عباقرة لهم أصول في منطقة القرن الإفريقي (37) العلامة الشيخ علي ميه البكري(1)

مولده  ونشأته العلمية:

الشيخ علي بن محمد بن صديق بن عثمان المشهور بالشيخ علي ميه الدرقبي البكريبحيث ينتمي إلى قبيلة درقبه التي ترجع نسبها إلى قبيلة البكري والتي تنحدر إلى سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أما لقبه ميه والتي اشتهر بها فمعناها الحلو في لهجة الدرقبيين من أهل مركة، وهو من مواليد عام 1336ه الموافق عام 1848م في مدينة مركه الساحلية ونشأ فيها عند أمه السيدة فاطمة بنت عبد الرحمن حيث توفي أبوه وهو صغير لذلك تربى يتيماً، ولكنّ أمه حرصت على ابنها وربته أحسن تربية، وعلمته أحسن التعليم بدء بتعاليم القرآن الكريم قرآءةً وكتابةً وحفظاً بعد أن أدخلته مدارس التحفيظ القرآن الكريم المعروفة عند أهل الصومال دكسي في مسقط رأسه، كما كانت عادة المسلمين في كل مكان ولاسيما عند المجتمعات الإسلامية في ساحل إفريقيا الشرقية. ولما كبر سنه اشتغل في بعض الأعمال الحرة و الحرف اليدوية كصناعة الكوافي والخياطة والتطريز، وتنسيخ الكتب والورق وتجليدها باحثاً برزق الحلال وما تكسب يده، وفي فترة فراقه كان يحرص على طلب العلم بحيث التحق بالحلقات العلمية التي كانت منتشرة على أرجاء المدينة وقد استوعب كثيراً من العلوم الدينية وتفوق على أقرانه وقد ساعد على ذلك عقليته الفائقة وقهمه العالي بالإضافة إلى معلميه ومربيه، ومن تلك الحلقات التي استفاد منها فضيلته علوماً كثيرةً ومتنوعةً كالقرآن وعلومه والحديث وعلومه والفقه وأصولهواللغة الأدب والسيرة والتاريخ وغير ذلك، وبإشارة بسيطة إلى نموذج من هذه الحلقات العلمية التي كانت متناثرة على مدينة مركة وضواحيها نضرب مثلاً حلقة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي نسبة إلى مدينة شيراز الإيرانية مما يدل على العلاقات العلمية والثقافية بين مركة ومدن إسلامية أخرى، كما ستفاد أيضاً حلقة الشيخ محمد بن علي البداسي ، وحلقة الشيخ علي بن عبد الرحمن المشهور بحاج علي المجيرتين أحد العلماء المشهورين في قطرنا الصومالي والذي ذاع صيده في شرق البلاد وجنوبها إضافة إلى خارج البلاد مثل زنجبار وهند والحجاز وصاحب المؤلفات العديدة في مختلف العلوم والمعرفة والمدفون في منقطة عغارن احدى ضواحي مركة. ومن بين الحلقات العلمية والدينية التي استفاد الشيخ علي ميه البكري حلقة الشيخ مختار نور سمو الهمداني الذي كان رفيقاً وملازماً بجد الشيخ علي ميه الحاج علي بن أحمد إمام الصديقي إحدى مساجد مدينة مركة الساحلية ولاسيما حي البكريين المشهورة بدار عقبة والتي تحلوت نطقها فيما بعد الدرقبة أو الدرقبي . ومن شيوخ الشيخ علي ميه أيضاً الشيخ عثمان بن إسماعيل بن إسماعيل الجمالي حيث كان يلزم حلقته العلمية في مركة، زوكذا حلقة الشيخ محمد بن عبد الله الباجنيذي، والشيخ حسن معلم مؤمن البصراوي الذي أخذ عنه إجازة الطريقة الأحمدية علماً أن الشيخ حسن معلم هذا قد تلقى إجازة الطريقة الأحمدية من شيخه عبد الواحد صاحب الزهد  والآدب الجم والتواضع والذي اشتهر في القطر الجنوبي بل وذاع صيده في صفوف أهل العلم في ذاك الزمان. ومن الشيوخ التي تلقى الشيخ علي ميه العلم شيخخ مولانا عبد الرحمن المغربي وغير ذلك. ومن هنا فلا يستغرب أن حاز فضيلته شهرة فاقت على أقران زمانه في تحصيل العلم والمعرفة،  وقد ساعد على ذلك عدة عوامل منها تربيته الكريمة وعقليته الفائقة وذاكرته القوية التي ظهرت في صغره، بالإضافة إلى حبه وملازمته للعلماء والجلوس معهم[1]. وأساليب تلقي العلم والمعرفة لدى فضيلة الشيخ علي ميه لم تكن فقط علي الأسلوب المعداد والمباشر، وإنما أخذ العلم عن طريق الإجازة التي كانت مشهورة في أوساط أهل العلم وفي الأروقة العلمية في العالم الإسلامي عموماً بحيث تمت أخذ فضيلته علم التصوف والطريقة الأحمدية وأورادها ونشؤونها عن هذا الأسلوب المذكور من قبل الشيخ حسن معلم مؤمن البصراوي وعنه شيخه عبد الواحد ، علماً أنّ هذه الإجازة تصل إلى السيد أحمد بن إدريس الفاسي.

