عباقرة لهم أصول في منطقة القرن الإفريقي(42) الشيخ عبد الرحمن بن أحمد الكدلي الزيلعي (2)

الشيخ عبد الرحمن بن أحمد الكدلي الزيلعي (2)

رحلته العلمية:

ذكرنا فيما سبق بأنّ البدايات التعليمية للزيلعي كانت في مسقط رأسه قرية مبارك قرب منطقة بيولي بحيث أخذ هناك أول تعليمه وهو تعليم كتابة وقرآءة حروف الهجاء ثم حفظ القرآن الكريم على ظهر القلب،ثم انتقل إلى مرحلة أخرى من مراحل التعليم في الصومال، وهي مرحلة الحلقات الدراسية أو المدارس التقليدية التي كانت تنتشر في البلاد لدراسة العلوم العربية والإسلامية، التحق الزيلعي بهذه المدرسة وهو ما يزال في مقتبل العمر، وأخذ يحفظ المتون اللغوية والفقهية كعادة القوم في هذه المؤسسة التعليمية التقليدية حتى أتقنها، وأجاد في حفظها، لكن ما وهبه الله لهذا العالم من قلب واعٍ، وذاكرة قوية، ونفس طموحة، وهمة تسمو إلى المعالي، جعلته يفكر في السفر إلى مركز الحضارة، والثقافة العربية الإسلامية في جنوب البلاد وبالذات مدينة مقديشو لمواصلة تعليمه ودراسته هناك، ولا غرابة في ذلك لأنّ مدينة مقديشو قد شدّ الرحال إليها قبل الزيلعي مجموعات من طلبة العلم في داخل البلاد وخارجها بما فيهم كوكبة من أهل العلم، ويكفي أن نضرب مثلاً رحلة العلامة الشيخ محمد علوي بن أحمد الأستاذ الأعظم الفقيه المقدمي في القرن الثامن الهجري الذي قدم من اليمن حينما سمع الحالة العلمية فيها قبل مجيئه إلى الصومال، ومن هنا حزم حقائبه إلى مقديشو والتي كانت تعج بكوكبة من العلماء  والفقهاء الأجلاء، وتشهد حراكاً علمياً في جنبات مساجدها وساحاتها العلمية، وقد تتلمذ على أيدي العلماء الأفاضل وأخذ عنهم عدة علوم مختلفة من خلال حلقاتهم العلمية، غير أنّه كان يحرص على بعضهم مثل حلقة الشيخ جمال الدين محمد بن عبد الصمد الجهوي  ، وحاز منه علوماً كثيرةُ وبرع وجمع فيها ما جمع حتى فاق  أهل زمانه وتقدم بها على أقرانه ثم رجع إلى بلده تريم في اليمن [1]، وذلك نتيجة للتبادل الثقافي والعلاقات العلمية بل ومدى عمق العلاقة والاتصال بين الصومال والبلدان الإسلامية الأخرى وبالذات المناطق المجاورة ،مثل اليمن والحجاز ومصر ، وكذا الرحلات العلمية التي كان يخوض فيها طلبة العلم الصوماليين إلى المركز العلمية في العالم ثمّ رجوعهم إلى أرض الوطن بعد تحصيلهم العلمي وتفقههم في الدّينبالإضافة إلى تدفق العلماء والمثقفين إلى القطر الصومالي قد أثر على الحياة العلمية والثقافية في الصومال حتى صارت دوحة للعلم والمعرفة وقبلة  يقصد إليها طلبة العلم في أنحاء مختلفة من إفريقيا وآسيا. ولاشك أنّ قدوم هؤلاء من طلبة العلم على مقديشو إنّما  جاءت نتيجة ما وصلت إليه المدينة من الحالة العلمية قبل مجيئ هؤلاء إلى البلاد ،لذلك شدّ العلامة الشيخ عبد الرحمن الزيلعيالرحال إلى مدينة مقديشو كأول رحلة علمية يخوض فيهافضيلته خارخ مناطق بكول وباي. وفي فترة قدوم الزيلعي إلى مقديشو كان يتواجد فيها طائقة من أهل العلم والدراية يحيث كانت مليئة بالعلماء الأجلاء الأفاضل ، وقد تتلمذ على أيدي العلماء الأفاضل وأخذ عنهم عدة علوم مختلفة من خلال حلقاتهم العلمية ، غير أنه كان يحرص على بعضهم مثل حلقة الشيخ أبو بيكر محضار وحلقة الشيخ إسماعيل بن عمرالمقدشي، وحاز منهما علوماً كثيرةً وبرع وجمع فيها ما جمع حتى فاق  أهل زمانه وتقدم بها على أقرانه حتى أحبه شيخه المقديشي واصطحب معه في البادية والخلاء.

وعلى العموم سافر الشيخ عبد الرحمن الزيلعي الشاب إلى مدينة مقديشو لتحقيق ذلك المأرب؛ فاستضافه فيها أحد أبنائها، وأكبر شعرائها المجيدين، الشيخ عبد الرحمن بن شيخ عبد الله الشاشي المقدشي، المعروف”بحاج صوفي”. وهكذا كانت عادة أهل مقديشو ولاسيما سكان حي حمرويني وحي شنغاني، كما ذكر لي ذلك الشيخ محمد أحمد المشهور “بالشيخ أبا” وكانويقصدون وراء هذه الاستضافات أن يكرموا العلماء ويوفروا احتياجات العلماء وطلبة العلم من مبيت ومعاش وما يكفل لهم من حياة كريمة لكي لا ينشغلوا عن أهدافهم العلمية حتى يحققوا مآربهم النبيلة.

ونتيجة ضيافة الشيخ عبد الرحمن الصوفي بأخيه الشيخ عبد الرحمن الزيلعي تولدت بينهما صحبة خاصة وأصبح الاثنان زميلين ورفيقين ليس فقط في السكن والإعاشة فحسب، بل وفي الدراسة وطلب العلم والمعرفة. وقد انضم الاثنان إلى الحلقة الدراسية التي كان يديرها، ويدرس فيها أحد جهابذة العلم والمعرفة في مدينة مقديشو، وهو فضيلة الشيخ أبو بكر محضار المتوفي سنة 1293ه الموافق 1876م، وبقيا في حلقته فترة لم تحدده المصادر التاريخية مداها، ولكن الذي يظهر أنها لم تكن بأطول من أربع سنوات. وكان الشيخ أبو بكر محضار من أهم علماء المدينة وسيدها ، وكان طلاب العلم يقصدون إلى حلقاته العلمية وخاصة حلقة  الفقه الشافعي ، ويقال أنه عن طريقه انتشر الفقه في البلاد وأنّ أغلب جهابذة فقهاء مقديشو وضواحيها تلقوا الفقه عن طريق الشيخ أبو بكر محضار.

وعندما وصل إلى مدينة مقديشو أحد العلماء الأجلاء وهو العالم الجليل الزاهد الشيخ إسماعيل بن عمرالمقدشي،ومعه عدد كبير من طلبة العلم، أصبح الشيخ عبد الرحمن الزيلعي ممن أهتم بهذا الشيخ وحلقاته العلمية حتى نهل منه علماً كثيراً – كما أشرتُ ذلك آنفاً – ، وبعد ملازمته قرر الشيخ إسماعيل بن عمر المقديشي الخروج إلى خارج المدينة والتجول في القرى والأرياف في جنوب البلاد وقد صحب الشيخ الزيلعي بشيخه المقديشي كما اصطحب بعض طلبة العلم الأخرين إلى البادية، بحيث أخذوا  يتجولون في سهول الصومال ورباها يقضون ليلة هنا، وأخرى هناك، تستقبلهم القرى البدوية بالترحيب، والودّ والأناشيد ، وتقدم لهم ضيافة كريمة  كما هو عادة أهل الصومال التي لم تزل سائدة وبخاصة في البيئات الريفية والبدوية إلىيومنا هذا.

ويبدو أن الزيلعي كان يتلقى من شيخه، إسماعيل المقدشي، التدريب التربوي والتعليمي، وأنه قضى في مدرسته فترة تمكن من خلالها إكمال آخر المراحل التعليمية التقليدية بحيث اعتبر بعدها خريجاً مؤهلاً للقيام بالأعباء التعليمية والتربوية بنفسه.

رجوع الزيلعي إلى منطقته:

الحديث عن رحلة الزيلعي كتبها باسهاب السيد علوي شريف علي آدمعند حديثه عن شخصية الزيلعي وإنتاجه العلمي عند دراسته المستفيضة في مقدمة تحقيقه كتاب “حديقة التصريف” للزيلعي، وأشار بأنّه رجع إلى منقطته وبالذات إلى مسقط رأسه قرية مبارك بعد أن نال قسطاً كبيراً من العلم،وأكمل التعليم التقليدي الذي كان سائدافي المنطقة من القرآن وعلومه والفقه وأصوله والحديث وعلومه واللغة وأدابها وفروعها.وفور رجوعه واجهت الزيلعي بعض الصعوبات والمشاكل الاجتماعية التي لم يتوقعها أبداً؛ فقد فوجئ بفسخ زوجته الأولى بناءً على حكم أصدره علماء بلده، وبوفاة ابنته الصغرى في فترة غيابه. وعندئذٍ نوى الزيلعي أداء فريضة الحج. وتقول بعض المصادر التاريخية بأن شيخه إسماعيل المقدشي هو الذي أوصاه بذلك؛ فقد رأى فيه من النجابة والذكاء، وحسن الخلق والدين وغيرها من مواهب القيادة ما يبشر له بمستقبل زاهر مجيد؛ فأحب أن يكلل ذلكبأداء الركنالخامس، الحج. وهناك احتمال قوي بأنه غادر مسقط رأسه احتجاجاً على تصرفات علماء بلده، أولئك الذين أصدروا الحكم الشرعي الذي أدى إلى فسخ زوجته. والذي يؤكد هذا الاحتمال هو أنه تحدث مع ابنته الكبرى قبل ذهابه، وكانت فيما يبدو متزوجة؛ فقال لها: إنك لن تستطيعي الذهاب معي؛ لأنك زوجة؛ فأوصيك بكذا وكذا. كانت هذه في الواقع وصية رجل لا يفكر في العودة إلى تلك البلدة احتجاجاً على ما اعتبره ظلماً وجوراً وإجحافاً في حقه؛ فنوى الهجرة منها نهائياً.غادر الزيلعي مدينته، ولكن هذه المرة اتجه إلى شمال وغرب شبه الجزيرة الصومالية، وبدأها بمدينة هرر، وكانت إذ ذاك تحت إمرة الأمير أحمد بن أبي بكر، واتخذ الزيلعي من جامع هرر مركزاً لنشاطه التربوي والتعليمي، و التحقق بحلقته الدراسية التي أنشأها حديثاً أعداد كبيرة من طلبة العلم من هذه المدينة، ومن حولها، وكان من بينهم أميرها، أحمد بن أبي بكر. ولم يكن عمل الزيلعي فيما يظهر محصوراً على التدريس فقط، بل وعلى إعداد المواد التعليمية، وتأليف المقررات الدراسية أيضاً؛ فقد روى أنه درّس طلابه كتاباً في الصرف بعنوان”اللآلي”؛ فوجده صعباً عليهم؛ فشرع يؤلف كتابه، حديقة التصريف، وشرحه، فتح اللطيف كمقرر بديل عن ذلك الكتاب في مادة الصرف.

وهناك بعض الروايات المتداولة في الأوساط التعليمية، والبيئات الثقافية في الصومال، وهي أن علماء مدينة هرر كانوا يعتقدون بأنهم أوسع علماً، وأكثر معرفة من علماء الصومال في الشرق والجنوب، وذلك أثناء مجيء الزيلعي إلى مدينة هرر؛ لذلك انتقدوه نقداً لاذعاً حينما أنشد قصيدتيه: جوهرة الوسيلة، وكنز الحقائق، فقالوا: إنه لم يأت بجديد، بل عدد أسماء العلماء والصالحين في المجتمعات الإسلامية عبر التاريخ. وصل ذلك النقد المرّ إلى مسامع الزيلعي؛ فأراد أن يرد على خصومه رداً علمياً؛ فألف أرجوزته المسماة: بحديقة التصريف، وتتكون من مئة واثنين وخمسين بيتاً، ثم أرسلها، دون شرح، إلى منتقديه، وطلب منهم، متحدياً، أن يضعوا لها شرحاً؛ فلم يكن من هؤلاء النقاد بعد فهم الكتابإلا الاعتراف بفضل هذا العالم، وسعة معرفته اللغوية والثقافية؛ ومن هنا غيروا نهجهم معه من النقد اللاذع إلى الإعجاب والثناء والتقدير.ويبدو أن الرواية الأولى أكثر وجاهة وقبولاً، وهي أن الزيلعي قد درّس كتاب اللآلي في علم الصرف لطلابه؛ فوجده، لضعف تأليفه، غير ملائم؛ فأخذ يفكر في وضع بديل عنه؛ فألف كتابه: حديقة التصريف، وبدأ تدريسه في الحال، ولكنه بعد فترة من الزمن، أدرك أنه في حاجة إلى الشرح؛ فوضع شرحه: فتح اللطيف.وقد أشار المؤلف إلى ذلك في مقدمة شرحه؛ فقال:”لما وضعت الأرجوزة المسماة بحديقة التصريف في علم الصرف؛ فجاءت بحمد الله كافية، ولمقاصد هذا الفن حاوية سنح لي أن أضع عليها شرحاً يحل ألفاظها؛ فجاء ذلك الشرح بحمد الله كتاباً جامعاً للمراد، ومناسباً للمقام، وسميته “فتح اللطيف، شرح حديقة التصريف.”.

ولا نعرف مقدار المدة التي قضاها الزيلعي في مدينة هرر، ولكن الذي ندركه جيداً أنها كانت مثمرة أكاديمياً؛ فقد ألف كتابه: “حديقة التصريف”، وشرحه: “فتح اللطيف” كما ذكرنا آنفاً، وأنشد قصيدتيه: جوهرة الوسيلة وكنز الحقائق في غرض الابتهالات والتوسل، كما نعرف أنه واجه بعض الصعوبات والمتاعب من قبل بعض العلماء في مدينة هرر غيرة وحسداً على ما رأوه من استقطاب المجتمع الهرري حول هذا العالم، وحول مؤلفاته اللغوية والأدبية؛ وذلك أمر طبيعي فالنابغون معرضون غالباً لبعض الصدمات والانتقادات من قبل الكثيرين من شرائح المجتمع نتيجة الغيرة والتنافس، أو الخوف على مكانتهم الاجتماعية أو الثقافية. والشيخ عبد الرحمن يؤمن بالنقد البناء، البعيد عن الأهواء والتعصف، ويرى أنه عمل جيد إذا ما أحسن استخدامه؛ لتصويب الأخطاء، وتطوير الأداء، وتعويض النقص، ويرى أن النبوغ والتفوق والعبقرية منح ومواهب إلاهية يهبها المعطى لمن يشاء من عباده؛ فلا تختص بمتقدم ولا بمتأخر؛ لأنها ليست ملكاً لجماعة أو فئة دون أخرى، ولا هي حكراً على أفراد دون الآخرين. ويظهر ذلك الرأي جلياً في عدد من مؤلفات الشيخ عبد الرحمن الزيلعي، وبخاصة تلك التي كتبها، على ما يبدو، في آخر أيامه، والتي ما يزال معظمها مخطوطا، وسوف نسلط الضوء حول تلك المؤلفات وإنتاج الزيلعي العلمي عند مكانها…. وللحديث بقية.

المراجع

[1] –  با علوي ، محمد بن أبي بكر الشلي : المشرع الروي في مناقب السادة الكرام آل علوي دون ذكر اسم دار النشر والمكان والتاريخ ، وطبع وقف لله تعالين  ص 189 – 190.

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى