عباقرة لهم أصول في منطقة القرن الإفريقي(35) الإمام جمال الدّين أبو محمد عبد الله بن يوسف الزيلعي (2)

والحديث عن الطرق والأساليب التي اتبعها جمال الدين الزيلعي لنهل العلم وعيون المعارف الاطلاع الواسع والقراءة الحرة الكثيرة ، حيث كان الحافظ جمال الدين الزيلعي يلازم مطالعة الكتب، وخاصةً كتب الحديث التي كان يميل إليها ويستريح لها. ومن خلال هذا الأسلوب الفريد استطاع أن يكتسب علوماً كثيرةً حتى تحققت هدفه في تخريج أحاديث الهداية، وكذا أحاديث الكشاف للزمخشريّ، بل واستطاع الحافظ أن يستوعب هذا الأمر من خلال المطالعة والقراءة الواسعة استيعاباً بالغاً. والحقيقة أنّ مستوى العلم الذي وصل إليه جمال الدين الزيلعي أورده بعض أهل العلم وأنّ كثيراً من أهل العلم النابغين في الفنون المتعددة –  ولاسيما الحديث وعلومهأصبحوا عالة علية، ومن بين هؤلاء الإمام الزركشيّ  الذي لم يستغن أن يعتمد على كتبه وخاصة كتابهنصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، حيث اضطر أن يعتمد عليه ويستمدّ منه معلومات حديثة في كثير من الأعلام التي وردت في الكتاب وتتعلق بتخريج أحاديث الرافعي .

ويرى بعض النقاد من المحدّثين أنّ الزيلعي كان أعلى طبقة من صديقه الحافظ العراقيّ . وإذا كان الحافظ العراقيّ اهتمّ بتخريج أحاديث كتاب أحياء علوم الدين ، فإن الحافظ جمال الدين أبي محمد عبد الله الزيلعي اهتم بتخريج أحاديث الهداية للشيخ الإمام علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني شيخ الإسلام برهان الدين المرغيانيّ العلامة المحقق .

والمعروف أنّ كلا الحافظين الجليلين كانا يطالعان كتب الحديث معاً لتحقيق هذا الغرض وهو تخريج أحاديث الكتب التي كان قد اعتنيا بتخريجها والانشغال بها، وكان فيما بينهما تعاون في سبيل إعانة بعضهم بعضاً، حيث كان كل واحد منهم يعين الآخر كما أشرنا سابقاً. ومما يؤكد المستوى العلمي الذي وصل إليه كتاب جمال الدينوهو كتابنصب الراية لتخريج أحاديث الهداية    أنّ بدر الدين عبد الله بن محمد ابن  بهادر ابن عبد الله المصريّ الزركشي الشافعي، قد استمدّ من هذا الكتاب كثيراً مما كتبه ، عندما كان يقوم الزركشيّ بتخريج بعض كتب الرافعي .

ولاشك أن ذلك يدلّ على أنّ العلماء الذين عاصروا جمال الدين الزيلعي رغم تفوقهم العلمي وقدرتهم العظيمة في  وضع الكتب وتأليفها  ، إلاّ أنّ بعضاً من هؤلاء لم يستغنوا عما كتبه الزيلعي في تخريج الأحاديث.

ولم يكن من الاعتباط أن يطلق بعض أهل العلم على الزيلعي بأنّه محدث اشتغل بالحقائق وطلبها، بل وعنى به حتى انتقى، وخرج كما أنّه ألف كتباً في هذا المجال وجمعه فيه .

ولم يكن الزركشيّ وحده الذي استمد من كتاب الزيلعينصب الراية في تخريج احاديث الهدايهوإنّماكان هناك أيضاً علماء إجلاء استفادوا من هذ الكتاب عند قيامهم بتخريج الاحاديث. ومن هؤلاء الحافظ ابن حجر العسقلاني الذي استمد في تخريجه ، بل وليس الحافظ ابن حجر العسقلاني وحده هو الذي عمل مثل هذ العمل، وإنّما هناك أيضاً أناس آخرون استعانوا  بكتب الزيلعي في تخريج الاحاديث واستفادوا منها  من بعد الحافظ ابن حجر العسقلاني، وأغلب هؤ لاء العلماء   اقتبس واستعان بخبرات الزيلعي في هذ المجال ولاسيما شراح كتاب الهدايه.

والحقيقة أنّ الحافظ ابن حجر العسقلاني استمد هذ الكتاب رغم ما ذكرناه وخاصة عند عمله في  تخريج في أحاديث كتاب (شرح الوجيز للرافعي) وغيره ، وكيف لا يثق ابن حجر العسقلاني بالزيلعي، وكان لشيخه الحافظ أبي الفضل العراقي  علاقة قوية به ، وكان بين الحافظ العراقي وبين الحافظ جمال الدين الزيلعي تعاون وتلاحم . والمعروف أن ابن حجر العسقلاني اشتهر باجتهاد كبير وحرص على العلم وحصوله ، وبرغم أنّه كان طالباً لشيخه الحافظ أبى الفصل بن حسين العراقي وأخذ عنه علوماً كثيرةً ،إلا أنه اشتغل أيضاً بكتب الزيلعي وذلك لشدة حبه للعلم واجتهاده الكبير ، كما أن ابن حجر العسقلاني لم تكن يخفى عليه أنّ الزيلعي أعلى طبقة من العراقيّ ، واتصاف الزيلعي بالأخلاق الحميدة والتواضع الجمّ ، كلمة  في تخريج الأحاديث وعلومه الأخري من معانيه وأسماء رجاله ومتونه وطرقه .

وأعتقد أن كون ابن حجر العسقلاني شافعياً لم يمنعه أن يقصد إلى كتب الزيلعي الحنفي ، ولعلّ ذلك كون الزيلعي غير متعصب لمذهبه الحنفي وتحرره عن تلك القيود، ممّا شجع طلبة العلم إلى قصده مباشرةً ، أو قصد كتبه ، وما ذلك إلاّ بسبب بُعْدِهِ عن التعصب المذهبي ، ونبوغه في الحديث وعلومه أدى إلى أن اتجهت إليه طوائف كثيرة ، يقصدون إليه لينالوا مما منّ الله عليه من العلوم ، وخاصة هؤلاء الذين يعتنون بالحديث وعلومه ، حتى كثر إقبال الطوائف عليه .

إلى جانب تفوق الإمام جمال الدين أبي محمد عبد الله الزيلعي بعلم الحديث وفنونه واشتهاره في ذلك،كان الزيلعيّ أيضاً  فقيه بارعاً له بعد نظر، حيث أدام النظر والانشغال حتى برع في ذلك .

والحقيقة أنه لم يأت من فراغ أن يصف أهل التراجم والتاريخ بأنه فقيه له دراية في هذا الفنّ، لا سيما الفقه الحنفي، ولا غرابة في ذلك، لأن شيخه الذي أخذ عنه الفقه هو العلاّمة البارع الفقيه الأصوليّ فخر الدين أبو عمرو عثمان الزيلعي صاحب كتاب : ( تبيين الحقائق ما اكتنز من الدقائق) .

والحافظ جمال الدين الزيلعي رغم أنّه كان حنفياً في المذهب يميل الي طائفة الأحناف، الاّ أنه في الوقت نفسه كان محدثاً بارعاً من أكابر المحدثين الحفاظ في علم الحديث ، لديه اطلاع واسع في فن الحديث .حيث أعطى جلّ وقته للدراسة فيه، وقراءته ، واطلاعه من معاني أسماء السند وما يتعلق بمتن  الحديث وطرقه .

والحافظ جمال الدين الزيلعي كان صوفياً يميل الي الزهد والعبادة ، بل وأشاروا الي تد ينه وزهده وتصوفه حيث كان يحبّ كثيراً في أن ينزوي في بيته ويخلو فيه. وقال الشيخ محمد أنور الكشميري ثمّ الديوبندي رحمه الله تعالى في ذلك : ” كان الحافظ جمال الدين الزيلعي من المشائخ الصوفية الذين ارتاضت نفوسهم بالمجاهدات والخلوات وفرغت قلوبهم عن الرذائل والشهوات  . ولا شكّ مثل هذا الرجل الذي زهد عن الدنيا وملذاتها، واشتهر بالتواضع وعدم حب الظهور،  وانتصار الرأي ، جدير أن يكون مرناً سمحاً بعيداً عن التعصب المذهبي، حيث كان يحشد الروايات كما كان لا يناقش ولا يجادل في كثير من المسائل الفقهية رغم مقدرته في ذلك، بل كان دأبه أن يكون متمشياً مع خصومه في المذهب ويسايرهم  ، رغم أنّه كان يقول في كتبه : “قال الخصوموذهب الخصوم إلى ..”

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى