أحلام ثقافية (4) عباقرة لهم أصول في منطقة القرن الإفريقي (8)

تابع لترجمة الشيخ محمد عبد الله الصومالي– محدث الحجاز رحمه الله-( 2 )

في الحلقة السابقة تناولت جزء من ترجمة فضيلة الشيخ المحدث محمد عبد الله الصومالي والتي نشرنا قبل 14 سنة بمجلة المجتمع الكويتية في عددها 1384 في 12 شوال عام 1420ه الموافق 18 يناير سنة 2000مكما ذكرنا سابقاً، وفي أثناء ذلك أشرنا إلى تراجم أخرى تم نشرها في تلك الفترة لها علاقة بحياة الشيخ على أيدي طلبة العلم تتلمذ على يد الشيخ. ومن خلال قرآءة هذه التراجم ظهر لنا عدة نقاط مهمة مثل:

ذكرتُ في مقدمة المقال السابق بأن هناك ترجمتان للشيخ، واحداً منهما كتبها الشيخ أحمد قاسم الغامدي ، والأخر كتبها فضيلة الشيخ عمر بن الشيخ محمد السبيل بالمشاركة مع الأسياذ حسن عبد الرحمن ، وهو – أي الأخير – ابن عم للشيخ، بالإضافة إلى ترجمتي السابقة وكل هذه التراجم أخذوا أصحابها من الشيخ من خلال إملاءاته وتصحيحه ، علما أنه لم يكن من السهل إمكانية ذلك إلا بعد صبر كثير وجهد جهيد لأن الشيخ محمد لم يكن يرضى في ذلك وقد رفض ذلك مرات عديدة بحيث لم يكن يحب الظهور  والسمعة، مما يدل على مصداقية هذه التراجم ودقة كتابتها.

فمثلاً إذا نظرنا ما ذكر الشيخ أحمد قاسم الغامدي جاء كما يلي: ” طلبتُ من فضيلة شيخنامحمد الصومالي أن يكتب لي ترجمة له مختصرة : فأملي علي ما يلي : قال رحمة الله : اسمي محمد بن عبد الله بن أحمد بن حسن بن شرماكه بن خير كوش جيرار أمان الأغاديني نسبة….” ، في حين أشرتُ في المقال السابق الذي كتبه ونشرته: ” .. إلى أنه لم يكن من السهل أن تجد معلومات تتعلق بالشيخ ولاسيما أيام طفولته ورحلته العلمية ، وقد وحاولت كثيراً أن أجد معلومات تخص الشيخ إلا أنني لم أتمكن في ذلك لرفض الشيخ عن ذلك كله بل واعتذاره مراراً كتابة حياته التي لايوجد ما يميز عن غيره حسب ما كان يراه نفسه رحمه الله، وفي يوم من الأيام تحقق حلمي وذلك صبيحة يوم الخميس في 18 من شهر الله المحرم سنة 1419م الموافق 14 مايو عام 1998م حيث قمتُ بزيارة الشيخ إلى بيته بمكة المكرمة برفقة من أخي وزميلي فضيلة الدكتور باشنا إبراهيم محمود الدغودي الوجيري – وفقه الله لما يحبه ويرضاه – وفور دخولنا على الشيخ والسلام عليه وكان الشيخ في صحة تامة في هذا اليوم، وفجأة وجهتُ إلىه سؤالاً حول طفولته وأسرته وقد قدر الله أن استرسل الشيخ حديثا عذباً وطويلاً عمّا سألته وكنتُ أدون ما تيسر لي تدوينه..”أنتهى.

 وليست المعلومات المتعلقة بحياة الشيخ كلها مأخوذة عنه وإنما كان هناك مصادر أخرى سواء بالخبر والمصاحبة للشيخ من خلاله قربه أثناء التفاف حوله وخاصة طلبة العلم أو من خلال رعايته وتولي شؤونه من قبلأقرباءه القريبين له ولاسيما في العشرين السنة الأخيرة، وقد أشرتُ إلى القسم الأخير في المقالة السابقة قائلاً: ” …وقد وجد حفيدة الشيخ السيدة حواء جالسة في المكان نفسه تقرأ القرآن وتدعو لجدها ، وقد شرعتُ أتحدث معها بحيث كان يهمني أن أجد منها معلومات ضافية عن حياة الشيخ ما لم أستطع الوصول إليها والتي لم يكن الشيخ يريد أن يبوح بها ، وفعلا لم تخيب آمالي وقد أمطرت عليّ سيلا من المعلومات تتعلق بالشيخ وخاصة في أيامه الأخيرة وهو مما لا نشير به هنا ما عدا بأن الشيخ في أيامه الأخيرة كان يوصي لمن حوله أن يصلي عليه إذا مات الشيخ محمد السبيل  رحمه الله إمام وخطيب المحرم  المكي ، وهو ما حدث فعلاً، كما أخبرتني بأن الشيخ كان يكرر في أيامه الأخيرة دعاءاً نفاذها بأن يرزقه الله الصحة والعافية إذا كانت الحياة خيرا له، وأن يتوفاه ربه إذا كانت الممات خيراً له “.وفي ولادة الشيخ أشرتُ إلى أنه من مواليد مقاطعة أوجادين في منطقة الصومال الغربي المحتل من قبل إثيوبيا، في حين تميزت ترجمة الشيخ أحمد القاسم الغامدي محدداً المكان قائلاً : ” من مواليد مكان يسمى نُوغُب في منطقة الأوغادين في الصومال الغربي..”وفي تاريخ الولادة  لم تحدد واحداً من التراجم الثلاثة ولكن نستطيع القول بأنّ ترجمة الشيخ عمر محمد السبيل والأستاذ حسن عبد الرحمن معلم تنفردت في محاول تحديد التوقيت وفيها:” ولد الشيخ محمد بن عبد الله الصومالي في بداية هذا القرن الميلادي{يعني القرن المنصرم} -في العاشر، أو قريبًا منه” ، ودليلهم في ذلك هو : ” لأن الشيخ قد رأى المجاهِد الصومالي المعروف بسيد محمد عبد الله وهو يعقل، وقد توفي السيد محمد في (1919م)”. ولا شك إذا كان الشيخ يتذكر رؤيته للمجاهد الصومالي السيد محمد عبد الله حسن نور بعد هزيمته على أيدي الاستعمار الأوربي وتفرق أتباعه الدراويش في منطقة الأغادين حين لجأ إليه، لا شك أنّ عمره لم يكن يقل عشر أو بضعة عشر سنة، علما أنّ السيد محمد عبد الله حسن زعيم الدراويش توفي في عام 1919م، مما يدل على أن الشيخ من مواليد بداية القرن الميلادي المنصرم.

 وفي رحلته العلمية اتفقت جميع التراجم الثلاثة بأن الشيخ بدأ تعليم القرآن الكريم أولاً على يد الشيخ حسن أو معلم حسن، غير أنّ ترجمتنا تميزت بأن حسن هذا من قبائل الرحنوين المشهورين بحفظ القرآن وتعليمه في منطقة القرن الإفريقي ، ذكر ذلك صاحب الترجمة لا بأن كاتبها ينتمي إلى تلك المنظومة وإنما منهجيته التي التزم بها قبل فترة من تاريخ كتابة الترجمة بحكم تخصص الكاتب التاريخ الإسلامي المهتمة بالألقاب والكنى وكل العوامل والظروف المتعلقة  بالأشخاص كما هو المعروف عند كتب التراجم والسير. وأثناء حديثي مع الشيخ ذكر لي فضيلته- رحمه الله- عند حديثه عن معلمه حسن قائلاً بأن معلم حسن هذا رحمه الله رغم أنه لم يكن من سكان منطقتنا – أي منطقة الأغادين في الصومال الغربي – بل وجاء بلدته في أراضي الرحنوين الواقعة بين نهري جوبا وشبيلي إلا أنه تلقى رعاية خاص من قبل أهالي المنطقة وذلك مما كان يكن الشعب الصومالي المسلم للدين الإسلامي وأهله بكل تقدير واحترام.واسترسل الحديث عنه بحيث ذكر الشيخ محمد بأن أباه أعطى اهتماما كبيرا لمعلم حسن حيث بنى له بيتا يسكنه في مدينته جغ جغا ، وأكثر من ذلك طلب له زوجة في قبيلتنا الأوغادين، وبعدها  استقرت حياة معلم حسن وتفرغ لمهمته الرئيسية التي رحل لأجلها وهي نشر القرآن الكريم حتى قدر الله أن يعلمنا مما علمه الله من القرآن الكريم.وقد استغربتُ ذاكرة الشيخ القوية التي أنعم الله به رغم المدة الطويلة التي مضت على هذه المرحلة الأولية، بل أن الشيخ لم ينسى الطريقة التي كان يٌعَلمُ معلم حسن للأطفال، فأخبرني تلك الحالة قائلاً “إن عادة معلمنا كانت إذا أخطأ أحدنا في القرآن أو الدرس أن يقول كلمة  ” أخ خ خ”  وهيكلمة معروفة لدا أهلنا من سكان منطقة باي وبكول عبارة عن زجر عند غضبهم أو إذا اعترض على أحدهم ما يكره..” وفي نهاية أخبار هذا المعلم ذكر أنآخر علمه شرع معلم حسن في رحلة دينية إلي أراضي الحجاز لأداء فريضة الحج والعمرة بعد أن باع مواشيه وممتلكاته ثم توجه نحو مكة المكرمة لذلك الغرض.

وللحديث له بقية.

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى