عباقرة لهم أصول في منقطة القرن الإفريقي(44) الشيخ عبد الرحمن بن أحمد الزيلعي (4)

انتقال الزيلعي إلى قريةقلنقول:

ورغم أنّ الزيلعي تلقى ترحيباً كبيراً عند قدومه على مدينة جكجكا- وعلى رأسهم فضيلة الشيخ عبد الله علي المعروف بـحاج جامع العالم المشهور في المنطقة – ومن ثمّ نجاح دعوته إلا أنّه انتقل إلى قرية قلنقول التي تقع جنوب جكجكا التي تبعد عنها حوالي 200 كيلو متر حوالي عام 1860م على حد قول سعادة الدكتور المؤرخ محمد حاج مختار رعاه الله [1]

بعد أن تلقى دعوة من أحد أعيان قلنقول وهو فضيلة الشيخ يوسف بن أبي بكر الذي أصبح فيما بعد ساعده الأيمن في إدارة قلنقول ورفع مستواها العلمي والدعوي.وقد ذكرنا هجوم الأحباش على جكجكا وقتلهم أعداداً كبيراً من طلبه الشيخ وما نتج عنها من أثار سلبية أثرت على نفسية الزيلعي، ولعل انتقاله إلى قلنقول يرجع إلى ذلك بحثاً عن مكان آمن مستقر بعيد عن عبث الأحباش وفسادهم حتى يتمكن من أداء الدعوة الإسلامية ونشر العلم وإرساء قواعد أركان الدين الإسلامي في المنطقة، وقد يكون ذلك من أسباب مغادرة الشيخ وطلابه من جكجكا ومحاولة الابتعاد عن تلك الحروب والهجمات المتكررة التي كانت مدينة جكجكا تتعرض لها بين الفينة والفينة، والتي كان من بين ضحاياها عدد كبير من تلاميذه كما ذكرنا آنفاً.

ومهما كان الأمر فقد غادر  الشيخ عبد الرحمن الزيلعي وطلابه المقربون من جكجكا إلى قرية قلنقول التي أصبحت فيما بعد منارة للعلم والمعرفة يأوي إليه طلبة العلم من أنحاء المختلفة، بحيث استأنف الشيخ نشاطه التعليمي التربوي، وبذلك انضم إلى حلقته الدراسية الجديدة أعداد كثيرة من طلاب العلم والمعرفة، وما زال هذا العدد يزداد يوماً بعد يوم حتى بلغ في بعض الأحيان إلى أكثر من ألف طالب، ذلك أن الشيخ لم يكن يُدَرَّسُ مادة واحدة في حلقته الدراسية، بل أعداداً كبيرةً من المواد حتى قيل إنه كان يُدَرَّسُ في اليوم الواحد ما لا يقل عن اثنتي عشرة مادة.وفي ذلك يقول فضيلة الدكتور علي الشيخ أحمد أبو بكر حفظه الله – ” هؤلاء الطلاب أصبحوا يتوجهون إلى قرية قلنقول التي أصبحت مركزاً مستقراً يمكن أن يأوي إليه الطلاب، ولقد تجمعت أعداد كبيرة في المركز الجديد والمدرسة الفريدة التي أعطت المجتمع نوعا من التطور الاجتماعي، وآخر من التقدم العلمي، حتى زاد عدد الطلاب وارتفع الأرقام في الأوقات العادية إلى أكثر من ألف طالب في مختلف المستويات”.[2] وقد ذاعت صيت قنلقول إلى الآفاق وانتشرت سمعتها بين أوساط المجتمع في المدن والقرى حتى تزاحم الناس وصارت مكتظة بطلبة العلوم الشرعية من كل حدب وصوب.

