الصورة الإيجابية للمستقبل (مقارنة بين الصومال ورواندا)(1)

تمهيد

في هذاالمقال المبسّط سأحاول تقديم صورة نموذجية للتفكير المنطقي الجاد من أجل الخروج من المآزق الكبرى، ورسم طريق لمستقبل يسوده السلام والأخوة، مقابل الفوضى وتغليب الحرب على الحوار، في شكل مقارنة نسبية بين دولتين تمثلان الصورتين السالف ذكرهما، ولن أذهب بعيدا كما هي العادة بالباحثين والكتّاب، بل سأقوم باختيار دولة مجاورة من ضمن دول شرق إفريقيا لأقارنها بالصومال، خصوصا في الفترة التي تلت سقوط الحكم المركزي، وبداية الحرب الأهلية، سأختار رواندا التي مرّت بتجارب مشابهةلتلك التي مرّت بها الصومال،وهدفي من خلال تلك المقارنة البسيطة هو لفت الانتباه إلىانخفاض مستوانا عن المطلوب وإمكانية التغيير، وقد قيل (السعيد من اتّعظ بغيره، والشقي من اتّعظ بنفسه، والأشقى من لم يتّعظ بنفسه) وقد يكون سعيدا من اتّعظ بنفسه وغيره معا، أو أقرب إلى السعادة منه إلى الشقاء.

في الفقرات التالية سأتحدث في نبذة موجزة عن رواندا، ومكوناتها الاجتماعية، وأستعرض الأحداث التي شهدتها تلك الدولة الإفريقية، وما انتهت إليه.

جمهورية رواندا دولة في شرق إفريقيا، تحدّها (تنزانيا شرقا وأوغندا شمالا والكونغو غربا وبوروندي جنوبا)،وبالرغم من قربها من خط الاستواء تتميز رواندا بمناخ معتدل، وهي دولة داخلية (غير ساحلية)، عدد سكانها حوالي اثنا عشر مليون، وستمائة وتسعة وسبعون ألف، وثمانمائة وثلاثون (12,679,830) حسب الإحصائية الأخيرة للعام الحالي (2015م)، معدّل الإناث (50,9%) بينما الذكور (49,1%)، تتوحّد القبائل الرواندية في قومية واحدة هي (Banyarwanda) وتتفرع منها قبائل الـ (Hutu) والـ (Tutsi) والـ (Twa)، معظمهم يدين بالمسيحية بنسبة (56,9%) بينما المسلمون لا يتجاوزون (11 إلى 15%)، وهناك نسبة لا تؤمن بأية ديانة، لغة الدولة الرسمية هي (Kinyarwanda) والفرنسية والانجليزية.

لمحة تاريخية:

ينتمي نحو 85% من الشعب الرواندي إلى قبيلة الهوتو، غير أن أقلية التوتسي هيمنت على البلاد لفترة طويلة، وفي عام 1959م أطاح الهوتو بالحكم الملكي للتوتسي وفرّ عشرات الآلاف منهم إلى دول مجاورة من بينها أوغندا، وشكلت مجموعة من التوتسي في المنفى جماعة متمردة أطلق عليها (الجبهة الوطنية الرواندية) التي غزت رواندا عام 1990م بدعم من القوات الأوغندية، واستمر القتال إلى أن أُبرم اتفاق سلام عام 1993م، وفي ليلة السادس من أبريل/نيسان 1994م أسقطت طائرة كانت تقلّ الرئيس الرواندي آنذاك (جوفينال هابياريمانا) ونظيره البوروندي (سيبريان نتارياميرا) وقتل جميع من كانوا على متنها، وأنحى متشددوا الهوتو باللائمة على (الجبهة الوطنية المتمردة)، وبدأوا على الفور حملة منظمة للقتل.

كان لدى الحزب الحاكم في ذلك الوقت (الحركة الوطنية الجمهورية من أجل الديموقراطية والتنمية) جناح شبابي يطلق عليه اسم (إنتراهاموي) تحوّلت إلى مليشيا تنفّذ المذابح، كما أنشأ متطرفوا الهوتو محطات إذاعية وصحفا تنشر الكراهية وتحث الناس على (التخلص من الصراصير).

سلّمت قوائم بالغة التنظيم بأسماء خصوم الحكومة إلى المليشيات الذين ذهبوا وقتلوهم وجميع أفراد أسرهم، وقتل الجيران جيرانهم، كما قتل بعض الأزواج زوجاتهم المنتميات للتوتسي، وكانت بطاقات الهوية الشخصية في ذلك الوقت تتضمن تحديد الانتماء العرقي، ومن ثمّ أنشأت المليشيات نقاط تفتيش في الطرق، حيث كان يجري قتل التوتسي، كما احتُجزت الآلاف من نساء التوتسي لاستغلالهن في إشباع الرغبات الجنسية، وفي خلال فترة لا تتجاوز 100 يوم قتل ما يربوا على 800 ألف شخص، وتعرّض مئات الآلاف من النساء للاغتصاب.

حتى الرابع من يوليو/تموز 1994م تمكنت (الجبهة الوطنية الرواندية) ذات القيادة التوتسية، والتي تتمتع بتنظيم جيد من السيطرة تدريجيا على مناطق أكثر، مدعومة بقوات من الجيش الأوغندي، بعد أن توغلت قواتها داخل العاصمة الرواندية (كيغالي)، وتلا ذلك فرار ما يقرب من مليوني شخص من الهوتو المذنبين عبر الحدود إلى جمهورية الكونغو الديموقراطية.

انتهت الإبادة الجماعية في يوليوا/تموز 1994م بعد نجاح (الجبهة الوطنية الرواندية) في طرد المتطرفين وحكومتهم المؤيدة للإبادة الجماعية إلى خارج البلاد، وقد تركت الإبادة الجماعية رواندا مدمّرة، وخلّفت مئات الآلاف من الناجين الذين يعانون من الصدمات النفسية، وحوّلت البنية التحتية للبلد إلى أنقاض.

عندما يقرأ الصومالي هذه الأحداث لا شك أنه يتذكر ما حدث في مقديشوا قبل تلك الأحداث بثلاثة أعوام فقط، عندما قامت المليشيات المسلحة بإسقاط نظام سياد بري، وبدايات الحرب الأهلية التي أثّرت سلبا على الحياة بشكل عام في البلاد،وخراب العاصمة، وانهيار المنظومة الأمنية، ودمار البنية التحتية،وغير ذلكمما أدّى لفقدان مقوّمات العيش الأساسية لدى المواطن الصومالي، وهجرة مئات الآلاف داخل البلاد وخارجها،ولعل القواسم المشتركة تتمثل في الحرب الأهلية التي اتّسمت بالطابع القبلي الممزوج بالطابع السياسي باعتبار الحكم الديكتاتوري الذي حكم البلاد في كل من رواندا والصومال، والفترات المتقاربة للأحداث في كلا البلدين، وسنحتاج في السطور التالية لوقفات نحلّل فيها سير الأحداث وتبعاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والمقارنة بينطرق تعامل المجتمعين الصومالي والرواندي مع الأزمة خلال العقود الماضية، لفهم أبعاد الأزمة وتأثيراتها.

في البداية سنحاول طرح الفوارق السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين الصومال ورواندا في محاولة لتقديم صورة نموذجية عن مدى التخلف الشامل الذي يعيش فيه الصومال وأبناؤه، مقارنة بالتقدّم النسبي لرواندا في مجالات متعدّدة، رغم الإمكانيات الاستراتيجية والاقتصادية للصومال خلافا لرواندا التي لا تتمتع بأية مزايا اقتصادية أو استراتيجية بالنسبة للصومال، ولعلّ مقارنة كتلك التي نحن بصددها الآن تساعدنا في فهم أكثر واقعية للمشهد الصومالي، فالمقارنة تجعلنا في خطّ منافسة دائم مع الآخرين، مما سيعمّق من مراجعتنا لأنفسنا،ويضعنا على الحلول المناسبة للخروج من بحر المشاكل.

مقارنة سياسية

حققت حكومة ما بعد الإبادة الجماعية في رواندا تقدّما ملحوظا من خلال جهودها لإحلال سياسة (الاتحاد والمصالحة)، ويأتي ضمن هذه الجهود نظام (الغاكاكا)، وهو شكل من أشكال العدالة مستوحى من التقاليد، تم تأسيسه للتعامل مع مئات الآلاف من الأشخاص المتهمين بالجرائم أثناء الإبادة الجماعية، وقد عملت الحكومة كذلك على تخويل المرأة بعض السلطات من خلال الإصلاحات القانونية وتشجيع المشاركة في الحكومة، وزيادة النمو والاستقرار الاقتصادي، وتبنّي دستور جديد، غير أن السلطة لا تزال متمركزة بأيدي القادة السابقين للجبهة الرواندية الوطنية التي يسيطر عليها التوتسي، ولا تزال حرّية الكلام مقيدة، وقد حدثت أول انتخابات في أغسطس/آب 2003م، أسفرت عن فوز الجنرال السابق بالجبهة الوطنية (بول كاجامي) بفترة رئاسية مدتها سبع سنوات،وتمّ انتخابه لولاية ثانيةفي أغسطس/آب 2010م.

قام الرئيس الرواندي باتباع سياسة استراتيجة للقضاء على الآثار التي خلفتها الحرب الأهلية في بلاده، بحيث أصدر قانونا لمنع كل ما يشير إلى الميل نحو النزعة الانقسامية، ويذكّر بما حدث في الماضي، كما دشّنت الحكومة متحفا تاريخيا حفظت فيه ما حدث بشكل دقيق، بحيث يمكن للزائر رؤية المشاهد والأحداث مسجلة بالصوت والصورة، ورؤية الجماجم والرؤوس والأطراف المقطوعة، ومشاهدة عرضٍ بشرائح الباوربوينت يشرح ما حدث بالتفصيل، في نفس الوقت الذي سيشاهد فيه اللافتات التي كتبت عليها عبارات مناهضة للعنصرية والانقسام والفوضى.

في المشهد الصومالي تمّ عقد مؤتمرات تشاورية في الخارج لانتخاب رئيس للبلاد، إلا أنه لا أحد من الرؤساء الخمسة الذين حكموا الصومال ما بين عامي 1991م و 2012م  تمكّن من بسط السيطرة على العاصمة فضلا عن المحافظات القريبة أوالبعيدة، وعقب خروج البلاد من المرحلة الانتقالية وتسلّم الرئيس الحالي للسلطة عام 2012م، انشغلت الهيئات التنفيذية والتشريعية في البلاد بتعقيدات النظام الفيدرالي، وبالخلافات الدستورية بين الرئاسة والحكومات التي تشكلت خلال السنين الثلاثة الماضية، أما فيما يخصّ المصالحة الوطنية فقد حدثت محاولات عديدة باءت جميعا بالفشل، والنظام القضائي في البلاد لا يزال هشّا لم يتمكن من تحديد هوية مجرمي الحرب ومحاكمتهم بعد.

إبّان سقوط الحكومة المركزية في الصومال، ودخول البلاد في مرحلة الحرب الأهلية، تمكّنت كل من المحافظات الشمالية الغربية والشمالية الشرقية من تأسيس حكم ذاتي، ففي حين أسست بعض الحركات السياسية في محافظات الشمال الغربي للبلاد عام 1991م ما سمي بـ (صوماليلاند)، عبّروا خلالها عن رغبتهم في الانفصال عن البلد الأمّ لاعتبارات تعود لمرحلة الحكم الديكتاتوري وقيامه بعمليات عسكرية داخل تلك المحافظات، قام العقيد عبدالله يوسف أحمد عام 1998م بتأسيس (بونتلاند) كمنطقة حكم ذاتي ليست مستقلّة عن الصومال، غير أنها طبقا للظروف الأمنية في العاصمة قامت بصياغة دستورها الخاص وتشكيل الهيئات الحكومية، وانتخاب رئيس هو العقيد عبدالله يوسف، متخذة شكل الدّولة، وهو ما زال معمولا به حتى اليوم، حيث خضعت لمعايير النظام الفيدرالي.

لم تستطع القيادة السياسية الصومالية حتى الآن تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة، فضلا عن الاستقرار الأمني والاقتصادي للبلد، نظرا لانعدام القيادة الموحدة، وخضوع كل منطقة أو ولاية لحكم ذاتي يشبه الاستقلال، ورغم ذلك فشل الجميع في إجراء المصالحة الوطنية، مثلما فشلت الجهود المبذولة من قبل بعض الجهات الدولية كالحكومة التركية في إجراء المصالحة بين الجنوب والشمال الذي تصرّ حكومته على الاستقلال.

تلك المقارنة بين القيادة الرواندية والصومالية تدفعنا للاعتقاد بأن غياب الرؤية السياسية الواضحة هي التي تنقص القيادة الصومالية منذ انهيار الحكم المركزي، وعندما أقول القيادة الصومالية فأنا هنا أقصد القيادة السياسية والعشائرية معا، وليس الخيار العسكري الذي تمكنت به رواندا من تحقيق الأمن هو الوحيد الذي ينفع الصومال والصوماليين، فهذا الخيار له تبعاته الخطيرة على المجتمعات،وهو بالضبط ما يدفع الصومال ثمنه حتى اليوم، وقد يكون الحلّ في النظام الفدرالي الذي تتمّ فصوله اليوم في البلاد، إذا تمّ بضوابط تحترم العدالة والمساواة، وتكفل حقوق الجميع.

إبراهيم عبد القادر محمد عبد الله

كاتب وباحث ، حاصل على الماجستير في الشريعة من الجامعة الإسلامية في أوغندا .. يعمل كأمين عام لجامعة شرق إفريقيا في بونتلاند .. ومحاضر في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالجامعة.
زر الذهاب إلى الأعلى