جهوده في نشر العلم وإصلاح المجتمع:

وبعد أن تقوت حصيلته العلمية شرع فضيلة الشيخ علي ميه نشر الدعوة والعلوم التي تلقاها من العلماء بطرق مختلفة ، ومن بين ذلك أنّه – رحمه الله – كان يزال الأمر المعروف والنهي عن المنكر مباشرة دون أن يتكل لأحد من طلابه والمقربين له، وكذا نشر العلم والمعرفة بحيث قام بنشر علم التصوف والطريقة الأحمدية وأورادها ونظامها الروحي على نطاق واسع حتى أصبح مجدد الطريقة ليس في بلاد الصومال فحسب ، و إنما في منطقة شرق إفريقيا عموماً، علماً أنّ هذه الطريقة ظهرت في جنوب الصومال عن طريق الشيخ عبد الرحمن المشهور بـ ” مولانا” أحد أتباع السيد أحمد بن إدريس، كما انتشرت هذه الطريقة في القطر الصومالي وخاصة القسم الجنوبي منه على يد الشيخ محمد جوليد الذي أخذ الإجازة والإذن لنشر الطريقة وتعليمها من قبل شيخه الشيخ محمد صالح السوداني عند ما التقى به في مكة المكرمة.

ومن جانب الآخر  يتبع بأسلوب آخر مغاير عما سبق بحيث كان الشيخ علي ميه يرسل النابغين من طلابهبعد أن اطمأنّ بهم ولمن كان يعتقد بأنّهم سوف يحققون رسالة الإسلام ومبادئ الدين الحنيف إلى المناطق والآفاق التي جاؤوا منها لتحقيق رسالة الإسلام وتعاليم الطريقة الأحمدية من الآداب والزهد والفقه من خلال تأسيس وإقامة خلاوي القرآن الكريم المعروفة بالدكسي، والأروقة والزوايا الدينية المعروفة عند أهل الصومال موالع جمع مولع.. بحيث كان يلتف الناس حولهم ويستمعون منهم الدروس الدينية كأحكام الفقه الشافعي من الطهارة والصلاة وسائر الشعائر التعبدية وكذلك السيرة النبوية والأذكار والآداب الإسلامية الأخرى، بالإضافة إلى فض المزاعات وفصل الخصوم ولاسيما فيما يتعلق بأحكام الدين وما له صلة بالشريعة الإسلامية الغراء كالإثر والأمور الزوجية وغير ذلك، وهذا النشاط الدعوي والحركة العلمية أثرت على المنطقة بحيث ساد الأمن والهدو بعد أن كانت غير مستقرة.

وهناك جملة من طلبة العلم الذين استفادوا من مجالس الشيخ علي ميه العلمية في مركة وبعثهم إلى ذويهم والمناطق التي جاؤوا منها بحيث كلفهم نشر الإسلام ورسالته العلمية، ومن هؤلاء فضيلة الشيخ داوود علسو، والشيخ إبراهيم بن الشيخ محمود المعروف بالشيخ إبراهيم يرى، والشيخ عمر جرجدود، والشيخ أحمد وهليه ورسمه من أهل منطقة عيل طير في إقليم جلجدود في وسط البلاد لأنّ هؤلاء العلماء الأجلاء ينتمون إلى كتلة وعيسلي احدى بطون قبيلة الأبغال، الأول ترك آثراً علمياً كبيراً في البلاد وهو والد شيخنا فضيلة الشيخ عثمان حدغ صاحب مؤلفات عديدة وحلقات العلم والتربية ، والثاني أسند إليه قضاء مدينة مقديشو وهو والد برفسور يحيى عامر المتخصص بعلم الاقتصاد وكان أستاذاً في جامعة مقديشو منذ تأسيسها. الجدير بالذكر فإن الشيخ داوود علسو يعتبر من الجيل والرعيل الأول الذين حملوا شمعة تعاليم الشيخ علي ميه البكري، ثمّ تلاه مجموعة أخرى. وإذا كان هذين عالمين ينتمان إلى قبيلة وعيسله الأبغالية فإنّ هناك أيضاً علماء وفقهاء آخرون بُعُثوا إلى مجموعات أخرى من قبيلة الأبغال مثل الشيخ محمود أو عثمان، والشيخ موسى عقله المعروف ، والشيخ  أبيكر عده، حيث توجهوا إلى المناطق والقرى التي تسكنها قبيلة هرتي أبغال في شبيلي الوسطى. كما بُعِثَ الشيخُ آدمُ يرى إلى المناطق التي تقطن قبيلته عير احدى بطون قبيلة هبر غدر. ومن طلاب الشيخ علي ميه الذين تلقوا العلم على يديه الشيخ محمود حسن غدغد ، والشيخ علي مالم غربي، والشيخ آدم علي يري، والشيخ يوسف حسن ، وغيرهمم ممن  كان لهم دور في نشر العلم والمعرفة في القطر الصومال الكبير كما أشرنا آنفاً .

والحقيقة أنّه لا يستغرب لفضيلة الشيخ علي ميه لهذا الحرص الشديد للدعوة الإسلامية ونشر العلم ونشاطه الدعوي لأنّه تربى تربية حسنة ويستند إلى شجرة ذات دين وعلم وخاصة جده حاج علي أحمد كان إماماً للمسجد ومرموقاً في الساحة الدينية والعلمية في مدينة مركه. ومن بين أتباع الشيخ علي ميه الذين تلقوا العلم علي يديه فضيلة الشيخ حاج يوسف السليماني  ( احدى قبائل هبر غدر) الذي نشر الفقه والآداب الإسلام في وسط الصومال بحيث كان فضيلته – رحمه الله – ذا خلق حسن رفيع، وصاحب الزهد والتواضع يكنّ له المجتمع بكل التقدير والاحترام ، وهو والد الشيخ علي حاج يوسف المشهور في الساحة الصومالية بنشاطه الثقافي والسياسي، بل وما زالت عائلة حاج يوسف تتلقى احتراماً وتبجيلاً كبيراً في المجتمع في تلك النواحي. ورغم أنّ فضيلة الشيخ قد ركز في بداية الأمر في نشر العلم والمعرفة في مركه وضواحيها إلا أنّ إرادته الإسلامية حتمت عليه إلى آفاق أخرى ولم تقتصر دعوته وهمومه الإسلامية في جنوب البلاد فقط ، وإنما يحلم إيصال دعوته وجهوده العلمية إلى جميع المناطق التي يسكنها أهل الصومال ثم أجزاء من منطقة شرق إفريقيا، وقد تحقق هذا الحلم عندما بعث الشيخ علي ميه عالمين فاضلين شقيقين الشيخ محمود حسن والشيخ أحمد حسن إلى أراضي أوغادين وخاصة مناطق قبائل المجيرتين ( بني حلديد من قبيلة بعيديهن) وقبيلة مكاهيل من أوغادين، كما أوصاهم المكوث إلى منطقة جلدغب التي تقطنها قبيلة ليلكسي في محافظة مدغ بوسط الصومال.

وفي هذا السياق يقول المؤرخ الصومالي الدكتور أحمد جمعاله محمد : ” يعتبر العلامة الشيخ علي ميه مؤسس مدرسة مركه الإصلاحية، وهو من ألمع الشخصيات العلمية التي برزت في عهده فهو عالم فصيح فقيه صوفي يستفتي فيما يعرض عليه من أمور الدين فيفتي عن علم، فصارت مدرسة مركه من أغزر المدارس علماً، وأخرجت العديد من مشاهير علماء الصومال وهم من طلبة العلامة وغيرهم قاموا بفتح المدارس القرآنية وإلقاء المحاضرات الدينية في المجتمعات البدوية والقريبة..” [2]، ولم يستثني الشيخ علي ميه تلك البعثات من ذويه وأسرته بحيث كان من بين البعثات الخير والبركة ولده الشيخ محمد بن الشيخ علي ميه ، ثم حفيده الشيخ أبا علي بن الشيخ محمد بن علي ميه فيما بعد.

ومهما كان فقط استطاع الشيخ علي مية نشر كثير من تعاليم الإسلام في جنوب البلاد ووسطها، واشترك في ازدهار الحركة العلمية في المنطقة، ومن ناحية أخرى فإنّ الشيخ  علي ميه كان يشجع طلبة العلم سواء من أهل المنطقة أو الذين أتوا من مناطق أخرى بعيدة عن المدينة مادياً ومعنوياً وخاصة المغتربون منهم حيث كان يبحث لهم المسكن الذي يأوون بهم حتى يتمكون مواصلة طلب العلم بحيث كان ينفق عليهم ، ويقال أنّه كان يوجه بعض طلابه إلى مزاولة بعض الأعمال الحرة، كالأعمال اليدوية والحرفية الأخرى، بحيث زاولها البعض على صناعة الكوافي والخياطة والتطريز، وتنسيخ الكتب وتجليدها حتى يكتسبوا ما يسدّون في رمقهم، مستفيدين من خبرة الشيخ وحنكته في ذلك المجال لأنّه – رحمه الله –  قد زال مثل هذه المهن والحرف في شبابه  كما أشرنا ذلك آنفاً، ومن هنا فليست الغرابة إذا فاق أهل مدينة مركه على المدن الصومالية المطلة على المحيط الهندي علمياً وثقافياً ويشار إليها بالبنان من المناطق والمدن الأخرى في شرق إفريقيا أو حتى في الجزيرة العربية، وبالتالي يشدّ إليها الرحال لأنّ مدينة مركه أصبحت موطن العلم والمعرفة بسبب وجود كوكبة من أهل العلم وما كان يدور من العلم في مدارسها وأروقتها العلمية، وكذا زواياها التربوية والروحية التي نظمت حياة المجتمع ، كما أنّ مدينة مركه لفظت أنظار القصور السلاطين وبلاط الأمراء في أكثر من موقع  في عهد العلامة الشيخ علي ميه بحيث كان هؤلاء يحرصون على العلاقة معها بسبب وجود الشيخ ومدرسته الفقية العلمية ، كما فعل ذلك السلطان البوسعيدي سلطان زنجبار يستفتي بعض المسائل الدينية التي استشكلت السلطنة، وكان بدور الشيخ يشارك إخوانه همومهم وأحوالهم وربما كان يضر إرسال رسالة علمية يوجه أمورهم أو يفتي ما استشكل بهم من المسائل، كما أنّ الأمة في داخل البلاد تسأله العون والمساعدة في نشر العلم وتيسير أمور دينهم ، وكان الشيخ لا يهدأ حتى يبعث إليهم من كان يعتقد بأنّهم أهل في ذلك وخاصة كان يحرص على اختيار من أتى من هذه النواحي وهو ابن المنطقة والبيئة حتى لا يكون عائلة على الناس ويتفرغ على مهمته، هكذا كانت ترى تلك المدرسة العلمية الروحية الزاهدة والتي استعلت على مطالب الذنيا من ذوي السلطان والتجار، وبمجرد قرآءة ما يحتوي ارشيف مكتبة الشيخ علي[3] ميه في مركه من الوثائق والرسائل والكتب المهداة من بعض السلاطين المسلمين في زنجبار ومقديشو مثل سلطان سعيد برغش يتضح مستوى العلاقة  القوية بين هذه الجهات بسبب المستوي التي وصلت إليه مركه في فترة الشيخ علي ميه.

 المراجع

– أحمد جمعالي محمد ( كسترو) : دور جنوب الصومال في الدعوة الإسلامية ( 1889م – 1941م) ، بحث مقدم للحصول على درجة الدكتوراه في التاريخ الحديث من قسم التاريخ و الحضارة الإسلامية التابع بكلية الأداب بجامعة أم درمان الإسلامية، 1429 / 2008م، ص 209 – 210.[1]

– أحمد جمعاله محمد : دور علماء جنوب الصومال في الدعوة الإسلامية ( 1889م – 1941م)، مرجع سابق ص 212.  [2]

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى