التحول الديمقراطـــي في جيــبوتي بين أزمة الفهم وعجز التطبيق

توطئة

تعد جمهورية جيبوتي واحدة من الدول العربية والإفريقية ذات النظام السياسي (القبلي) ويقدر عدد سكانها بحوالي (900) ألف نسمة يشكل المسلمون فيها بما يزيد عن (99%) فيما تشكل الديانات الأخري بنسبة أقل من (1%).
ورغم كل ما تتمتع به البلاد من تجانس ديني وإرث إجتماعي فريد يمكن إستثماره لخلق هوية قومية حاضن للجميع، إلا أنه ما زالت النزاعات القبلية ـ حتى الآن ـ تسيطر على كافة المجريات السياسية في البلاد.
ويرجع ذلك إلى عديد من العوامل المتداخلة من بينها:

  • إستهداف الإستمعار الفرنسي على تلك القيم المشتركة وزرعه في المجتمع بمخلفات ثقافية سامة ومفاهيم سياسية معكوسة تعتمد على القبلية.
  • فشل الحكومات الوطنية المتعاقبة في معالجة تلك المخلفات الثقافية والسياسية وتنمية الإرث الإجتماعي والتاريخي للأمة.
  • ومع أن عمر إستقلال البلاد قد شارف لعقده الرابع وهي فترة زمنية كافية لتحقيق نضوج وإجتماعي وخلق هوية وطنية جامعة إذا ما توفرت الإرادة السياسية، إلا أن مآلات وتداعيات تلك الأزمة ما زالت حاضر بقوة بحيث تعيق على جهود التنمية السياسية والتحول الديمقراطي في البلاد.
  • و(للأسف) لم تفشل النخبة السياسية في تحقيق تنمية إجتماعية شاملة فحسب، بل إستثمرت ذلك الإنقسام لتحقيق مكاسبها الخاصة.
  • وفي وقت مبكر برزت تداعيات الصراع القبلي في المشهد السياسي فقد تشكل البر لمال الأول عقب الاستقلال على أسس قبلي إذ اسند 33 عضوا للقبائل الصومالية بينما أسند30 عضوا لقبائل العفر وعضوين للعرب.
    ثم تطورت الأزمة وأخذت بعدا سياسيا حين ألغى الرئيس السابق حسن جوليد لنظام التعددية الحزبية واختار نظام الحزب الواحد.
    أزمة التحول الديمقراطي في البلاد:
    ورغم أن الشعب الجيبوتي قد عرف التعددية الحزبية وممارسة العمل السياسية لعقود عدة قبل إستقلال البلاد من الإستعمار الفرنسي.
    بحيث إستطاعت حركات التحرر الوطنية منذ منتصف القرن الماضي بتأسيس عدد من الأحزاب السياسية الفاعلة كان من بينها، حزب وحدة الشباب الصومالي (فرع جيبوتي) وحزب الإتحاد الجمهوري وجبهة التحرير الساحل الصومالي والحركة الإفريقية للتحرير والحركة القومية للتحرير
    وقد لعبت هذه الأحزاب بمختلف توجهاتها السياسية والفكرية دوراً كبيراً في نضال التحرر الوطني إلى جانب مساهمتها في رفع مستوى الوعي الإجتماعي والسياسي في البلاد.
    بيد أن هذه التعددية السياسية والحزبية في البلاد لم تعمر كثيرا وسرعان ما إختفت من المشهد السياسي بعد سنوات قليلة من الإستقلال.
    وذلك بعد أن قررت النخبة السياسية التي شكلت الحكومة الوطنية الوليدة بإلقاء التعددية الحزبية وإختيار نظام الحزب الواحد.
    وفي الـ 4 مارس عام 1979م، توحدت كافة القوى السياسية في حزب التجمع الشعبي من أجل التقدم (RPP) الذي ظل يحكم للبلاد منذ تأسيسه حتى اليوم.
    وفي أعقاب الحرب الأهلية التي شهدته البلاد في مطلع التسعينات من القرن الماضي، قامت الحكومة لإجراء بعض الإصلاحات الدستورية.
    وفي 4 سبتمر عام 1992م، أقرت التعددية الحزبية لأول مرة بعد أكثر من عقد ظلت البلاد تعيش تحت نظام الجزب الواحد.
    وبحسب المراقبين كانت تلك (الإصلاحات) السياسية شكلية وبعيدة عن جوهر الإصلاح السياسي ولذلك لم تساهم في عملية التحول الديمقراطي بقدر ما كرست بقبضة الحزب الحاكم على السلطة.
    ومع أنها شكلت مدخلا لإجراء عدد من الإنتخابات الرئاسية والتشريعية شارك فيها عديد من الأحزاب المعارضة.
    إلا أن نتائج تلك الإنتخابات ـ التي أعلنته الحكومة ـ كانت واحدة بحيث لم تختلف نسبة فوز الحزب الحاكم مما أدى إلى فشل عملية التحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة منذ 1992م وحتى اليوم.
    ومن المؤكد أن الأمر يرجع إلى عوامل عديدة من بينها:
  • إنعدام الحريات السياسية والتنظيمية اللآزمة للعمل السياسي.
  • ضعف للبنية التنظيمية والسياسية للقوى الوطنية (المعارضة) وفقدانه لإستراتيجية موحدة لتغيير الواقع السياسي.
  • غياب الآليات القانونية المنظمة للعملية السياسية.
  • الممارسات السياسية الخاطئة الـتي تعتمد على الإقصاء والإحتكار ورفض الآخر وتهميش دور المجتمع ومنظماته المدنية في عملية البناء والتنمية.
  • الفساد السياسي والنهب للمال العام واستغلاله بطرق غير قانونية.
    مستقبل العملية السياسية:
    تعيش جيبوتي حتاياً في حالة إحتقان سياسي وإنقسام إجتماعي متزايد يلغى بظلاله على المشهد السياسي برمته نتيجة لإنسداد الأفق السياسي أمام أي حل لإنهاء الأزمة .
    وخاصة بعد فشل أعضاء اللجنة البرلمانية المشكلة من نواب المعارضة الحكومة وفي الـ30 يونيو الماضي، بتوصل إلى توافق لأقرار على تنفيذ بنود الإتفاق الإطاري الذي وقع عليه الجانبان في الـ30 ديسمبر الماضي.
    وما تبعه من تحركات سياسية وخطوات تصعيدية كان من بينها قرر التحالف من أجل الإنقاذ الوطني (المعارض) بإنسحاب من المفاوضات مع الحكومة.
    ورغم أنه لا يوجد معايير واضحة وثابتة تحكم على المشهد السياسي في البلاد إلا أن كافة المؤشرات حول مستقبل العملية السياسية لا تبشر بخير على الإطلاق.

وأعتقد أن عملية التحول الديمقراطي في البلاد ما زالت مشروعاً إفتراضياً وليس في الأفق ما يبشر بنجاحها وذلك لإنعدام الأسباب الموضوعية لتحقيقها وعدم وجود جدية سياسية حقيقية من قبل الدولة على إنجاحها.
ومع أن كافة القوى السياسية تدرك لعمق هذه الأزمة ومدى حطورتها على الأمن والإستقرار السياسي في البلاد إلا أن الجميع ما زال مختلف حول أسبابها وعلاجها
وفي الوقت الذي تؤكد القوى المعارضة بأن حراكها السياسي للتغيير السلمي مستمر وينطلق من حاجة المجتمع الملحة لإنهاء كافة الأزمات السياسية والاقتصادية والإجتماعية التي تهدد الأمن والاستقرار أكثر من أي وقت مضى.
وتؤكد كثير من قيادات المعارضة بأن جميع أزمات البلاد تكمن في النظام القائم وتركيبته الحزبية وأن زوالها مرهونة بالدرجة الأولى إلى زوال النظام القائم.
فإن الحكومة ترى من جهتها أن المشكلة تعود إلى بنية المعارضة الضعيفة وإفتقارها لمشروع سياسي وطني وبكونها جزء من الأدوات المستخدم لتنفيذ الإطماع الخارجية وإنطلاقاً من هذه (القناعة) ما زالت الحكومة تعتمد حتى الآن على الخيار الأمني لإحتواء الأزمة السياسية في البلاد.

عبد الله الفاتح

باحث وكاتب صحفي. ماجستير في الإعلام بجامعة السودان للعلوم في الخرطوم (قيد الدراسة). حاصل على دبلوم عالي في الترجمة الصحفية في أكاديمية موزايك سنتر ـ أديس وبكالورياس في الإعلام بكلية الآداب في جامعة إفريقيا العالمية بالخرطوم. يعمل محرر ومترجم في الوكالة الجيبوتية للأخبار.
زر الذهاب إلى الأعلى