصة أو أزيد، وما زال المجال مفتوحاً لظهور مزيد من الجامعات الأهلية في الأعوام القادمة.

انتشار الجامعات الأهلية ظاهرة طبيعية في الصومال، ولا غرو في ذلك لأن جميع الخدمات التنموية في الصومال من تعليم وصحة وتجارة واتصالات ومياه وغيرها أصبحت أهلية خاصة منذ ما بعد الحروب الأهلية، وانهيار الحكومة المركزية في البلاد.

لكن تجدر الإشارة بأن الأوضاع التي ظهرت وأنشأت فيها المدارس الأهلية سابقاً تختلف بكثير عن الأوضاع الراهنة التي تظهر فيها الجامعات من جوانب كثيرة ومتعددة. نعم أن دولة الصومال قد استعادت وجودها وكيانها الحقيقي، وأن لها حكومة فدرالية رغم ضعفها ومشاكلها الداخلية والخارجية.

في رأيي أن ظهور وانتشار الجامعات الأهلية في مقديشو له إيجابياته وسلبياته:.. ومن الإيجابيات أن الجامعات وفرت فرصا تعليمية للمواطنين، وأنها أبقت وخلصت من معاناة السفر والهجرة إلى الخارج للبحث عن فرص تعليمية، وبينما قلّلت الميزانية والتكلفة الباهظة التي يتطلبها التعليم في الخارج، وأنها إيجابية إذا كان القائمون بإنشاء هذه الجامعات يشعرون بالأمانة والمسئولية التعليمية تجاه أمّتهم، لأنها تخرّج أجيال اليوم والغد لأمّة كادت أن ينطمس وجودها ومعالمها التاريخي، لأمة مزّقت شملَها القبليةُ، وأبادت قِيَمها وتقاليدها العريقة، بل طمست هيبتها وشرفها في الساحة الإقليمية والعالمية أكثر من ربع قرن، وما زال الليل يحبو، وينزف دم الجريح فيها، بل وآثار تلك الحروب المدمرة وأطلالها باقية في ربوع مقديشو… ولا ننسى أيضاً أن الطلاب الذين ينخرطون في الجامعات هم أولئك الأجيال الذين ولدوا أو عاشوا تلك الفترة فترة البؤس واللأواء.

إذًا فالجامعات بحاجة إلى سياسة تعليمة مقننة، ورؤية إستراتيجية واضحة، ومنهج تعليمي هادف، وكوادر إدارية مؤهلة وأكفاء، ومعلمين غيورين رساليين ومهنيين تقودهم الرسالة والنخوة والمسئولية أكثر من المصالح الذاتية الدنيوية الضيقة.

أما على الصعيد السلبي فيكون انتشار الجامعات الأهلية في مقديشو بشكله العشوائي ظاهرة سلبية، تفسد أكثر مما تصلح، بل وتعمق فساد البلاد والعباد مستقبلا، وتكون المشلكة أفخم إذا كان الأمر مجرد فتح جامعة لمصالح شخصية أو مجموعات تسعى لدنيا تصيبها، أو تنال قسطا من متاعها، في هذا المضمار يرى البعض أن بعض الجامعات في العاصمة مجرد محالات تجارية ليس إلَا، لأنها تفتقد رؤية تعليمية واضحة، وليس لديها رسالة هادفة تجاه المجتمع غير التي تخدم لمصالحها، وعلى هذا أصبح ضررها أكبرمن نفع المرجو منها، بل إن بعض الجامعات تفقد أبسط أدبيات ومسئوليات التعليم، حيث لا رسوب في امتحاناتها، ولا رقابة في أدائها العام، وتُنتهك مقومات الأمانة العلمية فيها، فإنها بلا شك سوف تخرّج أجيالاً دون المستوى علمياً وثقافياً بل وأخلاقياً.

إذاً نصيحتي للقائمين على زمام الجامعات الأهلية في الصومال وفي مقديشو على وجه الخصوص … التعليم أمانة ومسئولية، فلنتق الله في هذه الأمانات والمسئوليات، وأن الله سوف يسألنا عن تلك الأمانة والمسئولية – كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته –إذا ضيّعناها أو أدّينا حقها على الوجه الأكمل، ولا ننسى أيضاً أننا نخرّج ثمرة مستقبل الأمة التي أصلها ثابت في الصومال وفروعها بل وصادراتها في العالم، وأن العلم والعالِمَ عاملان مشتركان للكل، لا تحدُّهما حدود الأقطار الجغرافية. ولتكن تلك الثمرة طيبة كشجرة مثمرة طيبة تنتفع بها الإنسانية جمعاء.

نعم ينقص التعليم الأهلي الحالي الكثير من الضروريات وركائز أساسية من سياسات ورؤية وبيئة تعليمية مناسبة، ومناهج وكوادر وخبراء، بل وإمكانات مادية ومعنوية، إلا أنني أتفاءل خيراً لمستقبل الجامعات الأهلية في الصومال إذا تكاتفت وتعاونت القيادات والمسئولون عن المؤسسات التعليمية، وتكون لديهم رؤية مستقبلية موحّدة، واستراتيجية واضحة للسياسة التعليمية بالجامعات.. وكم كنت متفائلا أكثر عندما دُشّن في مقديشو قبل شهرين اتحاد للجامعات الصومالية، وشاهدت الحدث عبر القنوات والفضائيات المحلية والعالمية وأنا في خارج البلاد، حقيقة تبدو لي خطوة إيجابية تقود الجامعات إلى الوحدة والتعاون في مجالات عدة تلعب دورا ملموسا في تطور الجامعات وتطويرها، إذا كان الهدف من الاتّحاد الإصلاح وجودة التعليم بل وتحسين الأوضاع التعليمية في الجامعات، إلا أنني فوجئت بإعلان تدشين اتحاد آخر للجامعات في مقديشو بعد أسبوع على الأقل وبنفس المهام والمقصد، وكم هو مخيّب للآمال، غير أن الانشقاقات والانقسامات الداخلية كانت ديدنة المؤسسات الصومالية والقائمين على أمرها في الآونة الأخيرة، وخير دليل على هذا المنوال اختلافات وخلافات بين السّاسة الصومالية، وفي أوساط الحركات الإسلامية والفكرية، والأحزاب السياسية، ومؤسسات المجتمع المدني وما أكثرها في البلاد، كل تؤدي الغرض نفسه رغم تعدد أسمائها، وتباينوسائلها، لكن فكل الطرق تؤدي إلى روما. وكذلك الشركات التجارية، بل وأَثَّر الانقسام على الجامعات والمؤسسات التعليمية نفسها، انظر عدد الجامعات وروابط التعليم الأهلي في مقديشو فقط،ناهيك عنها في ربوع البلاد، ذاك واقع الانقسامات الداخلية في الشأن الصومالي مؤخراً.

هذا وقد زرت بعض الجامعات أثناء وجودي في مقديشو، وناقشت مديري الجامعات حول أهمية هذا الموضوع، وإيجاد حلّ للمشكلة، بل وكنت ضيفا في برامج تعليمية لبعض الإذاعات المحلية المعنية بشأن التعليم، قدّمت فيها بعض الاقتراحات في حيثيات وطبيعة اتحاد الجامعات في الصومال، وإيجاد حلّ جذري لهذه القضية، وطرحت السبل الكفيلة للحلَ في رأيي.

  • انشار ظاهرة البطالة في أوساط الشباب:

معلوم أن البطالة والفقر مأسات ومعضلة الإنسان الإفريقي لأسباب لا يمكن إحصاؤها،  ولا يعلم حلَها إلّا الرزّاق العليم، ولا غرو من أن يعانيها شباب الصومال في وضعهم الراهن، لأن الصومال واحدة من تلك الدول الإفريقية التي عانت وتعانيها،بل وأنهكت البطالة والفقر المصطنع، لا لقلة ثروتها، ولا لجهل أبناءها، لكن لسوء إدارة وفهم صحيحلاستغلال تلك الثروة في ظاهر الأرض وباطنها، وتوظيف الإمكانات المتوفرة فيها توظيفاً علمياً صحيحاً. والحديث عن أسباب انتشار هذه الظاهرة ذو شجون، والصومال ذاك البلد الذي أنهكته الحرب الأهلية الطاحنة منذ ما يقارب ثلاثة عقود من الزمن، وقضت إفرازاتها على الأخضر واليابس، وحينها طمست منابيع البلاد، وتكالبتعليهاالأعداء،وأصبحت جميع ثروات البلاد في ضياع ونهب،… وهذه واحدة من الأسباب في أصل القضية. وبعدها دخل البلد في دوامة من الحكومات الانتقالية التي لم تحرك ساكنا في هذه القضية، وما كان في وسعها أن تجدي شيئاً في هذا الملف الشائك، لضعفها الإداري، وهشاشتها التنظيمي، ولم يتعافى الصومال من تلك الأزمة حقيقة، دعك عن إيجاد حلّ للبطالة.

أما الحكومة الحالية رغم احترامي الشديد فهي وليدة من حيث الوجود أو العمر، وأن مشاكلها العالقة في ملفاتها المحلية والإقليمية، والقضايا ذات الأولوية في أروقتها يَجُنّ جُنُونُها، قهي أيضاً ضعيفة تنتظر المساعدات من المجتمع الدولي والدول المانحة لرمق احتياجاتها، وتوفير رواتب موظفيها وعمّالها منها، رغم ثروتها الثمينة المتوفرة في ظاهر وباطن أراضيها، والتي هي أيضاً مهدّرة لم تستغل بطرق أنسب، إضافة إلى عراقيل أخرى تستنزف طاقاتها المحدودة.. من خلافات بين السلطات، وصراعات في البرلمان، ودستور مؤقت ينقصه فصل الخطاب، ومعضلة الفدرالية المجهولة، وأيادي خارجية وداخلية مؤثرة في مركز صنّاع القرار بالبلاد سلباً أو إيجاباً، ..و..و..و… ولكن إلى متى سيستمر هذا الوضع؟ وأنّى يكون لهذه الحكومة أن تفّكر في إيجاد حلّ جذري لمشكلة البطالة في البلاد، بل إن أغلب موظفيها في مرافق الدولة المختلفة لم يتقاضوا رواتبهم الشهرية وحقوقهم اليومية لمدة ثلاثة أشهر، منهم الجيش الوطني والشرطة، وموظفوا الوزارات، وأساتذة الجامعة وغيرهم.

وهذا الضعف في إمكانية الدولة يؤثر أيضاً في عدم استيعاب موظفين وعمّال كُثُر بمرافق الدولة المختلفة من وزارت ووكالات ومجالس، مع العلم أنه ليس بوسع الحكومة كل الحكومات أن توظّف جميع أفراد شعوبها، وإنما تخلق لهم أجواء عامة، وتخطط لهم سياسات العمل ومعايير لاختيار الموظفين والعمّال سواء في القطاع العام والخاص، ووفق هذه المعايير والسياسات يتوزع أفراد الشعب على تلك القطاعات. ولكن مع الأسف أن معايير اختيار الموظفين والعاملينفي وزارات حكومتنا جلّها معايير قبلية جهوية حزبية مصلحية أو مجرد علاقات، إذ لا ترقية مهما أنجزت، لا جزاء ولا عقاب مهما أصلحت أو أفسدت… وهذه أيضاً كارثة نوعية تكرّس الفوضى والظلم في التوظيف. ولكن:

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه *** وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذى ترك الأوهام حائرة *** وصيّرالعالم النحريرزنديقا

ومن تلك الأسباب أيضاً سيطر القطاع الخاص من تعليم وصحة وتجارة وشركات للاتصالات وقطاع الكهرباء والمياه أشخاص وجماعات لديهم مقاييس ومعايير خاصة، فاختيار الموظف والعامل المناسبين يأتي وفق مصالح المؤسسة المعنية ومعاييرها الخاص بها، قد تكون مخالفة لمعايير الجودة والأهلية المجدية.

ومن أسباب البطالة أيضاً – في رأيي – اليأس السافر، والتشاؤم الواهي في هذه الفئة، واعتماد المتعلم على الغير دون أدنى مبادرة شخصية، ولا اختراع فكري لتتعدد مصادر طلب الرزق وحتى يعتمد على نفسه، رغم الإيمان بأنه ما من دابة في الأرض إلّا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين. وهذا أيضا عامل آخر يخلّد البطالة في أوساط الشباب متعلمين ومثقفين بل ومهنيين.

والجدير بالذكر أن هذه الظاهرة كانت لافتة، وتعتبر من أفزع الظواهر انتشار في مقديشو، إلّا أن الشعب الصومالي بطبعه تكافلي، فللّه المنّ والفضل، ومن أكثر شرائح المجتمع الصومالي تضرراً بها – حسب رأيي– خرّيجو المدارس الثانوية والجامعات وحاملو الشهادات العليا ثم الذين يلونهم، وأكثر المتعلمين الذين التقيت بهم يعانونها. ولكن لو اعتمد المتعلم على نفسه ثم كافح وناضل وأبدع بل واجتهد واستعان لأوجد حياة أفضل مما هو عليه الآن، ولخفّت معاناته المعيشية، إذ لكل مجتهد نصيب.

  • مما لفت نظري أيضاً: استقرار وتحسّن الأوضاع الأمنية في مقديشو.

مدينة مقديشو في حال من الأمن والاستقرار مقارنة بأحوالها الأمنية قبل أربعة أعوام حيث ظاهرة القتل العمدي المدبّر متفشية في طرقاتها، والتفجيرات الدموية التيتتصاعد وتيرتها حينا بعد حين، واغتيالات رجال الدولة وكل من له صلة بالدولة من قريب أو بعيد شبه يومية، وأن الخوف والهلع كانا يسودان في نفوس أولئك في كل حين وآن. إضافة إلى إطلاق رصاص بشكل عشوائي وبأمور تافهة، والحواجز المرورية المسلطة على جيوب الشعب وأصحاب المركبات والمواصلات العامة كانت مفروشة على شوارع المدينة بل وعلى مداخلها ومخارجها، والكل كان يحمل السلاح في المدينة راكباً وماشياَ بحيث يصعب التمييز بين شرطي وجيش وحارس، وسارق، بل وصالح وطالح.

ولكن بفضل لله ومنّه كل ذلك لم أجده في مقديشو العاصمة، قضيت أيامي فيها مطمئنة وهادئة، وأجواء المدينة تسودها السكينة والاستقرار، ومظهر مقديشو يتباها بجمالها الطبيعي، غير أن أغلب شوارع مقديشو عدا شارع مكة المكرمة، وشارع المطار والميناء ما زالت على آثار وأطلال الدمار.

والجدير بالذكر أن شوراع مقديشو مضيئة ليلاً، وأن المواصلات العامة في بعض أحياء المدينة تشتغل إلى وقت متأخر من الليل، وأن جلسات السمر في فنادق مقديشو والأندية العامة فيها تستمر إلى الساعة العاشرة والحادي عشرة ليلاً وإلى منتصف الليل أحيانا … وكل هذا ما كان تفتقده مقديشو لأكثر من عشرين سنة.

ختاماً كان هذا مجمل المواقف والمشاهد التي جذبت انتباهي، ولفت إليها نظري أثناء رحلتي القصيرة إلى مقديشو.وأتمنى لمقديشو والصومال كل الخير والازدهاروالتطور والأمن، ونسأل الله عز وجلّ أن يعيد لمقديشو مجدها وشرفها، وللشعب الصومالي هيبته وكرامته إن شاء الله.

الدكتور فوزي محمد بارو ( فوزان )

الدكتور/ فوزي محمد بارو (فوزان)، رئيس جامعة أطلس الصومالية، كاتب وباحث أكاديمي متخصص في مجالي التربية واللغويات، عمل رئيس تحرير لمجلتي "لسان العرب والوطن" في السودان، ومديرا عاما لمركز الفاروق للتعليم والتنمية بالصومال، ومديراً إقليمياً للجنة مسلمي إفريقيا مكتب الصومال، عمل محاضراً وباحثاً بجامعتي إفريقيا العالمية بالسودان، وجامعة السميط بتنزانيا، ورئيس قسم البحوث والنشر بمركز البحوث والنشر والاستشارة بزنجبار، وعميداً لكلية الآداب والدراسات الاجتماعية بجامعة السميط بتنزانيا، وهو عضو مؤسس بجامعة دار الحكمة بالصومال، ويعمل حالياً مستشارا وعضواً في عدد من الهيئات المحلية والعالمية، وله العديد من المقالات والبحوث والكتب في مجالات العلم المختلفة.
زر الذهاب إلى الأعلى