أوضاع اللغة العربية في الصومال: قراءة تاريخية لعوامل الازدهار والانحسار (4)

أوضاع اللغة العربية في فترة الاحتلال الأوروبي

دخلت اللغة العربية في فترة الاحتلال الأوروبي مرحلة من التراجع والضعف في القطر الصومالي عامة، وذلك نتيجة الحرب الشرسة التي نظمها الاحتلال على اللغة العربية والثقافة الإسلامية ومحاولته الجادة في تهميش اللغة العربية وإبعادها عن مراكز القوى، وإحلال ثقافاته ولغاته محلها، فاحتلت الإنجليزية منطقة (إن إف دي) المحادية لكينيا، والمحمية البريطانية في شمال الصومال، والفرنسية في جيبوتي، والأمهرية في هرر والأوجادين، والإيطالية في جنوب الصومال (1) .وأصبح التحدث باللغات الأجنبية، لاسيما الإنجليزية والإيطالية، دليلا على التحضُّر، والمتحدث بهما هو وحده من يحصل على الوظائف في الدواوين الحكومية. أما اللغة العربية فقد انحصرت في المساجد ولدى شرائح الفقهاء وطلبة العلم الشرعي المحاصرين اجتماعيا ونفسيا تحت ضغط أدوات الغزو الفكري الأوروبي. (2)

ولدعم هذا المسار وتضييق الخناق على منظومة الثقافة العربية اهتم الاحتلال بتأسيس مدارس لنشر المسيحية وثقافات المستعمر ولغاته في كل من: هرر وزيلع وهرجيسا وبُلَحار في الشمال، ومقديشو ومركا وبراوة وجيليب وأفجوي وكسمايو في الجنوب، وكان التبشير والثقافة الكنسية يجريان جنبا إلى جنب في تلك المدارس مع تعليم اللغة الأجنبية وتربية الناشئة عليها، والهجوم على اللغة العربية وثقافتها وتراثها بشتى الوسائل )3( فتأسست أولى مدارس التبشير في (بربرا) في نهاية العقد التاسع من القرن التاسع عشر ، وفي الجنوب قامت الإرساليات المسيحية بإنشاء مدارس تابعة للكنيسة الكاثوليكية، غير أن الاحتلال واجه مقاومة شرسة من الشعب، تمثلت في المظاهرات والثورات والهجوم المستمر على تلك المدارس (4) فضلا عن امتناع الآباء عن تسجيل أبنائهم في مدارس الاحتلال خوفا عليهم من التنصير والمسخ الثقافي، فكان مصير تلك المدارس أن أغلقت أبوابها بعد عزوف الشعب عنها، وتَصاعدِ الثورة الشعبية ضد سياسات الاحتلال الثقافية والتعليمية( 5)


نشأة المدارس العربية الأهلية كبديل للتعليم الأجنبي

لم تتوقف مقاومة الشعب الصومالي ضد الغزو الثقافي الأوروبي عند حد المظاهرات والهجوم على مدارسه والامتناع عن تسجيل أبنائهم فيها؛ بل تجاوزت إلى التخطيط لإيجاد البديل، ومن هنا جاءت فكرة تأسيس مدارس نظامية على غرار النظام المدرسي الحديث. ويشير روّاد التعليم المدرسي الحديث في الصومال إلى أن أول مدرسة عربية على غرار التعليم الحديث في الصومال تأسست على يد المعلم السوداني خير الله( 6 )، الذي أسس أول مدرسة عربية نموذجية في بربرا في الشمال عام 1882م، وقد خرَّجت تلك المدرسة أول طليعة صومالية متعلمة تعليما حديثا (7) .

وفي ثلاثينيات القرن العشرين أسست فرق وطنية مدعومة من الشعب مدارس على غرار التعليم المدرسي الحديث كانت أهمها مدرسة محمود أحمد علي في بربرا عام 1935م ومدرسة معلم جامع بلال في مقديشو 1936م، ومدرسة الشيخ علي عبد الرحمن الملقب بشيخ علي صوفي في هرر (8) وكانت لغة التعليم في تلك المدارس اللغة العربية، ويدرس فيها إلى جانب العربية الرياضيات وبعض المواد الأخرى ..(9)

وقوي هذا التوجه في الأربعينات على المستوى السياسي بعد أن تبنى حزب وحدة الشباب الصومالي (ليجو) اللغة العربية بوصفها لغة وطنية رسمية للصومال حيث نصت المادة الأولى من دستوره على ” أن اللغة العربية اللغة الرسمية للقطر الصومالي )10( ، ولم يقف دور الحزب عند حد الادعاء بل قام على الفور بتأسيس سلسلة من المدارس النظامية التي تدرس جميع المواد باللغة العربية في شتى فروعه المنتشرة في معظم المدن والقرى الجنوبية والشرقية ما بين 1944م و1947م. ثم امتدت مدارسه إلى منطقة الأوجادين الخاضعة للحكم الإيثوبي فشملت كلا من طجحبور وقبري دهري، وجكجكا وورطير، وكانت لغة التعليم في تلك المدارس اللغة العربية. )11(

وإزاء هذا العدد الهائل من المدارس والتي شملت أغلب المدن والقرى في الشمال والجنوب ومناطق كثيرة من الصومال الكبير والإقبال الشعبي الكبير الذي شهدت تلك المدارس مقابل امتناع الأهالي من تسجيل أبنائهم في مدارس الاحتلال؛ شعرت قوى الاحتلال بضرورة أخذ تدابير إستراتيجية لتطويق التعليم العربي على المستوى الوظيفي، فقامت بعدة خطوات منها: عدم الاعتراف بشهادات تلك المدارس )12( ، وعدم السماح للمتخرجين فيه الالتحاق بالوظائف الحكومية )13( ، مقابل امتيازات ومرتبات عالية وابتعاث للمتخرجين في مدارس التبشير إلى منح دراسية في روما وبريطانيا، ومحاولة إظهارهم بأنهم متفوقون على أقرانهم المتمسكين بالثقافة الإسلامية واللغة العربية، ومما يدل على أهمية هذا الإجراء عند الاحتلال ما ورد في وثيقة رفعت إلى وزارة المستعمرات البريطانية من منطقة هرر، التي جاء فيها ما نصه ” … لا وجود للمسلمين في مراكز الدولة لأن التعليم الإسلامي لا يؤهل حامليه إلا للتجارة، ويوجد الآن بعض المسلمين في المدارس الثانوية مما قد يعطيهم في المستقبل مجالا للعمل في الخدمة العامة ” ( 14 ) وخلاصة القول إن اللغة العربية شهدت تراجعا كبيرا في ظل فترة الاحتلال الأوروبي ، إلا أن الاحتلال لم ينجح في تحقيق أهدافه المرسومة في ظل صمود الشعب أمام محاولاته البائسة، وتشبثهم باللغة العربية والتعليم العربي الإسلامي، ولعل أجمل ما في تاريخ الصراع الثقافي في تلك الحقبة أن الشعب الصومالي بكافة أطيافه بما فيه الأحزاب السياسية وشيوخ العشائر والعلماء كانوا متمسكين ببقاء العربية لغة رسمية للصومال وأن تكون المناهج التعليمية باللغة العربية.

الهوامش:

1- حسن مكي محمد: السياسات الثقافية في الصومال الكبير83

2 – طاهر علي جامع: تحليل وتقويم كتب اللغة العربية 18

3 – حسن مكي محمد: السياسات الثقافية في الصومال الكبير 91 ، ومحمد عبد الكريم وآخرون: تاريخ التعليم في الصومال 58 ، 59 ، انظر كذلك مؤامرة في إفريقيا 115 وما بعدها

4 – محمد علي عبد الكريم وآخرون: تاريخ التعليم في الصومال 60

5 – نقلت كبرى مدارس الاحتلال التبشيرية في مدينة بربرا إلى مدينة جيبوتي بعد قيام ثورة الدراويش في شمال الصومال، ويقال أن ثورة الدراويش بدأت من غضب شعبي ضد مدارس الاحتلال التبشيرية، انظر السياسات الثقافية في الصومال الكبير 88
6 – لم يتمكن الباحث على حصول على أي مصدر يتناول النشاط التعليمي الذي قام به المدرس السوداني وقترة قدومه إلى الصومال، ولكن أغلب المراجع تتداول بدوره الطيب في إرساء التعليم المدرسي الحديث في شمال الصومال.

7- محمد علي عبد الكريم وآخرون: تاريخ التعليم في الصومال 56

8 – حسن مكي: السياسات الثقافية 87، وطاهر علي جامع : تحليل وتقويم كتب اللغة العربية 18

9 – نفس المصدر 6

10- دستور حزب وحدة الشباب الصومال المقدمة ص 1

11 – محمد علي عبد الكريم وآخرون: تاريخ التعليم في الصومال 62، 63

12- أحمد القطبي: طرق تدريس القرآن الكريم و العلوم الإسلامية و اللغة العربية فى الصومال رسالة دكتورة جامعة أم الإسلامية السودان
175م 1999
13-  السياسات الثقافية في الصومال الكبير 99، نقلا عن Fo. 371, 108285, 102440 وهي مذكرة عن الإسلام في إيثوبيا رفعت إلى رئيس الوزراء البريطاني.

14- راجع السياسات الثقافية في الصومال الكبير 99، نقلا عن Fo. 371, 108285, 102440 وهي مذكرة عن الإسلام في إيثوبيا رفعت إلى رئيس الوزراء البريطاني.

أ. عمر محمد ورسمة

مسؤول قسم اللغة العربية للناطقين بغيرها مركز لغتي لتعليم اللغة العربية - الدوحة قطر
زر الذهاب إلى الأعلى