ولعل الهاجس الحبشي وهجماتهم على السكان الآمنين يرجع مرده إلى خوفهم من المسلمين بسبب ذاكرتهم ما ألت إليه؟ نتيجة الحروب التي قادها الإمام أحمد جران في القرن السادس عشر ضدهم رداً على عدوانهم المتكرر وإيقاف زحفهم على الممتلكات المسلمين وأراضيهم في تلك الفترة. وخوفاً من ذلك كله أخذوا يشرعون في حروب دينية ضد المسلمين في المنطقة بما في ذلك أتباع الشيخ الزيلعي رغم أنّ منهج جماعته كان يتصف بالسلمية وينصب فقط على نشر العلم والدعوة الإسلامية بعيدة عن العنف وحمل السلاح إلا سلاح العلم والمعرفة. وهو أمر كان يعرفه الداني والقاصي، ومع ذلك شنّ القوات الحبشية حرباً لا هوادة فيه ضد المسلمين بما في ذلك قرية قلنقول وضواحيها خوفاً من ظهور حركة جهادية ظناً منهم بأنّ أتباع الزيلعي ربما يقومون لهذا الدور الجهادي أو مرشحة لحمل السلاح، ومن هنا لم يهدأ بال السلطات الإيثوبية إلا لقضاء هؤلاء الآمنين، ويبدوا أن الشيخ عبد الرحمن الزيلعي أحسّ هذه النوايا العدوانية الحبشية السئية– كما يقول ذلك شريف علوي – فقرر البحث عن أماكن أكثر أمناً واستقراراً من مقره السابق جكجكا ، فارتحل إلى مستوطنة قلنقول وذلك حتى يبتعد عن خطرهم وعدوانهم ، ومع هذا كله أخذ الأحباش الهجوم علي المقر الجديد في قلنقول عام 1893م وأحدثوا فيها من التخريب والتدمير ما يفوق الوصف. ما أشبه “الليلة بالبارحة” لاسيما إذا نظرنا التصرفات الحبشية اليوم رغم سقوط الصومال وانهيار قوته السياسية والعسكرية الاقتصادية ومع ذلك لم تتوقف هجماتهم وتدخلهم في الشؤون الداخلية للبلاد، بل وإشعال نار الفتنة وتأجيجه، وهذا – وكما تقول الكاتبة القديرة الأستاذة فاطمة الزهراء بنت علي الشيخ أحمد أبو بكر في مقالها شراكة المصالح – ” غني عن القول أن العلاقات الإيثوبية الصومالية متخمة بتركة تاريخية مريرة وبإشاكلات حاضر لا يقل مرارة. فالنزاعات الدينية والسياسية وحروب الوكالة والاجتياحات العسكرية ومساعي الهيمنة، أسبغت على العلاقة طابعاً من عدم الأمان المتبادل.”[3]

ولم تأت من فراغ الصرخة العالية للمفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد عمارة  قبل ثلاثة أيام  على موقع “عربي 21” تحت عنوان “إسرائيل وإثيوبيا وخراب مصر!” ، بحيث كشف مخططات إثيوبيا لتدمير مصر عبر بناء سد النهضة وأنها تأتي تنفيذاً لوصايا باباوات أوروبا في إطار الحرب الصليبية على ديار الإسلام وتنفيذاً لبنواءات توراتية تؤمن بها كل الكنائس النصرانية.[4]ولكن ثقتنا على أروبا العلمانية وعدم اعطاء الفرصة لهؤلاء المتطرفين الكهنوتيين، وعدم سماح التدمير على الشعوب بأكملها عبر ضرائبنا وضرائب أهل الأحرار من هنا وهناك.

أما ما يتعلق بالزيلعي وأتباعه ورغم أنّهم تحولوا إلى قلنقول مبتعدين عن خطر الأحباش وعدوانهم إلا أن القوات الحبشية ما لبثت أن أخذت تطارد أتباعه بعد وفاته بعشرة سنوات، بحيث هاجموا على المقر الجديد في”قلنقول” كما أشرنا آنفاً وعاثوا في الأرض فساداً. وقد شاهد آثار ذلك العدوان الرحالة الإيطالي، فيتوريا بوتنجو الذي زار مستوطنة قلنقول في هذا العام، وكتب ما يلي: “إنه أثناء رحلتي عبر قلنقول عام 1893م، قد شاهدت آثار التدمير والنهب والسلب الذي قامت به القوات الإثيوبية في مستوطنة الطريقة Tariqa Settlement (حرت أولا مدو)” –أي أتباع الشيخ الزيلعي وطلبته.

ويدل على ذلك اعجاب الناس للشيخ الزيلعي وحركته العلمية وإعطاهم بالاهتمام الكبير، بما فيهم الباحثون الأروبيون، وهذا الرحالة البريطاني سويان مؤلف كتاب ” سبع عشر رحلة في الأراضي الصومالية” قد شاهد مقر المجتمع الزيلعي وذكر قائلاً : ” “قابلت مؤسس حركة”حرت أولا مدو”في إحدى رحلاتي السبع عشرة، وكان حينئذ شيخاً هرماً، وكانت الحركة أو المستوطنة مليئة بالعلماء والمدرسين (ودادو، ومعلمين) من مختلف القبائل الصومالية، وكانت المستوطنة كبيرة مثل ميدنة هرجيسا”، كما نقل ذلك شريف علوي على أدم، ويقال إن الذي رآه الرحالة البريطاني، سويان، لم يكن الزيلعي، وإنما كان الشيخ محمد الدندراوي، مؤسس الطريقةالدندراوية في المنطقة، لكن المكان الذي يتحدث عنه سويان هي المقر الرئيسي لأتباع الزيلعي وبالذات وادي فاتن.

