عباقرة لهم أصول في منقطة القرن الإفريقي( 43) الشيخ عبد الرحمن بن أحمد الكدلي الزيلعي (3)

إلى الأراضي المقدسة:

تحدثنا في الحلقة الماضية عن أحوال الشيخ عبد الرحمن الزيلعي العلمية واحتكاكاته مع أهل العلم في مدينة هرر وما جرى بينه وبين أقرانه، وفي هذه الحلقة سوف نسلط الضوء على رحلة الشيخ الزيلعي إلى أرض الحجاز حيث هناك مكة والمدينة النبوية بغية أداء شعيرة الحج والعمرة إضافة إلى طلب العلم وحصول المعرفة من خلال الحلقات العلمية التي كانت منتشرة في الحجاز، ومن هنا انطلق الزيلعي من مدينة هرر قاصداً إلى الأراضي المقدسة لأداء مناسك الحج والعمرة، وربما كان ذلك تقريباً عام 1870م، وبعد إكمال المناسك انضم إلى الحلقات العلمية التي كانت – ولا زالت- تنتشر في الحرمين الشريفين، وشارك في المناقشات المختلفة التي كانت تدور حينئذ حول المواضيع السياسية والفكرية والدينية، وكان ذلك في الوقت الذي كانت الأمة الإسلامية تتعرض لهجمة شرسة من قبل الاستعمار الأوروبي.

وخلال وجود الزيلعي في الحرم المكي التقى أحد علماء الصومال وهو فضيلة الشيخ أبو عبد السلام حاج جامع أحد أعيان منطقة الصومال الغربي” الأوغادين” وخاصة مدينة جكجكا، ولعل الشيخ عبد الرحمن الزيلعي سمع خبر الشيخ قبل انطلاقه من المنطقة لأنّ هرر وجكجكا كانتا تشتركان في أمور كثيرة ولهما علاقات ثقافية وعلمية، بل إنّ كلا المدينتين كانتا تقعان – وما تزالان تقعان حتى الآن – تحت الاحتلال الحبشي الإيثوبي، ومن هنا فلا يستغرب أن يبحث الشيخ عبد الرحمن الزيلعي عن حاج جامع الذي كان متبحراً في العلوم الشرعية واللغة والأدب حتى تربع في الحلقات التي كانت تعقد على جنبات الحرم المكي، ومن هنا استحقت حلقته أن يقصد إليها القاصي والداني بغية استفادة ما منّ الله به من علوم ومعرفة.  وأكثر من ذلك فقد تحدث الزيلعي وابن جامع الأوضاع العلمية في منطقة القرن الإفريقي وبعد استعراض فقد اتفق الشيخان على العودة إلى بلدهما ونشر العلم والمعرفة ، وعلى خدمة الدين الإسلامي ودعوته إلى الناس ، بسط اللغة العربية وأدابها.

ولكن وقبل رجوع الشيخ الزيلعي إلى المنطقة ومن خلال حرصه الشديد ورغبته الجامحة في الحصول على العلوم الإسلامية من القرآن وعلومه والحديث وعلومه والفقه وأصوله واللغة والأدب شرع في أكثر من حلقة علمية يدار في الحجاز سواء بتلك التي كانت مكتظة في الحرمين الشريفين أو الآخرين في أكثر من رباط وزاوية وبيت من أهل العلم ، مثل حلقة الشيخ إبراهيم الرشيدي أحد العلماء الأعلام في الحجاز الذي ينحدر من بلاد السودانوالذي ولد سنة 1263ه الموافق سنة 1837م، ومن خلال كثرة تردد الزيلعي بالشيخ إبراهيم الرشيدي تطورت علاقتهم حتى توطدت وصلت إلى مرحلة متقدمة، – كما يقول ذلك شريف علوي آدم علي – واحتكاك الزيلعي بالرشيدي لها قيمتها الخاص لاسيما إذا عرفنا بأنّ الأخير من طلاب الشيخ أحمد بن إدريسي الفاسي المغربي قائد الطريقة الأحمدية ومؤسسها، بالإضاف إلى أنّ الشيخ إبراهيم الرشيدي قد عاصر نخبة من أهل العلم والذين تتلمذوا أيضاً على يد الشيخ أحمد بن إدريس الفاسي مثل السيد الشريف محمد بن علي السنوسي الشهير بـ السنوسي الكبير، والسيد الميرغني، والسيد سليمان بن ابي القاسم الأهدل، والسيد بشير بن شبير بن مبارك الحسنيوالسيد الطيب بن محمد بن ادريس وهو ابن اخيه، وكذلك الشيخ محمد المجدوب العباسي السواكني، والشيخ على عبد الحق القوصي، والشريف عبدالرحمن بن سليمان الأهدل، والشيخ القطب الغوث سيدي الشيخ صالح الجعفري إمام الجامع الأزهر. وكان الزيلعي يدرك شخصية الشيخ إبراهيم الرشيدي ومستواه العالي في النواحي الدينية والعلمية ومن ثمّ كثرت اللقاءات بحيث جرت بينهم علاقات حميدة عبر مناقشات وحوارات وتطرقت إلى مختلف المجالات الفكرية والاجتماعية والدينينة في العالم الإسلامي عامة ، وفي شأن القارة الإفريقية خاصة.

وقد لاحظ الشيخ إبراهيم الرشيدي نباهة الزيلعي ورجاحة عقله لذلك حاول أكثر من مرة لتأثيره لينضم إلى الحركة  الإصلاحية التجديدية في العالم الإسلامي لأنّ الزيلعي رغم علمه الغزير ونشاطه الدعوي المثمر، كان من دعاة التقليد وتقبل الأمر الواقع، ولا يستغرب محاولات الشيخ الرشيدي لكسب الزيلعي لأنّه شرب من معين شيخه أحمد بن إدريس الذي يعتبر من دعاة التجديد والإصلاح، ذلك العالم القائد الذي جال في عدد من المدن والعواصم الإسلامية، ومن بينها مكة المكرمة، ودعا إلى التجديد، وتحديث المجتمعات الإسلامية في فترة كانت الأمة تعيش تحت وطأة الاستعمار وفي سبات عميق. ورغم أنّ الزيلعي لم يستجب دعوة الرشيدي فوراً إلا أنّه وبعد إلحاحِ كبيرِ طلب منه أن يمهل له فرصة يفكر فيه الأمر ويقرر من خلالها ماذا سيفعل، وفترة وجيزة التقى الشيخان مرة أخرى وقد جاء جواب الزيلعي عن طريق أدبي موسقي بحيث أنشد الزيلعي أبيات شعرية يشرح فيه موققه من دعوة الشيخ الرشيدي مثل قوله:

إذا لم تذق ما ذاقت القوم يا فتى  **  فبالله يا خالي الهوى ، ولا تعنفي.

ومهما كان فإن الشيخ عبد الرحمن الزيلعي رجع إلى بلاده مرة أخرى بعد أداءه مناسك الحج وبالذات مدينة هرر المحروسة، غير أنّه لم يمكث بها كثيراً بحيث عبر إلى مدينة جكجكا التي تقع شرقي هرر، وتبعد عنها حوالي مئة كيلو متر، وذلك إفاءاً للعهد الذي أعطاه أحد العلماء الأعلام من أهل الصومال في الحجاز وهو حاج جامع – كما أشرنا ذلك آنفا – لأنهما تعاهدا معا أن يرجعا إلى المنطقة بغية نشر العلم والدعوة الإسلامية، ومع مشاركة الأمة الهموم والغيوم.

الزيلعي في مدينة جكجكا:

وعلى أي حال فقد غادر الزيلعي مدينة هرر، واتجه إلى مدينة جكجكا لأي سبب كان، وفور وصوله إلى جكجكا نزل ضيفاً على صديقه حاج جامع الذي وصل المنطقة قبله تقريباً وفاء بالعهد الذي كان بينهما، وبدأ الشيخان نشاطهما العلمي والدعوي، وبذلك وجد الشيخ الزيلعي أرضاً تختلف عن هرر، وقبولاً وترحيباً كبيراً، ليس لها مثيل، ليس لدى عامة الناس فحسب، وإنّما عند أقرانه العلماء وعلى رأسهم حاج جامع، بل أنّ هذه العلاقة استمرت حتى بعد وفاة حاج جامع وانتقل إلى أسرته وخاصة عند نجله الشيخ عبد السلام الذي أصبح من طلاب الشيخ عبد الرحمن الزيلعي الذي حفظ مدرسة الزيلعي.

وأهل جكجكا وضواحيها أحبّوا الزيلعي حتى التفوا حوله، لأّنهم سمعوا شخصيته ونشاطه العلمي عندما كان متواجداً في هرر والتي لا تبعد كثيراً عن جكجكا، ومن هنا قصد إليه طلبة العلم وتزاحوا مجلسه العلمي حرصاً على الحلقات العلمية التي كان يعقد الزيلعي صباح مساء يومياً ما عدا يوم الجمعة. أما نوعية العلوم التي كان يقوم بها الزيلعي في تدريسها فيقول شريف علوي: ” أما المواد الدراسية فقد كانت، فيما يظهر، من فنون اللغة العربية كالنحو والصرف والبلاغة وعلوم القراءات. وهذه هي المجالات التي برز فيها نبوغه، وترك من ورائه مؤلفات تستحق الاهتمام والدراسة والتقدير”

وعندما لاحظ الزيلعي كثرة الوفود والقاصدين إليه ومن هنا حرص على اختيار نخبة خاصة يقوم تربيتهم تستطيع حمل رسالته العلمية والدعوية فأسس جماعة أطلق عليها بـ اسم “أولا مدّو”  أي ( طلبة أصحاب العصى السود) xerta ulo Maddow، وكان لهؤلاء دور كبير في إرساء أعمدة اللغة العربية في هذه المنطقة، غرب الصومال حتى أصبحت مقراً لعلومها المختلفة كالنحو والصرف والبلاغة والعروض يقصد إليها طلاب العربية يولون وجوههم صوب هذه المنطقة لدراسة تلك الفنون التي يطلق عليه (علم الآلة). واستمر الزيلعي في جكجكا منشرح الصدر  يقوم بالتدريس ويربي الأجيال ولم يوجد ما يعرك صفو الحياة حتى حصل هجوم حبشي نصراني على المدينة بحيث عاثت في الأرض فساداً وقتلاً، ومن بين الذين قتلوا بعض طلبة الزيلعي ومريديه مما أثر هذا الحادث على نفسيته وحزن حزناً كبيراً.

وللحديث بقية.

 

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى