التحولات السياسية في صوماليلاند

شهدت وتشهد “جمهورية صوماليلاند” المعلنة من طرف واحد، تسارعًا في أحداثها السياسية، وهو ما لم تشهده منذ الإعلان عنها في مايو 1991م، والتي أدت إلى استقالات جماعية وتتكون من أحد عشر مسؤولا رفيعا منهم سبعة وزراء في سبعة وزارات حساسة من أصل خمسة وعشرين وزيرا.

شدّة وقع الأحداث السياسية الأخيرة دفعت بأحد القادة التقليديين ويحمل صفة الناطق الرسمي باسم سلاطين صوماليلاند، إلى الحديث علنًا عن الخلافات التي حدت بحدوث هذا الزلزال السياسي بين جناحين في الحزب “كولميه/Kulmiye” الحاكم، وحثّه الشعب ومن ضمنهم السياسي وغير السياسي، بالحفاظ على السلم الذي تنعم به البلاد، مشيرًا إلى أنه واجب على جميع فرقاء الحزب الاجتماع إلى طاولة المحادثات، مؤشّرًا على أهمّية أن يقوم الرئيس بدوره كقائد وأب للطرفين المتصارعين سياسيًا، ملمحًا بذلك إلى انحياز الرئيس أحمد محمد محمود سيلانيو، لأحد جناحي الحزب ما أدّى إلى الاستقالات الجماعية لأحد عشر وزيرًا من أصل (…) وزيرًا في محاولة للضغط على الرئيس، لثنيه عن دعمه لمرشح الرئاسة محمد موسى بيحي عبدي، مرشحًا وحيدًا للحزب في الانتخابات الرئاسية المقبلة 2017م، مما يحجب فرصة المنافسة على مناوئَيْه “عبدالعزيز محمد سماله” و”محمد يونس بيحي”.

أصل الحكاية:

حين دخل حزب “كولميه/Kulmiye” المعارض بمرشحه “أحمد محمد محمود سبلانيو” في الانتخابات الرئاسية سنة 2003م، منافسًا لحزب ” أودوب/UDUB” الحاكم حينها بقيادة الرئيس “طاهر ريالي كاهن”، حدثت خروقات مفتعلة من قبل مؤيدين للحزب المعارض، مما أدّى لشطب عدد مؤثّر من صناديق الاقتراع في مناطق مؤيدة للحزب الحاكم، مما أدّى بعد إتمام الإحصاء إلى فوز بفارق بسيط لحزب “كولميه/Kulmiye” المعارض، مما حدى بالرئيس طاهر ريالي كاهن للبحث عن مخرج من المأزق القانوني الذي وجد نفسه فيه، فالأصوات التي خسرها كانت نتيجة لحيلة سياسية من منافسيه أدّت إلى خسارة صحيحة قانونيًا، بحيث لم يكن من مجال لتدخل القيادات القبلية، وهو ما قاده للاستعانة بالقيادة الدينية التقليدية لمدينة “هرجيسا” في الضغط لعمل تسوية سياسية، أدّت إلى قبول حزب “كولميه/Kulmiye” بالخسارة في الانتخابات، بسحب طعونه على الصناديق التي قام مؤيدوه بإفسادها!

أراد السياسي المحنّك “أحمد محمد محمود سيلانيو” عدم الوقوع مرّة أخرى تحت ضغط التسويات في الانتخابات التالية، فعقد حلفًا سياسيًا مع زميل سلاحه ومنافسه السابق في الحركة الوطنية الصومالية “SNM”، بحيث يضمن مركز ثقل لا يمكن تجاوزه في العاصمة “هرجيسا”، وقد كان ذلك استثمارًا سياسيًا رابحًا، مكّنه من الاستفادة الاستفادة القصوى من التبرّم الذي ساد المدينة من سياسات “طاهر ريالي كاهن” الذي أسلم حزب “أودوب/UDUB” للتفكك بعد خسارته الانتخابات.

نجح “أحمد محمد محمود سيلانيو” في الوصول إلى سدّة الرئاسة، بعد أن حقق “محمد موسى بيحي عبدي” له ما كان يحتاج إليه من زخم إنتخابي في مناطق تأثيره، وكان جزءًا من الاتفاق أن يتنازل “سيلانيو” لـ”بيحي” عن قيادة الحزب ـ وهو ما تحقق ـ، وأن يكون “بيحي” مرشّح الحزب في الانتخابات الرئاسية التالية.

ماذا حدث؟!

على الرغم من ما كان معروفًا عن المعارض الشرس “سيلانيو” طوال عقد ونصف، بالوفاء بوعوده والتزامه التام بكل كلمة يقولها، لفّ الغموض موقف الرئيس من اتفاقه السابق مع رفيق سلاحه، ومع استحداث الرئيس لمنصب “وزير شؤون الرئاسة”، بدا أن الوزير “حرسي علي حاجي حسن” يتمتّع بصلاحيات واسعة، تم تبريرها في البدء بقربه من عملاق سوق المال “دهبشيل”، إلّا أن الأمور أخذت منحًى آخر تمامًا، بحيث أصبح الوزير موكلًا بتسيير أمور الدولة ومقابلة الوفود والوجهاء، بصورة جعلت الشائعات تروج حول صحة الرئيس، وأهليته لمتابعته أداء مهامه، خاصة مع ما بدى عليه من الرجل من عجز عن ارتجال الخطابات، وشرود الذهن المتكرر وحتى النعاس وعدم المبالاة بالصورة العامة للرجل الأول في الدولة.

استبداد الوزير بالسلطة أدّى لشعور قطاعات واسعة من ضمنها الجيش، بأن الأوضاع لا يمكن لها أن تستمر بتلك الصورة، خاصة مع البرود الذي بدا بين قيادات الحزب الحكام، وقد غذّى ذلك تفتت حزب “أودوب/UDUB” منضمًا للائتلاف الحاكم بقيادة وزير الداخلية الحالي “ورن-عدّي”، وانضمام الجناح الآخر إلى حزب “أوعيد/UCID” بقيادة “جمال علي حسين” والانشقاق الذي مٌنِيَ به الأخير، مفرزًا حزب “وطني/WADANI” بقيادة “عرّو”، ذلك الحزب الجديد الذي يشير الكثيرون أنّه أنشئ بدعم من الحزب الحاكم!

بدايات التذمّر:

خلال السنوات الماضية بدءًا من 2012م بدا الرئيس “أحمد محمد محمود سيلانيو” في عزلة شبه تامة عمّا حوله، رغم مشاركاته البروتوكولية في الاجتماعات، وخطاباته المكتوبة والمسجّلة التي تتم إذاعتها في المناسبات العامة والوطنية، في ذلك الوقت لم يكن خفيًا سطوع نجم وزير شؤون الرئاسة، بحيث غدى في نظر الكثيرين أن “حرسي” هو الحاكم الفعلي للبلاد، وليس الرئيس أو مجلس الوزراء!

وتصاعدت الحزازيات بين قائدي الحزب، مؤسسه “سيلانيو” و رئيس الحزب “بيحي”، خاصة مع “سماح” الرئيس ببروز مرشحين آخرين، وتصريحه بأنه لم يحسم الأمر حول مشاركته هو ذاته في الانتخابات الرئاسية التالية، بحيث أصبح متوقعًا أن يقوم رئيس الحزب “بيحي” بتحركات سياسية مفاجئة وشديدة الخطورة داخل الحزب، في مسعىً منه لتطهير الصفّ الأول بالحزب من المخالفين له، خاصة مع ازدياد قوة “حرسي” الذي لم يكن تأثيره في الحسبان، ناهيك عن بروز وزير المالية السابق “عبدالعزيز محمد سماله” والذي تمّ عزله عن منصبه بصورة غير مألوفة، ومناوءته العلنية لرئيس حزبه، معلنًا عن ترشّحه للمنافسة على بطاقة الترشّح للانتخابات الرئاسية امامه، في حال تم التصويت داخ الحزب على مرشحي الانتخابات الرئاسية، والفصل بينهم ليشارك أحدهم في تلك الانتخابات، وما زاد الأمور تعقيدًا دخول “محمد يونس بيحي” وزير الخارجية على خط الترشّح داخل الحزب، مما أوقع “محمد موسى بيحي عبدي” رئيس الحزب في مأزق قانوني، فدستور الحزب يضمن الترشّح الديمقراطي، بما يُخلَّ بالاتفاق السياسي مع الرئيس “أحمد محمد محمود سيلانيو”.

بلوغ نقطة اللاعودة:

أصبحت الحالة الصحية للرئيس “أحمد محمد محمود سيلانيو” مدار حديث العامة، وهو ما أتاح المزيد من المجال لتصاعد نفوذ وطموح “حرسي”، وتشكيله حزبًا داخل الحزب مسيطرًا على مفاصل الدولة، بما حصل عليه من صلاحيات تتجاوز مهامه، ومع ازدياد الضغط على رئيس الحزب “بيحي”، وانتشار الأنباء بالعداء السافر في رئيس الحزب ووزير شؤون الرئاسة، وعلى الرغم من تعريض قيادة قبلية من العيار الثقيل نفسها للحرج بإعلانها تأييدها لترشّح الأول، فقد ازداد اللغط حول أهليته للترشح باسم الحزب للرئاسة، ومقارنته بمنافسين أحدهما “سماله” الذي يرى كثيرون أن “بيحي” ذاته هو من أدخله المجال السياسي، و وزير الخارجية “محمد يونس بيحي” رجل الإدارة ذا الخبرة المحصورة في المجال الإغاثي لطول سنين عمله مع الأمم المتحدة، فآثر “محمد موسى بيحي عبدي” التخفيف من ظهوره الإعلام وتحركاته السياسية العلنية.

إلّا أن رئيس الحزب “بيحي” وجد نفسه مجبرًا على اتخاذ اللازم لضمان تحقيق “سيلانيو” لوعده له بأن يكون المرشح الوحيد في الحزب، فقام بتحركات سياسية مفاجئة وسريعة، لـ”تربيط” الأطراف الملزمة بالاتفاق، مستغلًا حالة “الاسترخاء” التي عاشها مناوئوه خلال رحلة العلاج التي قام بها الرئيس إلى عاصمة دولة الإمارات العربية، ليقوم بعدها بالسفر إلى جمهورية آيرلندا، حيث لحق به وزير شؤون الرئاسة “حرسي” ومرشّح الرئاسة “محمد يونس بيحي” ومعظم الطاقم الوزاري، بشكل سبب أزمة بروتوكولية لازالت مدار تندّر الكثيرين!

ولم يكن من بدّ من قيام الرئيس “سيلانيو” في خضمّ الشكاوى المتبادلة، بطلب تحديد موعد لتصفية الخلاف حول مرشّح الرئاسيات، وتحديد الموعد بالعاشر من نوفمبر/تشرين الثاني، حتى يتمكّن من العودة وترتيب أوراق البيت الداخلي للحزب، والحيلولة دون مواجهته ذات مصير حزب “أودوب/UDUB”.

بالضربة القاضية:

خلال ذلك تمكّن “بيحي” مستفيدًا من صلاحياته الواسعة في الحزب، من عقد اجتماع لقيادات الحزب بغرض انتخاب اللجنة المركزية، معرقلًا مؤيدي المرشحَين الآخرَين، مما ضمن له إحاطة نفسه بمؤيديه في مفاصل الحزب، محققًا اختراقًا ساهم في ربط ترشّحه باستمرار الحزب أو دماره، ومع التحسّن السريع للحالة الصحية الرئيس “سيلانيو”، تقرر اختصار رحلته إلى “آيرلندا”، وعودته على وجه السرعة للحيلولة دون وقوع ما لا تُحمد عقباه، ولم تمرّ أيام حتى جمع الوزراء معلنًا التزامه بالاتفاق الذي قاده لتحقيق أغلبية انتخابية مكنته من الوصول إلى الرئاسة، ودعمه التام لرئيس حزبه “محمد بيحي موسى عبدي” مرشحًا رئاسيًا وحيدًا لحزب “كولميه”، باعتبار أن الوضع يجعل المنافسة الديمقراطية على اختيار مرشح الحزب “ترفًا” لا يمكن للحزب تحمّله، ما حمل كل مناوئي “بيحي” لتقديم استقالاتهم من مهامهم احتجاجًا على القرار الذي سيجعلهم هدفًا سهلًا لـ”بيحي” الذي تسببوا له بالكثير من المعاناة ليحصل على ما عتبره مسلّمة في وقت مضى!

النتائج:

بدأ تصميم الرئيس أحمد محمد محمود سيلانيو على تنفيذ اتفاقه السياسي مع شريكه “محمد موسى بيحي عبدي” بحيث بدأ على عجل بالإعداد والإعلان عن التشكيلة الوزارية الجديدة، بعد تصريحه بأن المسؤوليات التي استقال منها المحتجون لن يكون من الصعب شغلها بآخرين، ولم يكن انسحاب وزير شؤون الرئاسة مع بعض رفاقه باتجاه “برعو”، سوى دليل على شعور جناحه ومنافسي غريمه بالخوف على سلامتهم وكرامتهم من التعرّض للاعتقال، مع تواتر الأنباء بتجميد أرصدة عدد منهم، ووضع الوزارات التي استقالوا منها تحت الحراسة المشددة.

لقد بالغ جناح حرسي في الحكومة وكذلك غرماء محمد موسى بيحي، في تقدير قوّتهم داخل الحزب من ناحية، ونجاعة تأثيرهم على رئيس الدولة من ناحية أخرى، وقد تكون مخالفة الرئيس للتوقعات، واستعادته اللهجة الحازمة التي امتاز بها طوال سنين عمله السياسي عاملًا خاصُّا به لم يضعه ذلك الجناح في الحسبان، وعليه فإن ما بدى من استعاضة مؤسسة الرئاسة بشريك الائتلاف حزب “أودوب/UDUB” في شغل مناصب وزارية جديدة، وإحكام السيطرة على حزبه بمساعدة شريكه “بيحي” دليل على أن عجلة العملية السياسية ستسير بالسلاسة المعتادة، فالخارجون من السلطة بالاستقالة قد خسروا رصيدهم الشعبي مبكرًا بسبب ممارساتهم الفاسدة التي أدّت لتراجع شعبية الحزب الحاكم، الذي يبدو أن استعادها بسبب الأحداث الأخيرة، في ظل ضعف أحزاب المعارضة، واحتمال تفكك حزب “أوعيد/UCID” بسبب تدهور العلاقة بين قائديه!

 

زر الذهاب إلى الأعلى