وعلي العموم ومنذ أن انتقل الزيلعي إلى مقره الجديد قلنقول ألزم نفسه فيها بحيث قضى ما تبقى حياته فيها، مؤدياً واجه تجاه الدعوة الإسلامية ونشر العلم، وكان خلالها شيخاً ومعلماً ومربياًحبس نفسه في القرية، بحيث لم يخرج منها إلا لأداء فريضة الحج، أو لبعض الزيارات الموسمية للمراكز العلمية التي أنشأها في كل من هرر وجكجكا حتى مات،بل وأعطى جلّ جهده لاخراج جيل صالح لحمل الرسالة ويقوم نشر العلم في المنطقة، ومن هنا لم يهمل أن يركز على التربية الحسنة والتزكية النفسية حسب المستطاع، بدءاً بنفسه ومن يلتف حوله من خواصته، ويقال أنّه سخر كل طاقاته وإمكاناته لخدمة المجتمع، ومحاربة الأمراض الاجتماعية التي تنتشر فيه، وتبث بدور الفتنة والفرقة بين أفراده، وتحول دون تكاتفه وتعاونه. ومن هنا فلا غرابة إذا اعتبر الغيبة والنميمة من أخطر هذه الأمراض؛ ولذلك حذر منهما كثيراً؛ بل وألف كتيباً خاصاً بهما بعنوان:”إلقام الشكيمة لأرباب الغيبة والنمنيمة”. وهذه الحالة تعكس مدى انزعاج الزيلعي من انتشار هذه الظاهرة بين شرائح المجتمع المختلفة، وبخاصة بين طلبة العلم.

وعلى الرغم من أنّ الشيخ عبد الرحمن الزيلعي قد منّ الله عليه العلم الكثير ورجاحة العقل وفصاحة اللسان إلاّ أنّه كان عفيف النفس لا يحب الرياء والسمعة، ويميل كثيراً إلى خفاء الحياة وعدم الظهور، يغلب العاطفة وحب الآخرين، ومع هذا لم يكن يسكت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل كان حريصاً على إبعاد مجتمعه عن الآفات الاجتماعية التي كانت تكثر في عهده، والتي دونما شك أو ريب، تفسد علاقة بعضه ببعض، وتؤثر في إشاعة الإخاء والوئام والمحبة بين أفراده، وعلى رأسها الغيبة والنميمة، كما نجد ذلك في مقدمة كتابه السابق ” إلقام الشكيمة لأرباب الغيبة والنمنيمة”. التي جاءت ما يلي بعد أن حمد الله وصلى علي المصطفى” أما بعد فلما عمت البلوى بالغيبة والنميمة، ولم ينج منهما إلا نزر ممن خصوا بصدور سليمة حتى صارت المجالس، بل المدارس بهما معمورة، ومقالة من أنكرهما هي المنكرة، واستوى فيهما الكبير والصغير، والجليل والحقير، أردت أن أكتب على هذه الأوراق ما أحذر به عنهما نفسي، وأجنب به عن سوء حدسي، وما يتعظ من تدبر فيه ممن أراد أن يتعظ ويتذكر؛ فجمعت ما التقطته؛ واستفدته من كتب الأعلام، موشحاً به بذكر ما ورد في هذا الباب من الآيات العظام، والأحاديث النبوية الشريفة، ورتبته على مقدمة، وسبعة أبواب، وخاتمة، وسميته”بإلقام الشكيمة لأرباب الغيبة والنميمة”. والله أسأل أن ينفع به النفع العميم، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم”.

والحقيقة التي لا جدال فيها أنّ الزيلعي كان عالماً كبيراً كرّس حياته لخدمة العلم والمعرفة، واصلاح المجتمع، ولم يأت من فراغ انتساب شريجة كبيرة من المجتمع في منطقة شرق إفريقيا إليه منهجاً وطريقةً، بل وتناقل الناس أخباره الحسنة وصفاته الحميدة، كما يشهد له بذلك ما نجده اليوم من  إنتاجه العلمي وما ترك من ورائه من تراث تربوي وأدبي ولغوي من كتبه سواء المخطوطة منه أو المطبوعة.

المراجع

[1]– Historical Dictionary of Somalia p.202

[2]– الدعوة الإسلامية المعاصرة في القرن الإفريقي، ص 132-133، نقلا عن كتاب ” دراسة الأدب العربي في الصومال لصاحبه شريف علوي علي أدم.

[3]– http://www.sasapost.com/opinion/somalia/

[4]– http://www.elshaab.org/news/199314/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%83%D8%AA%D9%88%D8%B1-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D9%8A%D9%83%D8%B4%D9%81-%D8%A3%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%B1-%D8%AE%D8%B7%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D8%B9%D9%86-%D8%B3%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%B6%D8%A9-%D9%88%D8%A8%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D9%88%D8%A7%D8%AA-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى