هكذا مات صديقي!

فِتاح كان رفيق  دربي، ترعرعنا معا في حيّ من أحياء مقديشوا-عاصمة الخوف والرّعب أنذاك. كنّا نلعب ونلهوفي أزقّة حيّنا ألمأهول عشوائيّا. صديقي فِتاح حفظ القرآن على ظهر القلب. بدون أدنى فهم لمحتواه الدّقيقة وأسراره الرّفيعة. لم يلتحق بالمداس الأهليّة ألتي تديرها ألمؤسسات الدينية ألمتصارعة على حطام الفكر الديني ألضئيل ظاهرا وباطنا، لأنه كان ينتمي لعائلة تفترش الخضراء وتلتحف الغبراء، بيدأنّه درس اللغة العربية، ياليته لم يدرس!! فبدأ يقرأ الكتب الفكريّة ألتي تحمل في طيّاتها ألسّم المخلوط في الدّسم، ينهل من منابعها ألمريرة أو العذبة حسب الذّوق. فذات يوم أخذنا العزم بأن نشتري كتابا صغير الحجم ولكنه كان عظيم المضمون، كان عنوان ذالك الكتاب ” قادة الغرب يقولون دمّروا الإسلام أبيدوا أهله”، فوجدنا ذالك الكتاب بثمن زهيد، يعادل بعشر ألف شلن صومالي، فصديقي  بدأ يتصفّح ويقرأ هذا الكتاب بتمعّن وبعاطفة لامثيل لها، فبعد أسابيع قليلة، هاهو صديقي  يجهش بالبكاء، وعيناه تترقرق بالدّموع الغزيرة لهول ما قرأه في صفحات هذا الكتيب المشئوم، تغّيرت حياة صديقي، وأصبح غريب الأطوار، إنطوائيا، ومنعزلا عن مصاحبة الأصدقاء، ورافضا بمشاهدة ألعاب كرة القدم ومشاهدة الأفلام الهندية ومغازلة الحسناوات. عفا اللّحية  وقصّر الثياب، وكذالك عفا عن الناس، فبدأت أتفقّد أحواله محاولا طمأنة قلبه الهائج ونفسه الثائرة، كنت أقرأ من تجاعيد وجهه ألغضب العارم حول ماآل إليه الأمر بالمسلمين، من النّكبات والكوارث، فبدلامن أن يكفّ عن قراءة الكتب الفكريّة ألتي غسلت دماغه إلى حدّ الصفر، واصل قراءة كتب ورسائل إبن تيمية وتلميذه إبن القيم ألجوزي، مما زاد للطّين بلّة. أما أنا فكصديق كنت أبذل قصارى جهدي دائما ودومالإزاحته عن هذا الدّرب ألمحفوف بالمخاطروالشّوائب، غيرأنه أمضى قدما إلى أن بلغ درجة قصوى، لاأمل فيها ولا رجوع عنها. أمّ فِتاح كانت قلقة جدا لما يحدث لإبنها الوحيد، من الإنفعال والتوتّر النّفسي الذي يعيش به، لأنه إبتعد عن العائلة، والتحق بمعسكرات التّدريب لصالح جماعة إسلامية سريّة كانت تنظم الدورات لتشجيع الشبيبة للإنخراط في سبيل المقاومة والجهاد، كما قيل وحسب ما كان شائعا في ذاك الوقت الرّهيب. إنقطعت أواصر الصداقة بيني وبينه، لأنه يعيش في واد وأنا في واد آخر، أوبعبارة أخرى،  صديقي تمرّد، وشقّ عصا طاعة المجتمع، فسلك منعطفا خطيرا، حيث أنني كنت منسجما مع المحيط الإجتماعيّ قلبا وقالبا، هلكا أو ملكا، وهكذا تفرق الأصدقاء، وياله من فراق مؤلم!! فراق الأيديولوجيات والمفاهيم هوأنكي فراق يحدث بين الرفقاء. فبعد تدريبات عسكريّة وتمرين جسدي، صديقي فِتاح أصبح صعب المراس وقويّ الشوكة، وقنّاصا محترفا لصالح جماعة راديكالية كانت متمركزة في مقديشوا. فخلال عملية إغتيال كان ينفذها هو وزبانيته أصيب بجروح خطيرة للغاية، وعند ما سمعت ذاك الخبر المصعوق، لم أتمالك من البكاء، بدأت أكيل اللعنة تلو اللعنة لجميع تلك الكتب ألتي جعلت حياة رفيقي وأنيسي في الطفولة كريشة في مهب الرياح، إتصلت بإمه لأتعرف كيف الجو عندها، فهاهي تلطم خدها، وتصرخ قائلة “ويلي، يا ويلي” أغلقت الهاتف بسرعة، وأخذت تاكسي للوصول الى مستشفى بنادر، كانت السيارة تسيربسرعة فائقة، فعد ما وصلت قاعة المستشفى هبت عليّ روائح كريهة، وأذِبَّة  تهاجمك من كل زاوية من زوايا الغرف، لأن النظافة كانت متدنية جدا، دخلت الغرفة ألتي كان فيهاصديقي، فوجدته يئنّ ويتململ على الفراش جنبا إلى جنب لشدة الألم والجرح ألعفن، فالدماء والصديد والقيح كانت متناثرة على السرير. ياللدنيا!! دقّات قلبي تذكّرني تلك الأيام واللّيالي ألجميلة ألتي قضيناها معا، ولكن ممّازاد لوضعه الصحيّ تعقيدا، أنه لا يبدو في الأفق بريق أمل لتعافيه، فالطّبيب قال لي ذالك بصراحة. باإلهي!! صديقي على حافّة الموت، وملك الموت يطرق بابه، أراه طريحا على الفرش المهلهل، ضاقت الدنيا عليّ، يتبادر إلى ذهني ذالك اليوم ألذي ذهبنا ألى سوق بكارى لشراء ذالك الكتاب ألذي عبّد الطريق لإنهيارحياة صديقي، أشعر نوعا ما من الجريمة لأنني كنت العقل المدبّر وراء هذه الموجة من القراءة، وهل للقراءة ذنب ياترى؟!! . في نهاية المطاف، مات صديقي، ليس بإمكاني أن أقول بملء الفم “إستشهد” ربما لا يليق بها، بالنسبة إليّ هذه الكلمة وغيرها من المصطلحات ألتي عفا عليها الزّمن، هي التي أودت بحياة صديقي، شخصيا لا أجد سبباً مقنعا ومبرّرا ساريا مات في سبيله. ولكني أعضّ أصابع الندم دون أن أستطيع قولها. فصديقي ِفتاح مات ولم يستشهد. أخبرونا انه إستشهد ليعطوا فخامة وقدسية للحدث المروع وليعطوا هذا الموت المفاجئ مباركة إلهيّة. ليس هناك  بون شاسع عندي بين موته وبين من رمى نفسه من فوق ناطحات الّسحاب ليترك هذه الحياة الدنيئة. أخيرا أتمنى لصديقي أن ينهل من منابع الخمر واللبن أللذيذ ومضاجعة قاصرات الطرف في جنة النعيم. 

عبد العزيز محمد شدنى

كاتب وناقد صومالي
زر الذهاب إلى الأعلى