عباقرة لهم أصول في منطقة القرن الإفريقي(40) الشيخ محمد معلم حسن المفسر ومربي الأجيال(2)

الشيخ محمد معلم حسن وجهوده في إصلاح المجتمع بعد انهيار الحكومة الصومالية:

لقد سبق أن أشرنا إلى جهود الشيخ محمد معلم حسن رحمه الله الدعوة والتربية الإسلامية في بلاد الصومال، ولا يستغرب هذه الشيمة عند فضيلته لأنّه أصبح ديدنة حتى حينما كان في القاهرة حيث اسند إليه رئاسة أحد الأروقة في الأزهر بحيث كان على مسؤولةرواق الصوماليقوم بمساعدة الطلبة العلم من حيث التسجيل وانتظام الدراسة ومساعدتهم علمياً وروحياً حتى كان يلقب بـشيخ الرواقكما ذكر ذلك مؤرخنا الدكتور محمد حاج مختار، وكأنّه يقلد جده المؤرخ الشيخ عبد الرحمن الجبرتيشيخ رواق الزيلعوالذي تفرع فيما بعد إلى رواق أهل الصومال والحبشة وما إلى ذلك، كهذا كان دأب الشيخ وديدنه يخالط المجتمع وترأس نادي الثقافي الصومالي في القاهرة فترة محدد الذي أسسه نخبة من شباب الصومال الكبير وعلى رأسهم المناضل السيد محمود حربي.

حينما انهارت الحكومة واندلعت الحرب الأهلية كان رحمه الله من بين الأوائل الذين بذلوا جهوداً كبيرةً على إخماد الفتنة وأسس مجلساً للعلماء سماهمجمع علماء الصومالواختير الشيخ على رئاسة المجلس ، وكان هدف هذا المجلس مشاركة الأمة في معاناتها الحديثة من جراء الحرب الأهلية ، و خلق ظروف أمنية للبلاد، وإصلاح بين الناس إضافة إلى مواجهة التحديات الدينية والأخلاقية من قبل الهيئات والمنظمات التنصيرية التي هيمنت على المنطقة في ظل غياب هيكل حكومي، وكان من ضمن المشاركين مع فضيلته في هذا المجلس، فضيلة الشيخ إبراهيم علي محمود المشهور بـشيخ إبراهيم سولي، والشيخ على محمود وجيز، والشيخ يوسف على عينتي، والشيخ محمد محمود شروع  وغيرهم. وهكذا كان دائماً يستأنف العمل الإسلامي مع لفيف من العلماء وشباب الصحوة وقد أثرت دعوته في الساحة الدعوية في البلاد وفي ربوع منطقة القرن الإفريقي حتى اعتبر البعض لفضيلته أبا الصحوة الإسلامية في الصومال على نمطها الجديد، لأنّه كان قائداً روحياً للحركة الإسلامية في منطقة القرن الإفريقي رغم أنّه لم يكن عضواً فيها على الأرجح ولاسيما في فترة السبعينات وبداية الثمانينات التي كانت السلطة الصومالية  العسكرية في أوج قواتها وكبرائها.

أثره على المدرسة التفسيرية:

والحقيقة أنّ الشيخ محمد معلم حسن ترك مدرسة تفسيرية فريدة من نوعها بحيث لم يسبق مثلها أحد قبله في البلاد في القرن الماضي من حيث طريقة عرضه وأسلوبه الشيق الجذاب، وبذلك إلتفت الجماهير حوله من جميع شرائح المجتمع من العلماء والشباب والتجار والساسة والعسكريين والأطباء وغير ذلك ، مما أشعل النار في نفس النظام وجام غضبه وكذا حليفه الاستراتيجي الإتحاد السوفييتي آنذاك.

وقد أنجبت مدرسة الشيخ مفسرين أجلاء أمثال الشيخ أدم شيخ عبد الله المريحاني رحمه الله الذي كان تفسيره الوحيد الذي يذاع في إذاعة مقديشو، وحتى حينما انهارت الحكومة الصومالية استمر تفسيره يذاع عبر الإذاعات والوسائل الإعلامية المتوفرة في البلاد. وممن أفلح من مدرسة الشيخ محمد معلم حسن التفسيرية فضيلة الشيخ محمد أو يوسف الأغاديني رحمه الله صاحب الدرس الدائم في مسجد التوحيد بطغحتور، والشيخ مريدي حاج صوفي الشاشي يحيث كان يلقي درسه التفسيري في مسجدأربع ركن، والشيخ عبد الرحمن في مسجد نور العين  في حي حمرويني بمقديشو ، والشيخ شريف شرفوا في أكثر من مكان ، والشيخ عبد المجيد الجدلي في حي وابري وهدن، والشيخ عبد القادر شيخ محمد عكاشة في مدينة جوهر عندما كان معلماً يعمل في المدارس الحكومية كمعلم ثم في مسجد أفليرشي في حي بونطيري بمقديشو ، والشيخ محمود عيسى محمود في مسجد عيل هندي في حي هول وداق بمقديشو، وعدداً لا حصر لهم ممن واصلوا مدرسة الشيخ التفسيرية وأسلوب دعوته ووعظه في جميع أرجاء البلاد وخارجها.

وقد عاصر الشيخ محمد معلم حسن رحمه الله ظروفاً صعبةً وزمناً طغى الدكتورية العسكرية في أيام غطرسة الشيوعية وقبضتها القوية ، ومع هذا كله فكان الشيخ محمد لا يألو جهداً في تقوية الوعي الديني ولاسيما في صفوف الشباب ، وقد قدر الله أن توغلت دعوته في أوساط الشباب والمدراس والمعاهد العليا والكليات وفي الدوائر الحكومية حتى صب رئيس سياد بري جام غضبه على الدعاة حيث مارس بهم جميع صنون العذاب من قتل وسجن وتشريد، وقد نجى الله فضيلته من القتل حينما قتل العلماء العشرة المشهورين في حادثة معروفة ، بحيث تحيل الشيخ من الأمر كما تحيل الإمام الشافعي رحمه الله في فتنة خلق القرآن ، لا لحاجة الذينا وبقائها وإنما لمواصلة سير الدعوة وتحقيق ثمارها التي أينعت فيما بعد، ولكنه سجن وصار محبوساً بسنين طويلة بلا ذنب إلا لصموده في وجه الشيوعية من خلال حركته السلمية في المنابر والمدارس والتي كانت تتوغل في أوساط الشباب وطلبة المدارس والمعاهد، غير أنّه حينما اشتدت مضايقات الحكومة على أتباع الشيخ فر كثير من طلابه إلى الدول المجاورة ، واستطاع هؤلاء إيصال الدعوة والفكر الإسلامي النير إلى أصقاع مختلفة في كينيا وجيبوتي وتنزانيا وأوغندا.

الشيخ محمد معلم حسن كما عرفته:

تعرفتُ فضيلة الشيخ محمد معلم حسن رحمه الله بعد إفراجه الأول عام 1982م من السجن، والحق عرفته فاضلاً مناظراً يعتمد على النقل والعقل والحجج الباهرة، وعارفاً بعلم الكلام حق الدراية على طريقة أهله حتى برع فيه، ولكنه كان يحذر طلابه في عدم مضيعة الوقت في تعلمه، بالإضافة إلى ذلك كان متبحراً بالفقه الشافعي متمسكاً به لا يقبل غير المذهب السائد على المنطقة فراراً من الخلاف والفرقة بدون سبب، كان ذا مكانة رفيعة عند عامة الناس، وكان واعظاً كريماً مؤتراً حتى وجد قبولاً عند العامة والخاصة ، اشتهر بالعفة وحسن الخلق والسيرة لا يتكبر أو يستعلي على الآخرين حتى كان يحاور لمن يوجه إليه النقد ولو كان سنه صغيراً وعلمه قليلاً أو ذا كلمة شديدة اللهجة، ولا غرابة في ذلك لأنّه كان صاحب الجد في العلم وذلاقة اللسان وقوة الجنان والصلابة في الدين والمهابة عند الناس والبراعة في العلم حفظاً وضبطاً وبياناً وفهماً ودرايةً، بالإضافة إلى أنّه كان جيد الحفظ كثير الاطلاع حقاً لا يمل ولا يستكين ، وإذا احتاج معلومة أو كتاباً كان يسأل ولو من كان دونه في السنّ والعلم. وقد عرفه الناس بصفات حميدة لأنّه كان رحمه الله شيخاً فاضلاً وفحلاً واعظاً مليح الكلمة سخي النفس جواداً ، فكل من كان يعرفه يشهد أنه كان زاهداً من الذينا وملذاتها، ولو أرادها لحقق منها الكثير، ولكنه اختار حياة المساكين وحبهم، لم يؤلف كثير  إلا كتابين هما كتاب في علم الصرف ، وآخر في الصفات، بحيث أمضى وقته بالدعوة والوعظ والسجن وملازمة السرير الأيض، وكتابالصرفالمذكور هوالتبيان في مسائل تصريف الأفعالويتناول في علم الصرف في مسائل تصريف الأفعال وما يتصل بها، وله علاقة باللسان العربي وتصريف الكلام، وكان المؤلف متبحراً في هذا الفن ويدرس لطلابه بعد إفراجه من السجن عام 1982م استجابة منهم. وهذا الكتاب حدّ علمي كان مخطووطا غير مطبوع ، وكان موجوداً عند الأخ الدكتور محمد ديرية سبرية حيث رأيته مشغولا بتحقيق الكتاب وإخراجه على أحسن الصورة، مع وضعه مقدمة مفيدة حول سيرة الشيخ وأثره العلمي والدعوي. أمّاكتاب الصفاتوهو كتاب آخر للشيخ ، كما ذكر ذلك الشيخ عبدالله الشيخ على جوهر عند زيارتي له في بيبته  ومسجده وحلقاته العلمية التي كان يديرها ويشرف عليه الشيخ نفسه في مدينة بورما عام 2009م، وكانت بينما علاقة حميدة ، وكأنّ فضيلة الشيخ محمد معلم حسن يصل أولاد شيخه الشيخ علي جوهر ويبرهم احتراماً وتقديراً لشيخه وعدم نسيانه حياً أو ميتاً.

وفقات مع الشيخ رحمه الله:

أتذكر عندما أدخل الشيخ في مستشفى المدينة بمقديشو لمعالجته زرتُ برفقة مع الأحباب والدعاة وكان يوم الجمعة، وقابلنا الشيخ بعض الصلاة الجمعة وأخبرنا حالته وتحسنه وأنّه صلى الجمعة في مسجد المستشفى، واسترسل حديثه بأنه صلى أربعة ركعات قبل الجمعة وأربعة بعد الجمعة، وسألت الشيخ :يا فضيلة الشيخ عرفنا السنة بعد الجمعة ولكن ماذا الصلاة قبل الجمعة ؟ وهذا الأمر لم يكن غريباً عند شاب كثير العجل خفيف الدم مثلي الذي لا يقدر الظرف المكاني والزماني، ولكن الشيخ تبسم وقال سوف نتحدث فيما بعد يا محمد يري أي الصغير كما كان يلقبوني القوم بحيث كنت أصغرهم في فترة من الفترات. وبعد وقت تعافى الشيخ وخرج من المستشفى وبزيارة خاطفة إلى بيته تذكر الشيخ الموقف وما طرحته من الكلام حول سنة قبل الجمعة ، ودخل في مكتبته الخاصة في غرفة النوم ثم أخرج كتابعمدة القاري شرح صحيح البخاريللحافظ  أبي محمد محمود بن أحمد العيني الحنفي. المتوفى: سنة 855ه، وأول مرة أسمع اسم الكتاب من الشيخ فضلاً عن رؤيته وذلك في عام 1982م، قرأ علينا ما أورد الحافظ العيني في كتابه من الأقوال والآثار في جواز مشروعية السنة قبل الجمعة، ثم قال لي فماذا تقول بعد أن سمعتَ الكلام؟ ولكن من حسن حظي قرأت قبل أيام قليلة هذه المسألة من كتاب زاد المعاد في هدي الخير العباد لعلامة ابن القيم الجوزي والتي جاءت على حديث الشيخ محمد، ومما ساعدني أنّ ابن القيم ويفند ما أورد الحافظ العيني واستدل به من الأحاديث والأثار ، وكنت شاباً ذا ذاكرة قوية في تلك الفترة، وكأنني أعقب كل ما ذكر الشيخ علمياً ، والحقيقة أن ما أقوله كان مجرد نقل من كتاب ابن القيم الجوزي، مما كان في استغراب الشيخ، وفي نهاية الأمر سألني الشيخ من أين أتيت ما كنتَ تقولته؟ فأخبرت بأنّهُ ليس لي دخل إلا ترديد ما كتبه العلامة ابن القيم الجوزي في كتابه زاد المعاد ثم انتهى مجلسنا. وبعد أيام قابلت الشيخ في مكتبة مسجد التضامن الإسلامي مكباً على قرآءة كتاب زاد المعاد المذكور وأخبرني بأنّه يقرأ الموضوع ويتابعههكذا كان شيخنا محمد معلم حسن رحمه الله يقبل الحوار إذا كان هادئاً  وهادفاً ومفيداً بعيداً عن العنف والتشنجات والكبرياء واستخفاف العلماء، بل ويشارك مع من خالف الرأي في المجالس والمشاورة دون أن يراك أدنى منه في الرأي والطرح.

وفاته:

توفي الشيخ محمد معلم حسن في مدينة تورينو الإيطالية بعد معانات طويلة من المرض دامت عليه فترة ، وقد نقل جسمانه إلى عاصمة الصومال مقديشو بحيث دفن بمقابر الوطن في العاصمة، وقد كان رحمه الله سافر إلى المملكة العربية السعودية لأجل العلاج بشهر فبراير عام 1999م وأدخل في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، وبعد ما تحسنت صحته قدر الله له حادث سيارة في الرياض وأعيد إلى المستشفى مرة أخرى، وعندما استعصى شفاؤه نقل إلى إحدى المستشفيات في تورينو ، وعلى الرغم أنّه تحسن فيما بعد إلا أنّ قدر الله قد سبق على كل شيئ بحيث وافته المنية في يوم الأحد 13/5/ 1321ه الموافق 14/8/2000م. وقد ترك الشيخ خمسة أولاد وأكبرهم عبد الرحمن وهو الولد الوحيد، فرحم الله شيخنا أبأ عبد الرحمن محمد معلم حسن الحوادلي وأسكنه فسيح جناته.

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى