المدن الصومالية (2)

أثر الحضارة الإسلامية في نشأة المدن الصومالية:

لعب انتشار الإسلام واتساعه في ربوع القرن الإفريقي دورا كبيرا في عملية إنشاء المدن والمراكز الحضرية في الصومال، بل وأدى إلى قيام ممالك إسلامية في تلك المنطقة من القرن الحادي عشر الميلادي سواء في جنوب الصومال أو شمالها، وصارت هذه المدن مشيخات وممالك فيما بعدُ، بدءًا من مدينة ورشيخ شمالا إلى مدينة لامو في أقصى جنوب المنطقة.

أما في شمال الصومال وغربه فكانت الممالك الإسلامية تلعب دورا مهما في نشر الإسلام وتأسيس بعض المدن والمراكز الثقافية لتكملة الدور الديني والحضاري من منطقة زيلع إلى مناطق سيدامو وبالي وأطراف مرتفعات شوا الشرقية [1].

وفي بداية القرن السابع الهجري /الثالث عشر الميلادي قدمت إلى الساحل الشرقي لإفريقيا هجرات عربية من إقليم عمان كان لها أثر كبير في تاريخ المنطقة، وقد استكملت مظاهر وسمات عربية وإسلامية في جميع أنحاء السواحل الشرقية لإفريقيا طمست على السمات الإفريقية، وتحوَّلت إلى مدن من طراز عربي، وهذه المدن التي أنشاها العرب من الشمال إلى الجنوب هي مقديشو ، مركه، براوه ، كيسمايو، رأس كمبوني، التي ما زالت القلاع العربية فيها حتى الآن موجودة، وبات/ ولامو ، وممباسا، وزنجبار، وموفيه، وكلوه، وسفالة [2].

ومن الصعب أن نحدد تاريخ الاستقرارات العربية الأولى على ساحل الصومال إذ أنها كانت مستمرة وطويلة منذ فجر التاريخ، ولكن يمكن أن نقول أن تزايد الحركة التجارية بين العرب والصومال كان يتبعها في العادة تزايد في الهجرات العربية واستقرارات في الموانئ التجارية بهدف إعداد السلع التجارية حتى تصل السفن العربية وإيداعها في الموانئ ريثما يتم نقلها إلى الأسواق ثم تحولت إلى استقرارات من أجل الزراعة والصناعة وتحسين مستوى المعيشة، وأحيانا تكون هذه الاستقرارات نتيجة لاختلاف مذهبي أو عقائدي أو لسبب آخر ، مما دفع بعضهم إلى الهجرة والاستيطان في الصومال فترة قد تكون طويلة أو قصيرة”[3].

أثر التجارة المزدهرة في الساحل الصومالي على نشأة المدن الصومالية:

يعتبر العامل التجاري أمرا أساسيا في تأسيس المدن الصومالية حيث لعبت الصومال في العصور القديمة دورا كبيرا في الحركة التجارية والحضارية مع دول العالم المتحضّر ، وكان أهم هذه الاتصالات التجارية والحضارية العلاقات التجارية والثقافية مع مصر الفرعونية، وكانت السفن المصرية تأتي إلى بلاد البونت الصومالية وتصدر منها البخور والعطور ، وهذه المراكز التجارية والموانئ الواقعة على الساحل الصومالي كان الرُّومان يقصدونها من أجل الحصول على البخور والعطور والعاج ورقائق الفضة, وقد كتب استرابون الجغرافي عن ساحل الصومال في القرن الأول قبل الميلاد فقال: ” هذه هي بلاد البخور وبها رأس في البحر ومعبد يقع وسط دغل من شجر الحور وبداخله صقع يحف بشواطئ نهر يحمل اسم (ايزيس) وآخر يسمى تنيلوس ، وكلتا المنطقتين تنتجان المر والبخور”.

وكانت تجارة الصومال مع أهل الجزيرة العربية أكثر استقرارا وأبلغ تاثيرا ثقافيا، وحمل العرب في ركاب التجارة أسس الحضارات الشرقية القديمة ممثلة من المصنوعات والمنتوجات المتنوعة وملامح من الثقافة والمدنيَّة من بابل وآشور بالعراق وبلاد الفرس والرومان واليونان والفينيقيين والمصريين والهنود والصينيين وغيرهم، وكان حامل هذه المدنيات ومنتجاتها هم عرب الجنوب من اليمنيين والحضارمة والعمانيين فهم يمثلون عمد الرباط التجاري والحضري بين الصومال ودول العالم القديم.

وخرجت السفن الصومالية حاملة إنتاج الصومال من مسك ولبان وبخور وعاج وجلود وأخشاب ثمينة كالساج والطرفاء الذي يصنع منه أعمدة الخيام إلى بلاد العرب ثم امتدت سفن الصوماليين في تجارة واسعة إلى بلاد الصين والهند وجاوة شرقا وإلى مصر شمالا . [4]

عوامل نشأة المدن الصومالية:

إن  العوامل التي نشأت بسببها المدن الصومالية كثيرة ومتنوعة يمكن تلخيصها فيما يلي:

  • العامل الديني:

كانت مراكز نشر العلم الشرعي والدعوة الإسلامية والتصوُّف من أهم العوامل الأساسية لتأسيس المدن الصومالية، ومن هذه المدن التي أصبحت مركزا للدعوة الإسلامية مدينة مقديشو ومركا وبراوه وبارطيري وبلدوين وورشيخ وعيل طير  في الجنوب، وزيلع وهرر وهرغيسا في الشمال، ومن العوامل التي أدت إلى تأسيس هذه المدن الهجرات العربية التي كانت تحمل طابعا دينيا بالدرجة الأولى لنشر الإسلام في ربوع الصومال، وهجرة العلماء الصوماليين وكبار فقهاء الصوفية وطلاب العلم إليها واستيطانهم في المدن الداخلية والساحلية [5].

  • العامل التجاري:

تأسست بعض المدن الساحلية والداخلية لأسباب اقتصادية وتجارية نتيجة لتبادل السلع التجارية وتصديرها أو استيرادها من دول العالم، ومن هذه المدن التي أصبحت مركزا لتجارة البخور وصيد الأسماك وجلب السلع من الخارج المدن الساحلية في أقصى شرق الصومال وشمالها مثل حافون وبوصاصو وبربرة ولاسقوري وغيرها، وفي الجنوب مدينة أفجوي التي كانت مركزا مهما لتبادل السلع والمحصولات الرزاعية، وبلدة حواء في أقصى الجنوب الغربي من الصومال، ويعزى كون المدينة تقع على مرفإ استراتيجي أو على مجمع طرق ذات أهمية كبيرة عاملا مساعدا في ازدهار المدينة.

3-العامل السياسي:

هناك بعض العوامل السياسية في تأسيس بعض المدن الصومالية من حيث اللجوء السياسي لبعض المهاجرين العرب الذين هربوا من قبضة بعض الحكام في دولة الخلافة الإسلامية في العصور الوسطى كما هو الحال في بعض المدن الساحلية الصومالية الآنفة الذكر، أو من حيث الصراع السياسي التاريخي كما هو الحال مدينة غالكعيو في وسط الصومال، وحسب ما يقوله المؤرخ الشريف عيدروس فإن صراعا كبيرا بين الصوماليين الأوائل وبين جماعات الغالا التي كانت تقطن في المنطقة حدث في غالكعيون استولَى الصوماليون أثنائها على مدينة غالكعيو التي لم تكن تسمى بهذا الاسم من قبل، وهي من كلمتين (gaal-kacyo) معناها بالعربية (هزيمة الغالا)، وكان ذلك في القرن الحادي عشر[6]، ومنها مدينة تليح التي كانت قاعدة عسكرية للسيد محمد عبد الله حسن وقوَّاته العسكرية في نضالهم ضد المستعمر البريطاني، وكالك مدينة أيل الساحلية التي كانت هي الأخرى قاعدة لقوات الدراويش [7] .

  • عامل الهجرة:

تساهم الهجرات والنزوح في عملية انتقال مدينة إلى أخرى أو نمو مدينة جديدة على حساب أخرى ، وكما يرى ابن خلدون فإن خراب المدن أو الهجرة عنها وتقليص ثقلها السكاني من أسبابها البعد عن الصنائع أو الخدمة التجارية، وقلة مراعاة الناس لحسن اختيار التخطيط المناسب للمدينة، وأن تقع على مكان غير استراتيجي، وأن يكون مناخها وهواؤها ومياهها وإنتاجها التجاري غير مناسب.

والعوامل التي تؤدي إلى النزوح والهجرة كثيرة منها الصراعات السياسية والكوارث الطبيعية منها الجفاف والمجاعة وقلة الموارد الاقتصادية، وبين تلك المدن التي انتقل الناس عنها مدينة زيلع التي كانت يومًا مركزا دينيا كبيرا وتجاريا وحضاريا وثقلا سكانيا لكونها عاصمة لمملكة عدل التي يقال الآن (أوْدَلْ)، وبدأت زيلع تفقد أهميتها تدريجيا حيث انتقل الناس منها إلى جيبوتي وبورما، وتحولت المدينة إلى أطلال أثرية يسكنها قليل من الناس.

ومن المدن التي نمت على حساب المدينة الأخرى بلدة عيل طير على حساب بلدة مريغ في محافظة غلغدود، وبلدة دهر  على حساب بلدة لاسقوري الساحلية في محافظة سناغ، وبلدة سلَغْلي على بلدة دجوما في جوبا الوسطى، وتم تأسيس مدينة عيلَشا (مياه الآبار) في شبيلى السفلى على الطريق بين مقديشو وأفجوي بعد النزوح الكبير من مقديشو إبان التدخل العسكري الإثيوبي للصومال عام 2007م.

المراجع:

[1] د.محمد حسين معلم علي، الثقافة العربية وروَّادها  في الصومال، ص 185.

[2] عبد الله عمر نور،  مسيرة الإسلام في الصومال الكبير، ص: 20.

[3] حمدي السيد سالم، الصومال قديما وحديثا، ص:95.

[4] المرجع نفسه.

[5] محمد نور حسين، “حال الدعوة الإسلامية في الصومال في فترة الإحتلال الأوروبي”، رسالة ماجستير في الدعوة وأصوله من جامعة المدينة العالمية في ماليزيا، 2013م.

[6] بغية الآمال في تاريخ الصومال، الشريف عيدروس، ص:71.

[7] القبائل الصومالية النشأة والتطور، أنور أحمد ميو، ص: 97و98.

أنور أحمد ميو

كاتب وباحث بمركز مقديشو للبحوث والدراسات
زر الذهاب إلى الأعلى